- هنري تايلور*
- ترجمة: نورة الجرابيع
- تحرير: المها العصفور
أنا أرى. عندما أفتح عينيّ أرى امتدادًا عشبيًا ينتهي بمقهىً خالٍ يحوي مقاعد ومناضد مرصوصة بعناية إلى جوار الباب. بعيدًا هناك، أرى مشفىً ضخمًا يلوح في الأفق. يعرض إدراكي البصري لي مجموعةً زاخرةً من الأجسام، الأشكال والألوان. ويحدث كل هذا بهذه السهولة: أفتح عيني فيظهر كل شيء فورًا كما يبدو.
القيام بكل هذا سهل للغاية، ومن السهل أيضًا اعتبار النظر عملية مباشرة، لكن بالطبع إنه ليس كذلك. في الواقع إن المشهد الحسي الذي تكوّن لدي عن العالم هو نتاج حسابات ذات مستوى هائل من التعقيد. تجمع عيناي مدخلات ضوئية، تخضع تلك المدخلات للمعالجة داخل العديد من الأنظمة المختلفة الموجودة في كل أنحاء عقلي قبل أن تظهر في إدراكي البصري. الانطباع الذي تكوّن لدي عن العالم الخارجي (العشب، المقهى، المشفى) هو نتيجة لاحقة على المدخلات التي التقطتها عيناي أولاً. نحن بالطبع غير مطلعين على تفاصيل تلك المعالجات، حيث تتم كل هذه العمليات تماماً دون وعي منا، وبطريقةٍ يتعذر فهمها على عقولنا الواعية.
يواجه علماء النفس والفلاسفة وعلماء الأعصاب تحديًا هامًا: أن يعثروا على طرق تمكنهم من تحليل طريقة عمل هذه العمليات اللاواعية. تقدم “الأوهام” فرصة قيمة لمعرفة المزيد عن هذا الأمر. يعرف الخداع البصري بأنه الحالات التي يخطئ فيها النظام البصري، نتيجة لهذا الأمر، أي أن نرى العالم بخلاف ماهو عليه في الواقع. تكشف لنا هذه الأخطاء عن لمحات مشوقة من أسرار النظام البصري. وتحملنا على التفكير في: كيف يجب أن يكون عليه الدماغ كي يخطئ في هذا الشيء تحديدًا؟ ما العملية القائمة التي تتسبب في حدوث هذا الخطأ بالذات وليس أي خطأ آخر؟
الخداع البصري المفضل لدي هو وهم تسي Tse (the Tse illusion) الموضح أدناه، سمي بهذا الاسم نسبة إلى عالم الأعصاب الأمريكي بيتر أولريك تسي.
ركز ناظريك على النقطة البيضاء الموجودة في منتصف الصورة. وبينما أنت تركز نظرك على تلك النقطة، اسمح لانتباهك بالتجول على الدوائر الكبيرة المحيطة بتلك النقطة. قد يتطلب الأمر بعض الممارسة (نحن عمومًا لم نعتد على الانتباه إلى الشيء الذي لا نوجّه إليه نظرنا) لكنك ستكتشف أن الدائرة التي تركز عليها تصبح أغمق لونًا من الدوائر الأخرى. أتذكر تمامًا أول مرة رأيت فيها هذا النوع من الخداع البصري في مؤتمر عن الانتباه. كان صادمًا، بدا الأمر وكأن انتباهي إذا انصب على شيء ما في العالم فإنه يغيّر لون سطوعه! بالطبع لم يكن هذا ماحدث. فالدوائر لم تتغير ولم تتغير ألوانها، انتباهي فقط هو ما جعلها تبدو كذلك.
لماذا يحدث هذا؟ يبدو أن للأمر ارتباط بحقيقة أن الدوائر تتداخل جزئيًا مع بعضها البعض على خلفية فاتحة اللون. (إذا وُضعت الدوائر على خلفية سوداء فإن الخداع البصري لايحدث). يدفع هذا الأمر بالنظام البصري إلى تفسير الدوائر على أنها سلسلة من الأقراص شبه الشفافة. يحاول النظام البصري حينها اكتشاف أيًّا من الأقراص هو الأعلى فوق البقية. فيما يعتبر الانتباه أحد العوامل المؤثرة في عملية التفسير هذه، للأسف لايزال الجواب مبهمًا لمعرفة لماذا يغير الانتباه سطوع أحد الدوائر دون الأخرى.
قد يبدو وهم “تسي” للوهلة الأول خدعة مسلية، لكنه يتحدى بحق أحد أعمق افتراضاتنا عن دور الانتباه في حياتنا الذهنية. لطالما اعتبرنا أن تركيز انتباهنا على شيء ما هي طريقة جيدة لمعرفة المزيد عنه. فإذا أردتم معرفة المزيد عن شيء ما، ينبغي عليكم تركيز انتباهكم عليه، ما إن تفقدوا تركيزكم، سترتكبون الأخطاء. من منطلق هذه الفكرة المنطقية، فإن الانتباه يعدّ السبيل للوصول إلى المعرفة.
لاتعتبر فكرة أن الانتباه هو السبيل إلى المعرفة جزءًا من المنطق فحسب، إنما لها تاريخ طويل في نظرية المعرفة (الدراسة الفلسفية للمعرفة). اشتهر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت من القرن السابع عشر ببحثه الجاد عن المعرفة، ويؤدي الانتباه دورا مهماً في بحثه.
يؤكد بأنه “طالما نحن نهتم بحقيقة نشعر بها بوضوح، إذن لا مجال للتشكيك بها”. تعد فكرة ديكارت صورة مطابقة للفكرة ذاتها التي تعتبر جزءًا من المنطق-أن الانتباه إلى شيء ما هو طريقة جيدة لاكتساب المعرفة عنه.
توجيه انتباهنا إلى شيء ما يظهره أكثر وضوحاً من الأشياء التي لا نوليها انتباهًا كبيرًا
لا أحد ينكر أن إيلاء انتباهنا إلى شيء ما غالبًا سيساعدنا في معرفة المزيد. من المرجح أن تتمكن من حل مشكلة حسابية حلًا صحيحًا إذا كنت تولي اهتمامك لما تقوم به. ومع ذلك، فإن وهم “تسي” يبرهن أن تركيز الانتباه لا يساعدنا دائما في الحصول على المزيد من المعرفة، بل قد يتمكن أحيانا من تحريف تصورنا عن العالم. أدى الانتباه إلى إظهار أحد الأقراص بلونٍ أغمق من البقية بينما هو في الحقيقة ليس كذلك. إذًا فهو يضللنا جديًّا. يشكل هذا الأمر مشكلة أمام حس المنطق لدينا عن الانتباه، وامام نظريات الفلاسفة مثل ديكارت. في هذه الحالة وبعيداً عن كون الانتباه هو سبيل الوصول إلى المعرفة، فإن الانتباه يجعلنا نرى الأشياء أقل وضوحًا.
يعتبر وهم “تسي” مثالاً واحداً فقط على أن للانتباه قدرةً على تضليل معرفتنا فيما يخص العالم. دليلٌ آخر وهو أن توجيه الانتباه للفراغ الواقع بين خطين سيجعل الفراغ يبدو أكبر، حيث يبدو أن توجيه انتباهنا إلى شيء ما يظهره أكثر وضوحاً من الأشياء التي لا نوليها انتباهًا كبيرًا.
للانتباه أيضًا تأثير مذهل على تصورنا للوقت، تركيز انتباهنا على حدثٍ ما يُشعرنا بأنه استغرق وقتًا أطول مما استغرقه في الواقع. تعتبر هذه الخاصية الأخيرة للانتباه هي السبب التي قد يجعل الناس يصفون الحوادث المرورية كما لو أنها حدثت بالحركة البطيئة. إذا تعرضت إلى حادث مروري، سيكون انتباهك مركزاً حينها ونتيجة لذلك ستعيش الأحداث وتشعر بأنها استغرقت وقتًا أطول مما في الواقع.
بالمجمل، فإن هذه النتائج تشير إلى أن الانتباه أحيانًا قد يضلل تصورنا عن العالم. لايعني هذا بالضرورة أن الانتباه دائمًا يحرّف معرفتنا عن العالم، لكنه قد لايكون الدليل السهل إلى المعرفة الذي ظنناه. كي نتمكن من فك لغز الرابط المعقد بين الانتباه المعرفة، فإننا قد نضطر إلى تغيير طريقة تفكيرنا في هاتين الملكتين. وبالعودة خطوة إلى الوراء، ليس مستغربًا أن يؤدي الانتباه إلى تحريف معرفتنا عن الأشياء.
مررنا جميعًا بتجربة التفكير المفرط في شيء ما. إذا كنت منغمسًا في أداء مشروع طويل ومعقد، فإنك تدرك تمامًا شعور أن توجه كل اهتمامك إلى شيء واحد، ثم ينتهي بك الأمر بإحساس مبهم أن ماتفهمه الآن هو أقل بكثير مما كنت تفهمه في بداية الأمر. أي شخص سبق وأن حضّر رسالة الدكتوراة سيفهم تماماً ما أتحدث عنه.
