عام

الابتسامة: طلاء دائم للذاكرة!

اسمي جريجوري.

أنا عجوز مسلم.

قوقازي جورجي.

تخطيتُ الـ 40 قبل 40 سنة!

ومع ذلك أبدو: ممشوق القامة، مستقيم الظهر، قوي الذاكرة.

أبرمتُ عقداً مؤبَّداً مع الابتسامة.

فيشرق وجهي بأنس أسكُبه بالمجان في قلوب الرائح والغادي.

الابتسامة طلاء دائم للذاكرة!

وهي صدقة، أليس كذلك؟

ذات يوم، قَدِم شابُ مسلم إلى قريتنا.

صلَّى في المسجد.

ألتقيتُه المغرب.

بلغتي المحلية، دعوتُه لطعام العشاء.

لم يفهم ما أقوله!

كوَّرتُ يدي، وأدخلتُها مراراً في فمي المفتوح!

فَهِم ذلك، ولكنه اعتذر!

لم أجد سبباً مقنعاً لاعتذاره.

تحدثَ معي برطانة!

تبينتُ بُعيدها أنها الإنجليزية.

نعم. إنها هي.

تذكرتُ، أنني قد تعلمتُ طرفاً منها قبل أزيد من 40 سنة.

ألححتُ عليه بإنجليزية كسول.

فجاء معي بعد العِشاء.

جاء على استحياء.

بيتي قريبُ جداً. إنه يقبع خلف المسجد.

بنحو 400 متر.

ابتلعتْ السماءُ قمرَها.

ولذا فقد أشعل إضاءة جوالِه، ليتبيَّن طريقَه.

كان يمشي خلفي بتؤدة شديدة.

كان يتجنَّب التعثرَ في الممرات المائلة.

أو السقوط في العَتبات الحجرية المبتلة.

كان يتحاشى أيضاً أن يطأ بحذائه الفاخر روثَ الأبقار.

وأما أنا فلستُ بمبالٍ بكل ذلك!

فقد حفظتُ الطريقَ عن ظهر إيمان.

إذ إنني أسلُكه كلَ يوم للصلاة في المسجد.

وصلنا البيتَ.

كانت زوجتي تُعد طعامَ العَشاء.

أخبرتُها بأننا قد ظفرنا اليومَ بضيف عربي مسلم.

هشّتْ وبشّتْ باحتشام.

واصلتْ إعداد الطعام، بهدوء وأناقة.

حفيداتي النظيفتان تلعبان بهدوء أيضاً.

رمق الشابُ البيت.

تأمَّله مليَّاً.

فوجده كوخاً خشبياً صغيراً، لا يكاد يبلغ 30 مترا.

ليس ثمة غرف مستقلة معزولة.

هي مجرد زوايا أربع.

نستر زاويةً منها بقماش مزركش.

فنحصل بذلك على بعض الخصوصية لمن ينام وراءَها!

وأما الفضاء المفتوح في بيتنا، فيحتله مطبخُ صغير متواضع.

قِوامه فرنُ حديدي يقتات على حطب نغنمه من الغابة، وَفق اشتراطات البلدية.

ولكي يدخلُ جوفَه، نقطّعه أعواداً صغيرة.

بجواره حمام صغير. حُشُّ ودُش.

بقية المكان مُعد لجلوسنا نهاراً، ولنوم أولادنا ليلاً.

“الصالة” تضم تلفازاً قديماً، وطاولة صغيرة للطعام، وللدراسة أو القراءة عليها.

أحضرتْ زوجتي الطعامَ في صينية مستطيلة، عدا عليها الزمانُ، فنقشها بألوان تبدو لنا جميلة!

طعامنا: خيار مقشور وطماطم منصوفة.

شيء من الجبن الجاف، واللَّبْنَة الرطبة.

قليل من المرُبى والخبز.

كوبين من القهوة والسكر.

لم يكن الشابُ مرتاحاً في الأكل.

جاء في بالي أن ذلك يعود  لكون أنفه قد اختنق!

نعم، اختنق برائحة روث البقر والقش، وامتزاجه مع القهوة والحليب.

قد يتساءل بعضُكم عن مصدر هذه الرائحة؟

ربما، ظننتُم أنها مُتسللة من خارج البيت.

كلا!

فالأمر ليس كذلك، فالرائحة نابعة من قعر دارنا!

نعم، دارنا نحن.

حيث تحجز الأبقارُ أسفله.

هي، تسكن معنا.

هذا نمط بيوتنا في القرية.

دوْرينْ: قبوُ لها، وعلوُّ لنا.

تساءل الشاب مُمتعضاً!

How come?

كيف تتركون البقر تسكنُ معكم؟

تركتُه لحظة!

ثم عاجلتُه بسؤال مباغت: أنتم .. هل تَدَعون صندوقَ الذهب خارج بيوتكم؟

ابتسم مُحرَجاً!

الأبقار ثروتنا يا سيدي. لا نملك غيرَها.

البرد لا يرحمها.

بعدها، أخذ يأكل بطريقة بدتْ لي أكثرَ أريحية.

أدركتُ بأن الحواس مستعدة لأن تغير إعداداتها متى غيَّرنا نحن قناعاتِنا.

الشمُّ غريزةُ، والتقززُّ ثقافة!

ساءلني الشابُ عن جوالي، فأخرجتُ له جوالاً صغيراً.

بالكاد، لا يتقن جوالي غير الاتصال المقتضب لضرورة قصوى.

أخرج لي جوالَه الكبير المذُهَّب، وجعل يُريني بجدية بالغة صوراً ومشاهد عديدة.

ابتسمتُ!

عزيزي: لستُ معنياً البتة بهذا العالَم الصاخب.

لا أريد أن أعرف عنه شيئاً.

نحن نعيش هنا بسلام يا صغيري.

والأهم، أننا نعيش بإيماننا وكرامتنا.

نتدبر حالنا. نعم نتدبر حالنا.

نعرف، كيف نستعد للشتاء القارس بالحطب والمؤن الكافية.

نجمعها طيلة الربيع والصيف، وفي أول الخريف أيضاً.

بيتي يا صغيري جيد إلى حد كبير.

فأخشابُه جيدة، وقد جددَّناها قبل 9 سنوات.

نحن نمتلك بقرتين، ولله الحمد.

ولكن، ثمة منْ يسكنُ في بيت خَرِب. أخشابه متآكلة.

لا طاقةَ لها البتة بصدّ موجات البرد.

بَلْهَ هجمات الصقيع المجمّد.

ثمة منْ لا يمتلكُ بقرةً واحدة.

حياتهم بأئسة جداً.

يحدثُ أن يموتَ بعضُهم من جراء البرد الشديد.

ولكنهم يحيَون هنا بستر الله.

هم يؤمنون بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، ويصلُّون ويصومون.

أولادنا الصغار نرسلهم للمسجد أربعة أيام أو ثلاثة.

لتعلم آداب القرآن، وحفظ شيء منه.

لا تتخيل، كمْ نفرح بالتقاطهم شيئاً من العربية، لغة القرآن!

هذا هو المهم، فالحياة أقصر من أن نطيل التشكي.

نحن بخير! ولله الحمد.

وأنتم: كيف حالكم؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى