- انتقاها: مضحي بن عبيد الشمري
انتقل الى الجزء الأولانتقل الى الجزء الثاني
الحديث التاسع عشر
عن أبي بَكرِ بنِ عبدِ الرَّحمن قالَ: كنت أنا وأبي حينَ دَخلنا عَلى عائشةَ وأُمِّ سَلمةَ فأخْبرتاهُ أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كانَ يُدْرِكُهُ الفجرُ وهو جُنُبٌ من أهْله من غير حلم في رمضان، ثمَّ يَغتسلُ ويصومُ.
وقالَ مروانُ لِعبدِ الرحمن بنِ الحارثِ: أُقْسمُ بالله لَتَقْرَعَنَّ بها أَبا هريرة، ومروان يومئذٍ على المدينة، فقال أبو بكرٍ: فَكَرهَ ذلكَ عبد الرحمن، ثمَّ قُدِّرَ لنا أنْ نَجْتَمِعَ بذي الحُلَيْفَةِ، وكانَتْ لأَبي هُريرةَ هُناكَ أرضٌ، فقالَ عبدُ الرَّحمنِ لأبي هُريرةَ: إنِّي ذاكِرٌ لكَ أمراً، ولولا مَروانُ أَقْسَمَ عَلَيَّ فيهِ لم أذْكُرْهُ لكَ، فَذَكرَ قولَ عائشةَ وَأمِّ سَلَمةَ. فقالَ: كذلكَ حَدَّثني الفضلُ بن عَبَّاسٍ، وهنَّ أعْلَمُ.
فيه فوائد:
- قال ابن بطال: أجمع فقهاءُ الأمصارِ على الأخذِ بحديثِ عائشةَ، وأمِّ سلمةَ في من أصبح جنبًا أنه يغتسلُ، ويتمُّ صومه. (شرحه 4/49). وقال ابنُ عبد البر: وقد اختلفت الآثار في هذا الباب، واختلف فيه العلماءُ أيضًا، وإن كان الاختلافُ في ذَلِكَ كله عندي ضعيفًا يشبهُ الشذوذ. (التمهيد 17/420).
- قال الخطابي: سمعتُ الحسنَ بنَ يحيى يقول: سمعتُ ابنَ المنذرِ يقول: أحسنُ ما سمعتُ في هذا أن يكون ذلك محمولًا على النسخ، وذلك أن الجماعَ كان في أولِ الإسلامِ مُحَرَّمًا على الصائمِ في الليل بعد النوم؛ كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماعَ إلى طلوعِ الفجر، جاز للجنبِ إذا أصبحَ قبل أن يغتسلَ أن يصوم ذلك اليوم= لارتفاع الحظر، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضلِ بنِ عباسٍ على الأمر الأول، ولم يعلمْ بالنسخ، فلما سمع خبرَ عائشةَ وأمِّ سلمة= صار إليه. (أعلام الحديث 2/959).
- قَوْلُهَا: “وهو جنبٌ مِنْ أَهْلِهِ” فِيهِ إزَالَةٌ لِاحْتِمَالٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الْمَنَامِ آتٍ عَلَى غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْ الْجُنُبِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ جِمَاعٍ لِيَزُولَ هَذَا الِاحْتِمَالُ. (ابن دقيق العيد – إحكام الأحكام 2/11).
- فيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يجامعُ ويؤخرُ غُسْلَه حتى يطلعَ الفجر، ليبينَ المشروعية. (القرطبي – المفهم 3/167).
- فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ مِنَ الِاهْتِبَالِ بِالْعِلْمِ وَمَسَائِلِ الدِّينِ، مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَرْوَانُ عِنْدَهُمْ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ. (ابن عبد البر – التمهيد 22/40).
- فيه دَلِيلٌ عَلَى تَذَاكُرِهِمْ بِالْعِلْمِ فِي مَجَالِسِ عُلَمَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ، وَتَحَفُّظِهِمْ لِأَقْوَالِ النَّاسِ فِيهِ. (أبو الوليد الباجي – المنتقى 2/44).
- فيه من الفقهِ أنَّ الشيء إذا نوزعَ فيه= وجبَ رَدُّهُ إلى من يُظَنُّ أن علمَهُ عندَه، لأن أزواجَ النبي أعلمُ الناس بهذا المعنى بَعْدَهُ مِنْ أَجْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ابن عبد البر – التمهيد 22/40).
- فِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فِي شَيْءٍ وَسَمِعَ خِلَافَهُ كَانَ عَلَيْهِ إِنْكَارُهُ مِنْ ثِقَةٍ سَمِعَ ذَلِكَ أو غير ثِقَة؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ خِلَافِ مَا عِنْدَهُ. (ابن عبد البر – التمهيد 22/40).
- فِيهِ أَنَّ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْكِتَابِ: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (ابن عبد البر – التمهيد 22/40).
- جاء في رواية صحيحة عند مالك في الموطأ، أن عائشة لما سمعت قولَ أبي هريرة قالت: “لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ”، قال أبو الوليد الباجي: قولُ عائشة هُوَ الْوَاجِبُ مِنْ الرَّدِّ، لَيْسَ فِيهِ أَذًى لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَا تَقْصِيرٌ عَنْ إنْكَارِ الْبَاطِلِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا عِنْدَهَا فِيهِ النَّصُّ الَّذِي لَا تَحِلُّ مُخَالَفَتُهُ. (المنتقى 2/44).
- فيه الشهادةُ على الصوت، لأن المسلمين إنما رووا عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجاب. (أبو عبد الملك البوني – تفسير الموطأ 1/422).
- فِيهِ إِثْبَاتُ الْحُجَّةِ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ سَوَاءٌ، وَأَنَّ طَرِيقَ الْإِخْبَارِ فِي هَذَا غَيْرُ طَرِيقِ الشَّهَادَاتِ. (ابن عبد البر – التمهيد 22/40).
- فيه تَرْجِيحُ مَرْوِيِّ النِّسَاءِ فِيمَا لَهُنَّ عَلَيْهِ الِاطِّلَاعُ دُونَ الرِّجَالِ= عَلَى مَرْوِيِّ الرِّجَالِ، كَعَكْسِهِ. (ابن حجر – الفتح 4/148).
- قول مروانَ لِعبدِ الرحمن بنِ الحارثِ كما في رواية مسلم: “عزمتُ عليك إلا ما ذهبتَ لأبي هريرةَ فرددتَ عليه” فيه ما يلزمُ من بيانِ العلمِ والنصيحةِ فيه، وتبليِغه من لم يبلُغْه، والاستثباتِ أيضًا؛ ليرى ما عند أبي هريرة. (القاضي عياض – إكمال المعلم 4/48).
- قول عبدِ الرَّحمن لأبي هُريرةَ: “إنِّي ذاكِرٌ لكَ أمراً، ولولا مَروانُ أَقْسَمَ عَلَيَّ فيهِ لم أذْكُرْهُ لكَ” فِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ مَعَ الْأَكَابِرِ، وَتَقْدِيمُ الِاعْتِذَارِ قَبْلَ تَبْلِيغِ مَا يَظُنُّ الْمُبَلِّغُ أَنَّ الْمُبَلَّغَ يَكْرَهُهُ. (ابن حجر – الفتح 4/145).
- في رواية الموطأ: “وَرَكِبْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَاعَةً، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ”، قال أبو الوليد الباجي: تَحَدُّثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ وَتَقْدِيمِ التَّأْنِيسِ. (المنتقى 2/45).
- فِيهِ اعْتِرَافُ الْعَالِمِ بِالْحَقِّ، وَإِنْصَافُهُ إِذَا سَمِعَ الحجة، وهكذا أهل الدين والعلم. (ابن عبد البر – التمهيد 22/41).
- قول أبي هريرة: “هنَّ أعلم” فيه أن المباشرَ للأمرِ= أعلمُ به من المخبرِ عنه، وفيه دليل على ترجيحِ روايةِ صاحبِ الخبرِ إذا عارضهُ حديثٌ آخر. (عياض – إكمال المعلم 4/49).
الحديث العشرون
عنْ عائشةَ رضيَ الله عنها قالتْ: كانَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُقَبِّلُ وَيُباشِر وهوَ صائمٌ، وكانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ، ثم ضحكت.
فيه فوائد:
- فَتْوَى عَائِشَةَ بِجَوَازِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لِكُلِّ مَنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ إِفْسَادَ صَوْمِهِ. (ابن عبد البر – التمهيد 24/266).
- قال المهلب: وكلُّ من رخصَ في المباشرةِ للصائمِ فإنما ذلك بشرطِ السلامةِ مما يُخافُ عليه من دواعي اللذةِ والشهوة، ألا ترى قولَ عائشة عن النبي عليه السلام: (وكان أملكَكُم لإربه). (نقله ابن بطال 4/52). والإرْبُ: الحاجة إلى الجماع.
- قال ابن الجوزي: اللَّمْسُ والتقبيلُ يُخَافُ مِنْهُ دُعَاءُ النَّفس إِلَى غَيره، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَالِكًا لنَفسِهِ، لَا يُمكنهَا أَن تَدعُوهُ إِلَى مَا لَا يجوز لَهُ، وَلَعَلَّه كَانَ يخْطر على قلبه عِنْد التَّقْبِيل نوعٌ من المراقبة= فَتبقى صُورَةُ التَّقْبِيل، وَيمْتَنعُ الْمخوفُ مِنْهُ. (كشف المشكل 4/317).
- فيه ردٌّ عَلَى من فَرَّقَ بين الشابِّ والشيخ؛ لأن عائشةَ إذ ذاك كانت شابة. (ابن الملقن – التوضيح 13/195).
- يُحْتَمَلُ أنها ضحكت للتعجبِ ممن خالف في هذا، وقيل: للتعجب من نفسها إذْ تُحَدِّثُ بمثل هذا الحديث، ومثله مما يُستحى من الحديثِ بمثله، لاسيما مع الرجال، ولكن تعجبت لضرورة الحال لإخبارها بذلك؛ لئلا تكتمَ عِلْمًا عَلِمَتْهُ، وقيل: سروراً بتذكرِ مكانِها من النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحالِهَا معه في ذلك، وقد يكونُ هذا الضحك خَجَلاً لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيهًا بضحكها على أنها هي صاحبةُ القصة؛ لتكون أبلغَ في الثقةِ بحديثها بذلك. (عياض – إكمال المعلم 4/44) بتصرف يسير.
- فيه جوازُ الإخبارِ عن أمثال هذا مما يكونُ بين الزوجينِ -على الجملة- لضرورةٍ تدعو إليه. (عياض – إكمال المعلم 4/45).
الحديث الحادي والعشرون
عن أبي هريرةَ رضي الله عنهُ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – قال: ” إذا نَسيَ فأَكلَ وشربَ فَليُتِمَّ صَومَهُ، فإنما أطعَمَهُ الله وسَقاهُ”.
فيه فوائد:
- قَالَ الْمُهَلَّبُ وَغَيره: لم يُذكرْ فِي الحَدِيثِ إثبات الْقَضَاء؛ فَيُحْمَلُ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ، وَإِثْبَاتِ عُذُرِهِ، وَرَفْعِ الْإِثْمِ عَنْهُ، وَبَقَاءِ نِيَّتِهِ الَّتِي بَيَّتَهَا. (فتح الباري 4/157). قلت: وفي المسألة خلاف، وما ذكره المهلبُ وغيره هو ما ذهب إليه الجمهور.
- قال ابن العطار: هذا الحديثُ وما في معناه: يدل على عدمِ وجوبِ القضاء؛ فإنه أَمَرَ بالإتمام، ولا يسمى مُتِمًّا إلا من صامَ شرعًا لا صورة، فالإتمامُ متفقٌ عليه، لكن هل يوجبُ عدمَ القضاء أم لا؟ وهو راجعٌ إلى أن اللفظَ إذا دارَ بين حملِهِ على المعنى اللغويِّ أو الشرعيِّ، فحملُهُ على الشرعيِّ أولى، إلا أن يكونَ دليلُ خارجُ يُقَوَّى به اللغوي، فيُعملُ به، ومما يدلُّ على صحةِ حملِ اللفظِ على المعنى الشرعي: قوله – صلى الله عليه وسلم -: “فإِنَّما أطعمه الله وسقاه”؛ فإن فيه إشعارًا بصحةِ الصوم؛ حيثُ إن الأكلَ والشربَ وما في معناهما ناسيًا فعلٌ صادر من فاعله، مسلوبُ الإضافةِ إليه، والحكمُ بالفطرِ يلزمه الإضافةُ إليه. (العدة 2/850).
- إنما خص الأكلَ والشرب من بين سائر المفطرات؛ لأنها أغلبُها وقوعًا، وأنهما لا يُستغنى عنهما؛ بخلافِ غيرِهما، ولأن نسيانَ الجماعِ نادرٌ بالنسبة إلى ذلك، والتخصيصُ بالغالبِ لا يقتضي مفهومًا. (الفاكهاني – رياض الأفهام 3/400).
- قوله: “فإنما أطعمه الله وسقاه” (إنما) للحصر، أي: ما أطعمه ولا سقاه أحدٌ إلا الله، فدلَّ على أن هذا النسيانَ من الله، ومن لطفِهِ في حقِّ عبادِه تيسيراً عليهم، ورفعًا للحرج. (الطيبي – الكاشف 5/1592).
- قَوْلُهُ (فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) كَأنَّ الْمُرَاد: قَطْع نِسْبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ إِلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ النِّسْيَانِ، فَلَا يُعَدُّ فِعْلُهُ: جِنَايَةً مِنْهُ عَلَى صَوْمِهِ مُفْسِدًا لَهُ. (نور الدين السندي – حاشيته على سنن ابن ماجه 1/514).
- قال ابن حجر: وَمِنَ الْمُسْتَظْرَفَاتِ مَا رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ إِنْسَانًا جَاءَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَنَسِيتُ فَطَعِمْتُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى إِنْسَانٍ فَنَسِيتُ وَطَعِمْتُ وَشَرِبْتُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، اللَّهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ. ثُمَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى آخَرَ فَنَسِيتُ فَطَعِمْتُ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أَنْت إِنْسَان لم تتعود الصّيام! (فتح الباري 4/157).
الحديث الثاني والعشرون
عن عائشةَ رضيَ الله عنها قالت: إنَّ رجلاً أتَى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقالَ: إنَّهُ احتَرَقَ. قال: “مالَكَ؟ “. قال: أَصَبْتُ أهلي في رمضانَ. فَأُتِي النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بِمِكْتَلٍ يُدعى العَرَقَ، فقال: “أَيْنَ المُحْتَرِقُ؟ “. قال: أنا، قال: “تَصَدَّقْ بهذا”.
الحديث الثالث والعشرون
عن أبيْ هُريرةَ رضيَ الله عنهُ قال: بينما نحنُ جُلوسٌ عندَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – إذ جاءَهُ رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله! هَلَكْتُ. قال “ما لَكَ؟ ما شأنك؟”. قال: وقعتُ على امْرأَتي في رمضان وأنا صائمٌ، فقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “هلْ تَجِدُ رَقَبةً تُعْتِقُها؟ “. قالَ: لا. ما أجدها. قال: “فهلْ تَسْتطيعُ أَنْ تصومَ شهرينِ مُتتابعَين؟”. قال: لا أستطيعُ. فقال: “فهلْ تجدُ إطعامَ سِتَينَ مِسكيناً؟ “. قال: لا، ما أجد. قال: “اجلس”. فجلس، فمكثَ عندَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -. فبينا نحنُ على ذلك جاءَ رجلٌ من الأَنصارِ، فأَتِى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – بعَرَقٍ فيهِ تَمرٌ،- والعَرَقُ: المِكْتَلُ – قال: “أينَ السائلُ؟ “. فقال: ها أنا ذا، قال: “خذ هذا فَتصدَّقْ بهِ، فأطعم بهذا عنك”. فقال الرَّجُلُ: عَلى أَفْقَرَ مِنِّي يا رسولَ الله! فَوَالله الذي بعثكَ بالحقِ، ما بَينَ لابَتَيها -يُريدُ الحَرَّتَينِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفقرَ من أَهْلِ بَيتي، فَضحكَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – حتى بَدَتْ أَنيابُهُ، ثُم قال: “فأنتم إذًا، اذهب فَـأَطعِمهُ أهْلَكَ”.