فكروا في المهمة التي يؤديها الانتباه في النظام البصري. يشير علماء النفس وعلماء الأعصاب عمومًا إلى أن الانتباه يتعامل مع مشكلة المصادر المحدودة. تستطيع أدمغتنا لوحدها أداء الكثير من المهام، لكنها تستقبل كم هائل من المعلومات عبر الأعضاء الحسية بحجم يفوق قدرتها على المعالجة. بالطبع ليست كل هذه المعلومات على نفس القدر من الأهمية. كي نتجنب إغراق أنفسنا في سيل المعلومات المتدفقة، نحتاج إلى تحديد ماهي الأجزاء التي ينبغي التركيز عليها فقط. هنا تكمن أهمية الانتباه: يعد هو المسؤول عن اختيار الأشياء الأكثر أهمية للتركيز عليها فقط وتصفية الضوضاء المحيطة. وبالنظر إلى الانتباه من هذه الزاوية، فإن مهمته ليستفي جعل كل شيء صحيح تماماً، ولكنها تكمن في انتقاء ما يستحق مصادرنا المعرفية المحدودة. الشيء الأكثر أهمية هو توجيه تركيزنا على أهم الأمور في أوان حدوثها. ما إن نرى الانتباه بهذا المنظور، لن نتفاجأ من كون الأمور لا تجري كلها بشكل صحيح بنسبة ١٠٠% .
إلى جانب تغيير طريقة تفكيرنا في الانتباه، قد نحتاج إلى إعادة النظر في فكرتنا عن المعرفة ذاتها. بعيدًا عن ديكارت، نجد العديد من وجهات النظر عن الرابط بين الانتباه والمعرفة التي قد تتناسب مع وهم “تسي Tse” والنتائج الأخرى الموضحة أعلاه. لطالما أصرّ بعض الفلاسفة -المعروفين بالسياقيين- على أن الانتباه الزائد يمكن أن يكون خطيرًا على المعرفة. طبقًا للسياسيين، فإننا نملك كل أنواع المعرفة خلال حياتنا اليومية، لكن ما إن نولي الكثير من الانتباه إلى مصدر معرفتنا، حتى نكتشف أن إيماننا بهذه المعرفة يتلاشى.
بالعودة على سبيل المثال إلى التجربة البصرية التي بدأنا بها: العشب، المقهى والمشفى، فإني أعتقد أن هذه التجربة البصرية تمدني بمعرفة جيدة عن العالم من حولي، إنها تخبرني أن هناك مقهى، هناك مشفى خلفه وهكذا. على الرغم من ذلك، فإنني لو فكرت مليًّا بالأمر، لبدأت التشكيك بنفسي. ماذا لو كنت أعاني من نوع من أنواع الهلوسة؟ ماذا لو لم يكن هناك مقهى؟ وأنه كان محض سراب؟ ماذا لو لم أكن أنظر من النافذة أصلا وأني كنت أحلم ؟ كلما استغرقت في هذه السيناريوهات المتضاعفة بازدياد، أدركت أن معرفتي أقل. بحسب رأي السياقيين فإن المشكلة تكمن ببساطة في أنني أفرط في التفكير بالأشياء. إذا وجهت انتباهًا بالغًا إلى كل الطرق التي قد أكون مخطئًا بشأنها من الناحية النظرية، فستختفي حتى أكثر المعارف سطحيةً. الحل المقترح يكمن في عدم إيلاء الكثير من الانتباه لهذا النوع من المخاوف.
كل هذه القضايا تثير بعض الأسئلة الحساسة. السياقيون محقون تماماً من ناحية أننا لا نرغب في الخوض عميقاً في هذا الأمر وهدر أوقاتنا قلقين بخصوص ما إذا كنا نعيش في حلم أم لا. لكن المهم للغاية هو التفكير في السبب الذي يجعلنا نعتنق بعض المعتقدات. قد يقودنا هذا الأمر إلى مراجعة آرائنا على نحوٍ مفيد ومثمر. مانحتاج إليه بحق هو طريقة تمكننا من تحديد النقطة التي يتوقف عندها الانتباه عن كونه مفيدًا للمعرفة ويصبح مشوِّهًا لحقيقة الأشياء. أنا متأكد تمامًا أن العمل على كل هذا سيكون أمرًا صعبًا، لكن ربما يكون هذا مجرد مبالغة في التفكير.
- هنري تايلور عضو في قسم الفلسفة بجامعة برمنغهام في المملكة المتحدة