فيهما فوائد:
- هذا حديثٌ غزيرُ الفوائد، قال الكرماني: استنبط بعضُ العلماءِ من هذا الحديثِ ألفَ مسألةٍ وأكثر. (الكرماني – الكواكب 9/111)، وقال ابن الملقن في “التوضيح”: اعلم أن حديثَ المجامع قد أُفردَ بالتأليفِ في مجلدين. قال المحقق: ورد بهامش الأصل تعليقٌ نصه: لعزِّ الدين قاضي الأُشمونية -كذا قال شيخُنا المصنف- وقد رأيتُ أنا بالقاهرة بسوقِ الكتبِ قطعةً من الكلامِ عليه فيها ثلاثُمائةٍ وتسعةٌ وثلاثونَ فائدة، ولم ينقطع الكلام، فلم أعلم لمن هي، والظاهرُ أنها للمذكور. (التوضيح 13/276). قلت: وعز الدين هذا هو عبدُ العزيزُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الكردي، قال ابن الملقن في “العقد المذهب ص:411”: يعرف بابن خطيب الأُشمونيين، كان فاضلًا كريمًا رئيسًا ذا حشمة وافرة، دَرَّسَ وأفتى، وصنفَ على حديث المجامعِ في رمضان مجلدًا مشتملًا على ألفِ فائدةٍ وفائدة.
- قال ابن حجر: اسْتُدِلَّ بِهِ -يعني حديثَ عائشة- لِمَالِكٍ حَيْثُ جَزَمَ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ بِالْإِطْعَامِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الصِّيَامِ وَالْعِتْقِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ حَفِظَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَصَّهَا عَلَى وَجْهِهَا، وَأَوْرَدَتْهَا عَائِشَةُ مُخْتَصَرَةً أَشَارَ إِلَى هَذَا الْجَوَابِ: الطَّحَاوِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاخْتِصَارَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. (الفتح 4/162).
- قال شهاب الدينِ التُّورِبِشْتِي: الرجلُ على ما استبانَ لنا من كتبِ المعارف: هو سلمةُ بنُ صخرٍ الأنصاريُّ البياضيّ، ويقال: سليمان، وسلمةُ أصح. (الميسر في شرح مصابيح السنة 2/469)، وقال ابن الملقن: سلمةُ: أصحُّ وأشهر. (الإعلام 5/210). قال ابن عبد البر: سلمانُ وهم، وليس في الصحابةِ سلمان: إلَّا سلمانُ الفارسي، وسلمانُ بنُ عامرٍ الضبي. (الاستذكار 10/115).
- قال ابنُ المنذرِ: في قولِ الرجلِ للنبي صلى الله عليه وسلم: “احترقت”، وتركِ النبي إنكارَ ذلك عليه أبينُ البيانِ أنه كان عامدًا، لإجماعِهِم على سقوطِ المأثم عمن جامع ناسيًا. (نقله ابن بطال 4/62).
- قوله “احترقت” كَأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْإِثْمِ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ= أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ احْتَرَقَ لِذَلِكَ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لَهُ هَذَا الْوَصْفَ؛ فَقَالَ: “أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ” إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ. (ابن حجر – الفتح 4/162).
- جاء في بعض الروايات أن هذا الرجلَ قد جاء وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَدُقُّ صَدْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكَ الْأَبْعَدُ، وَلِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ: “يَلْطِمُ وَجْهَهُ”، إلى غيرِ ذلك من الروايات، قال ابن حجر: وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ هَذَا الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ مِمَّن وَقَعَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ، وَيُفَرَّقُ بِذَلِكَ بَيْنَ مُصِيبَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ فَيَجُوزُ فِي مُصِيبَةِ الدِّينِ، لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الْحَالُ مِنْ شِدَّةِ النَّدَمِ، وَصِحَّةِ الْإِقْلَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. (الفتح 4/164).
- فيه وجوبُ السؤالِ عن علمِ ما يفعلُهُ الإنسانُ مخالفًا للشريعة. (ابن العطار – العدة 2/853).
- فِيهِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ؛ كَنَشْرِ الْعِلْمِ. (ابن حجر – الفتح 4/173).
- فيه استعمالُ الكناياتِ فيما يُستقبح ظهورُهُ بصريحِ لفظه؛ كالمواقعةِ والإصابةِ ونحوِهما عن النكاح. (ابن العطار – العدة 2/854).
- قال ابن العربي: إن قيلَ: لِمَ تَرَكَهُ النّبيّ – صلّى الله عليه وسلم – دون أَدَبٍ أو تَثْرِيبٍ؟ قلنا: لأنّه جاءَ مُسْتَفْتِيًا، والشريعةُ قد قَضَتْ بالمصلحة في ذلك كلِّه، وهي رفعُ العقوبةِ والتّثريبِ على المستفتي؛ لأنّه لو فعلَ ذلك مع واحدٍ= ما جاءَ غيرُهُ بعدَهُ ولانْسَدَّ بابُ الاستفتاء، وبقي الخَلْق في ظُلْمَةِ الجَهَالَةِ والمعصية. (المسالك 4/197). قلت: وبوب عليه البخاري؛ فقال: “بابٌ من أصابَ ذنبًا دون الحد، فأخبرَ الإمامَ، فلا عقوبةَ عليه بعد التوبةِ إذا جاء مستفتيًا”.
- فيه جوازُ إظهارِ المعصيةِ لمن يرجو منه تخليصَهُ من إثمِها وعاقبتِها. (ابن العطار – العدة 2/853).
- فيه أنه سأل النبي أمام الصحابةِ، ولم يستخليه، ففيه جوازُ مثلِ هذا، ولا يُعَدُّ خلافَ الحياء.
- قال الأزهريّ: إنما قيل لمن أَعْتَقَ نسمةً: أَعْتَقَ رقبةً، وفَكَّ رقبةً، فخُصّت الرقبةُ دونَ بقيةِ الأعضاء= لأن حكمَ السيدِ، ومُلْكًهُ كالحبلِ في رقبةِ العبد، وكالْغُلِّ المانعِ له من الخروجِ عنه، فإذا أُعتق فكأنه أُطْلِقَ من ذلك. (الزاهر ص:281).
- قوله: “هل تجدُ رقبةً تعتقُها؟”، قال القرطبي: إطلاقُ الرقبةِ يقتضي جوازَ الكافرة، وهو مذهب أبي حنيفة، وجوازُ المعيبة، وهو مذهبُ داود، والجمهورُ على خلافهما؛ فإنهم شرطوا في إجزاءِ الرقبةِ: الإيمانِ، بدليلِ تقييدِها به في كفارةِ القتل، وهي مسألةُ حملِ المطلقِ على المقيد، المعروفةِ في الأصول، وبدليل: أن مقصودَ الشرعِ الأولِ بالعتقِ: تخليصُ الرِّقابِ من الرِّق؛ ليتفرغوا إلى عبادةِ الله، ولنصرِ المسلمين، وهذا المعنى مفقودٌ في حقِّ الكافر، وقد دلَّ على صحة هذا المعنى قوله في حديث السوداء: “أعتقها فإنها مؤمنة”. (المفهم 3/170).
- قوله: “فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟” هو حجةٌ للجمهورِ في اشتراطِ التتابعِ في الكفارةِ على ابن أبي ليلى؛ إذ لم يشترطه. (القرطبي – المفهم 3/170).
- قال ابن دقيق العيد: قَوْلُهُ: “فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا” لَا إشْكَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ نَفَى الِاسْتِطَاعَةَ، وَعِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ يُنْتَقَلُ إلَى الصَّوْمِ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ ” وَهَلْ أَتَيْتُ إلَّا مِنْ الصَّوْمِ؟” فَاقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ اسْتِطَاعَتِهِ، بِسَبَبِ شِدَّةِ الشَّبَقِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ فِي الصَّوْمِ عَنْ الْوِقَاعِ: فَنَشَأَ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نَظَرٌ فِي أَنَّ هَذَا: هَلْ يَكُونُ عُذْرًا مُرَخِّصًا فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، أَعْنِي شَدِيدَ الشَّبَقِ؟ قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ. (إحكام الأحكام 2/15).
- قال ابن حجر: ذُكِرَ فِي حِكْمَةِ هَذِهِ الْخِصَالِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ: أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ؛ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ بِالْمَعْصِيَةِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً فَيَفْدِيَ نَفْسَهُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُقَاصَّةِ بِجِنْسِ الْجِنَايَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شَهْرَيْنِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِمُصَابَرَةِ النَّفْسِ فِي حِفْظِ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى الْوَلَاءِ، فَلَمَّا أَفْسَدَ مِنْهُ يَوْمًا كَانَ كَمَنْ أَفْسَدَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ بِالنَّوْعِ؛ فَكُلِّفَ بِشَهْرَيْنِ مُضَاعَفَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ لِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَمُنَاسَبَتُهُ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ كُلِّ يَوْمٍ بِإِطْعَامِ مِسْكَيْنٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ جَامِعَةٌ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَحَقِّ الْأَحْرَارِ بِالْإِطْعَامِ، وَحَقِّ الْأَرِقَّاءِ بِالْإِعْتَاقِ، وَحَقِّ الْجَانِي بِثَوَابِ الِامْتِثَالِ. (الفتح 4/166).
- فيه أن كفارةَ الفطرِ في رمضانَ بالجماع: عتقُ رقبة، فإن لم يَجِدْهَا= انتقل حينئذٍ إلى صيامِ شهرينِ متتابعين؛ فإن لم يستطعْ أطعمَ ستينَ مسكينًا. (ابن هبيرة- الإفصاح 6/221)، قال ابن دقيق العيد: مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْوُجُوبِ بِالتَّرْتِيبِ فِي السُّؤَالِ، وَقَوْلُهُ أَوَّلًا “هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟” ثُمَّ رَتَّبَ الصَّوْمَ بَعْدَ الْعِتْقِ، ثُمَّ الْإِطْعَامَ بَعْدَ الصَّوْمِ. (إحكام الأحكام 2/15).
- قال ابن حجر: فِي رِوَايَة ابنِ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اجْلِسْ، فَجَلَسَ”، قَوْلُهُ: “فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ” وفِي رِوَايَةِ بن عُيَيْنَةَ: “فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ كَذَلِكَ” قَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ أَمْرِهِ لَهُ بِالْجُلُوسِ: انْتِظَارَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيُؤْتَى بِشَيْءٍ يُعِينُهُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَسْقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ بِالْعَجْزِ، وَهَذَا الثَّالِثُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ= مَا عَادَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِهَا بَعْدَ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُ الْمِكْتَلَ. (الفتح 4/168).
- قوله: “فأتي بعرقٍ فيه تمرٍ، فقال: خذ هذا فتصدق به”: فيه حجةٌ لعامة العلماء أنه مُدٌّ لكل مسكين؛ لأن العَرَقَ تقديرُه عندهم: خمسةَ عشرَ صاعاً، فتأتي قسمته على ستين، الذين أمره النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإطعامهم مُدًّا لكل مسكين، وهذا كالنص. (القاضي عياض – إكمال المعلم 4/55).
- قوله: “تصدق بهذا” فيه دليلٌ على جوازِ تكفيرِ الرجل عن غيره. (عياض – إكمال المعلم 4/56).
- فيه دلَالَةٌ على التَّمْلِيكِ الضِّمْنِيَّ، من قَوْله: “تصدق بِهَذَا”. (العيني- عمدة القاري 11/28).
- يُستنبطُ من الحديثِ أن من ادعى عُذْرًا يُسْقِطُ عنه شيئًا، أو يَفتحُ له أخذَ شيء= يُقْبلُ قوله، ولا يكلفُ إقامةَ البينةِ على ذلك، فإن هذا الرجلَ ادَّعى الفقرَ، وادعى أنه ما أصيبَ إلَّا من الصومِ. (ابن الملقن – الإعلام 5/253).
- قوله: “والله ما بين لابتيها” فِيهِ الْحَلِفُ لِتَأْكِيدِ الْكَلَامِ. (ابن حجر – الفتح 4/173) قلت: يعني: جوازَه من غير استحلاف.
- قوله: “ما بين لابتيها”: اللابةُ: الحَرَّة، وهي أرضٌ ذاتُ حجارةٍ سودٍ بين جبلين، أراد جانبي المدينة. (عياض – إكمال المعلم 4/56).
- فيه جوازُ إخبارِ الإنسانِ بناءً على الغالب، وإن لم يتيقن؛ لقول الرجل: “فما بين لابتيها أهلُ بيتٍ أحوجُ إليه منا”، وأقره النبي على ذلك، ولم يقل له: هل فتشتَ البيوتَ حتى تعلم؟! (العثيمين – شرح مسلم 5/361).
- وفيه جوازُ الحلفِ على الظنِّ الغالب. (العثيمين – شرح مسلم 5/361).
- قال المهلب: قوله عليه السلام -كما في بعض الروايات- “كُلْهُ”: دليلٌ على أنه إذا وجبت على مُعسِرٍ كفارةُ إطعام، وكان محتاجًا إلى إبقاءِ رَمَقِ نفسِهِ وأهلِهِ أن يؤثِرَهَا بذلك الإطعام، ويكونُ ذلك مجزئًا عنه على قولِ من رأى سقوطَ الكفارةِ عنه بالعُسْرة، وعلى مذهبِ الآخرين يكونُ في ذمته إلى الميسرة. (نقله ابن بطال 4/76).
- فِيهِ التَّعَاوُنُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالسَّعْيُ فِي إِخْلَاصِ الْمُسْلِمِ. (ابن حجر – الفتح 4/173).
- فيه إِعْطَاءُ الْوَاحِدِ فَوْقَ حَاجَتِهِ الرَّاهِنَةِ. (ابن حجر – الفتح 4/173).
- فيه إِعْطَاءُ الْكَفَّارَةِ أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ. (ابن حجر – الفتح 4/173).
- قِيلَ فِي ضَحِكِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِتَبَايُنِ حَالِ الْأَعْرَابِيِّ، حَيْثُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مُتَحَرِّقًا مُتَلَهِّفًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْهَلَاكِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى طَلَبِ الطَّعَامِ لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: وَقَدْ يَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوْسِعَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِطْعَامِهِ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ، وَإِحْلَالِهِ لَهُ بَعْدَ أَنْ كُلِّفَ إخْرَاجَهُ. (ابن دقيق العيد – إحكام الأحكام 2/16).
- فِيهِ الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ، وَالتَّلَطُّفُ فِي التَّعْلِيمِ، وَالتَّأَلُّفُ عَلَى الدِّينِ. (ابن حجر – الفتح 4/172).
- إنما تعرض الحديثُ للرَّجل، وسكت عن المرأة، فيؤخذ حكمُها من دليلٍ آخر، ولعله إنما سكت عنها؛ لأنها كانت غيرَ صائمة؛ لأنها طَهُرَتْ من حيضتها في أضعافِ اليوم، أو كتابية، وعلى الجملة: فحالُهَا مجهول، ولا سبيلَ إلى التحكمِ بأنها كانت مكرهةً، أو مختارةً أو غيرَ ذلك. (القرطبي – المفهم 3/172).
- قال ابن دقيق العيد: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مُفْسِدِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، لِسُكُوتِهِ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – عَنْ ذِكْرِهِ، وَبَعْضُهُمْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ أَجْزَأَهُ الشَّهْرَانِ، وَإِنْ كَفَّرَ بِغَيْرِهِ قَضَى يَوْمًا، وَالصَّحِيحُ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ لِتَقَرُّرِهِ وَظُهُورِهِ. (إحكام الأحكام 2/17).
- قال ابن عبد البر: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُجَامِعَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ عَامِدًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ حَاشَا قَتَادَةَ وَحْدَهُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمُفْطِرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لَا يَقْضِيهِ؛ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانَ عليه من رمضان لا غير، إِلَّا ابْنَ وَهْبٍ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ عَلَيْهِ يَوْمَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وطيء فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. (التمهيد 7/181).
الحديث الرابع والعشرون
عن شُعبةَ قالَ: سمعتُ ثابتاً البُنانيِّ يَسأَلُ أَنسَ بنَ مالك رضي الله عنهُ: أَكُنْتُمْ تَكرَهونَ الحِجامَة للصائمِ؟ قال: لا، إلا من أَجْلِ الضَّعفِ.
فيه فوائد:
- بوب عليه البخاري بقوله: “بابُ الحجامةِ والقيءِ للصائم”، قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: جَمَعَ بَيْنَ الْقَيْءِ وَالْحِجَامَةِ مَعَ تَغَايُرِهِمَا، وَعَادَتُهُ تَفْرِيقُ التَّرَاجِمِ إِذَا نَظَمَهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ؛ فَضْلًا عَنْ خَبَرَيْنِ، وَإِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِاتِّحَادِ مَأْخَذِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا إِخْرَاجٌ، وَالْإِخْرَاجُ لَا يقتضي الْإِفْطَار. (فتح الباري 4/174).
- قال ابن بطال: جمهورُ الصحابةِ والتابعينَ والفقهاءِ: على أن [الحجامة] لا تفطر، وروي عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنها تُفَطِّرُ الصائم، وهو قولُ الأوزاعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، واحتجوا بأحاديثِ: (أفطرَ الحاجمُ والمحجوم)، وقد صحح عليُّ بنُ المديني، والبخاري: حديثَ شدادٍ وثوبان. قال ابن القصار: وحجةُ الجماعةِ ما رواه ابنُ عباسٍ: أن النبيَّ عليه السلام احتجم وهو صائمٌ، واحتجم وهو محرم. فإن صح حديثُهُم، فحديثُ ابنِ عباس ناسخٌ له، لأن في حديث شداد بن أوس أن النبيَّ عليه السلام قال عام الفتح في رمضان لرجل كان يحتجم: “أفطر الحاجم والمحجوم”، والفتحُ كان في سنةِ ثمان، وحجةُ الوداعِ كانت في سنةِ عشر، فخبرُ ابنِ عباسٍ متأخرٌ ينسخُ المتقدم. (شرحه 4/81). قلت: ثم نقل ابنُ بطالٍ بعضَ الاعتراضات على هذا وأجاب عنها، وقد روى النسائي وغيره عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: “رُخِّصَ للصائمِ في الحجامةِ والقبلة”. قال زينُ الدين الحازمي: وَالْغَالِبُ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ النَّهْيِ. (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ ص:141). والخلاف في المسألةِ وتفاصيلِها يطول.
الحديث الخامس والعشرون
عن عبد الله بنِ أَبي أوفى رضي الله عنهُ قال: كنا مع رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – في سفرٍ، وهو صائم، فلما غَرَبَتِ الشمسُ قال لرجل: “يا فُلان! قُمْ، انزل فَاجْدَحْ لي”، فقالَ: يا رسولَ الله! الشمس، لو أَمْسَيتَ! قالَ: “انْزِلْ فاجدَحْ لي”، قال: يا رسولَ الله! الشمس، لو انتظرت حتى تمسي! قال: “انْزِلْ فَاجْدَحْ لي”. قال: إنَّ عليكَ نهاراً، قال: “انْزلْ فَاجْدَحْ لناْ”. فنزلَ فجدحَ له في الثالثة، فشربَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – [ثمَّ رمى بيده هُنا قِبَل المشْرِق ثم قال: “إذا رأَيتُمُ الليلَ قدْ أَقبلَ من ها هُنا؟ فقدْ أَفطرَ الصَّائمُ”.
فيه فوائد:
- ذكره البخاري في مواضع، قال في أولها: “بابُ الصومِ في السفر والإفطار”، مما يدل على جواز هذا وهذا في السفر، قال النووي: فيه جَوَازُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، وَتَفْضِيلُهُ عَلَى الْفِطْرِ؛ لِمَنْ لَا تَلْحَقُهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ. (شرح مسلم 7/211).
- فيه تعجيل الإفطار كما بوب عليه البخاري بقوله: “باب تعجيل الإفطار” قال المهلب: إنما حضَّ عليه السلام على تعجيلِ الفطرِ لئلا يُزَادَ في النهارِ ساعةً من الليل، فيكونُ ذلك زيادةً في فروضِ الله، ولأن ذلكَ أرفقُ بالصائم، وأقوى له على الصيام. (نقله ابن بطال في شرحه 4/104).
- الجدحُ: أَن يُخَاضَ السويقُ بِالْمَاءِ، ويحركَ بالمجدح، والمجدحُ خَشَبَةٌ لَهَا ثَلَاثُ جَوَانِب. (ابن الجوزي – كشف المشكل 2/217).
- فيه أَنَّ الْفِطْرَ عَلَى التَّمْرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَوْ تَرَكَهُ جَازَ. (النووي – شرح مسلم 7/211).
- قوله عليه السلام: “فاجدح لنا، قال: يا رسول الله لو أمسيت، ثلاثًا” فيه من الفقهِ أن الناسَ سِرَاعٌ إلى إنكارِ ما يجهلون، كما فعل خادمُ النبيِّ عليه السلام حين توقَّفَ عن إنفاذِ أمرِهِ لِمَا جهله من الدليل الذى عَلِمَهُ النبيُّ عليه السلام. (ابن بطال- شرحه 4/103).
- فيه أن الجاهلَ بالشيءِ ينبغي أن يُسْمَحَ له فيه المرةَ والثانية، وتكونُ الثالثةُ فاصلةً بينه وبين معلمه. (ابن بطال- شرحه 4/103).
- ليس في قولِ الرجلِ هذا مخالفةٌ لأمرُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا معارضة، بل قصدَ التنبيهَ على بقيةِ الوقت عنده، وظهورِ الحُمْرَةِ التي ظَنَّ أن النبيَّ – عليه السلام – لم يَرَهَا، أو [أرادَ] التثبتَ والتعليم؛ ليُبَيِّنَ له أن مثلَ هذا من بقايا شعاعِ الشمس، وما بعد مغيبِهَا لا يُلْتَفَتُ إليه. (ابن بطال – شرحه 4/37).
- فيه تَذْكِيرُ الْعَالِمِ مَا يُخَافُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَهُ. (النووي – شرح مسلم 7/211).
- قال ابن حجر: قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا جَوَازُ الِاسْتِفْسَارِ عَنِ الظَّوَاهِرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ إِمْرَارَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا. وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابِيَّ عَلَى تَرْكِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الِامْتِثَالِ. (الفتح 4/197).
- فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الزَّجْرِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الْفِطْرَ عَنِ الْغُرُوبِ. (ابن حجر – الفتح 4/198).
الحديث السادس والعشرون
عن عائشة رضيَ الله عنها زوجِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، أَنَّ حمزَةَ بنَ عَمْروٍ الأَسْلَمِيَّ قالَ للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: يا رسولَ الله! إنِّي أَسْرُدُ الصَّومَ، أَأَصُومُ في السَّفَرِ؟ وكانَ كثيرَ الصِّيامِ، فقالَ: “إنْ شِئتَ فَصُمْ، وإنْ شِئْتَ فأَفْطِر”.
فيه فوائد:
- قال ابن المنذر: في هذا الحديثِ من الفقه: تخييرُ الصائمِ في الصيامِ في السفرِ أو الفطر، وفيه دليلٌ أن أمرَهُ تعالى للمسافرِ بعدةٍ من أيامٍ أخر= إنما هو لمن أفطر، لا أن عليه أن يفطرَ ويقضي. (نقله ابن بطال في شرحه 4/84).
- قال ابن العطار: لم ينكرْ عليه [سردَ الصوم]، بل أقره عليه، وأذنَ له فيه في السفر، ففي الحضرِ أولى، فحينئذٍ يُحْتَاجُ الجوابُ عن حديث عبدِ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاص – رضي الله عنه – في إنكارِ النَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – صومَ الدهر، وقولُه – صلى الله عليه وسلم -: في صوم يوم وفطرِ يوم: “لا أفضلَ من ذلك”. والجواب عن الإنكار: أنه – صلى الله عليه وسلم – علم منه أنه سيضعُفُ عنه، وهكذا جرى، فإنه ضَعُفَ في آخرِ عُمره، وكان يقول: يا ليتني قبلتُ رخصةَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم. (العدة 2/863).
الحديث السابع والعشرون
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضى الله عنهما – أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ؛ وهو يَصُومُ وَيَصُومُونَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ -وَهْوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ- فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ؛ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ، أَوْ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَرفعَهُ إلى يده، فشَرِبَه نهاراً؛ ليُريَهُ الناسَ، فـأفْطَرَ حتى قدم مكة، فَلَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ، فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ: أَفْطِرُوا، فأفْطَرَ النَّاسُ، فكانَ ابنُ عباسٍ يقولُ: قد صامَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – في السفرِ وأفطَرَ، فمَن شاءَ صامَ، ومَن شاءَ أفطَرَ.
فيه فوائد:
- قال القابسيّ رحمه الله: هذا الحديث من مرسلاتِ الصحابة – رضي الله عنهم -؛ لأن ابنَ عباسٍ – رضي الله عنه – كان في هذه السفرةِ مقيمًا مع أبويه بمكة، فلم يشاهد هذه القصّة، فكأنه سمعها من غيره من “الصحابة”. (فتح الباري 4/181).
- الكديد: عَيْنٌ جَارِيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَبْعُ مَرَاحِلَ أَوْ نَحْوُهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ قَرِيبٌ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ، وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ عُسْفَانَ. انتهى (النووي – شرح مسلم 7/230). تعرف اليوم باسم «الحمض» : أرض بين عسفان وخليص على مسافة (90) كيلا من مكة، على طريق المدينة. (المعالم الأثيرة ص231).
- قال ابن حجر في مسألة التفضيل بين الصومِ والفطرِ في السفر: الْحَاصِلُ أَنَّ الصَّوْمَ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ، وَالْفِطْرُ لِمَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ أَعْرَضَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَشَقَّةَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ. (فتح الباري 4/183).
- فيه: دلالةٌ لما ترجم له إشارةً بقوله: “بابٌ إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر”، وهو أن المسافر يصوم بعضَ رمضانَ دونَ بعض، ولا يلزمُهُ بصومِ بعضِهِ الدوامُ عليه، ففيه ردٌّ على من قال: من أدركه رمضانُ وهو مسافرٌ فعدةٌ من أيامٍ أُخَر، ومن أدركه حاضرًا فليصمه. (ابن الملقن – التوضيح 13/333).
- بوب عليه البخاري في أحد المواضع بقوله: “بَابٌ مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ”، قال ابن حجر: أَيْ: إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ الْفِطْرِ لَا تَخْتَصُّ بِمَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، أَوْ خَشِيَ الْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ، أَوْ ظُنَّ بِهِ الرَّغْبَةُ عَنِ الرُّخْصَةِ، بَلْ يُلْحَقُ بِذَلِكَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ؛ لِيُتَابِعَهُ مَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَيَكُونُ الْفِطْرُ فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَفْضَلَ، لِفَضِيلَةِ الْبَيَانِ. (الفتح 4/187).
الحديث الثامن والعشرون
عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – في بعضِ أسْفارهِ في يوم حارٍّ، حتى يَضعَ الرجلُ يده على رأسهِ من شدَّةِ الحَرِّ، وما فينا صائمٌ إلاَّ ما كان من النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وابنِ رواحَةَ.
فيه فوائد:
- هذا الحديث: روته أم الدرداء عن أبي الدرداء، وهي أمّ الدرداءِ الصغرى: هجيمة ويقال: جهيمةُ بنتُ حُييٍّ الأوصابية، وقيل: الوصَّابية، فلأبي الدرداء -رضي الله عنه- امرأتان كِلتاهُما يقال لها: أمُّ الدرداء، إحداهما رأت النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهي الكبرى، واسمها: خَيْرَة بنتُ أبي حدرد، وماتت قبل أبي الدرداء.
- فيه دليلٌ على أن لا كراهيةَ في الصومِ في السفرِ لمن قَوِي عليه، ولم يُصِبه منه مشقةٌ شديدةٌ. (ابن حجر – الفتح 4/182).
الحديث التاسع والعشرون
عن جابرِ بنِ عبدِ الله رضيَ الله عنهما قال: كان رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – في سفرٍ فرأَى زِحَاماً ورجُلاً قدْ ظُلِّلَ عَليهِ، فقالَ: “ما هذا؟ “. فقالوا: صائمٌ، فقال: “ليسَ منَ البِرِّ الصَّومُ في السَّفَرِ”.
فيه فوائد:
- قال ابن الملقن: إن احتجَّ ظاهريٌّ نخعيٌّ به، فقال: ما لم يكن من البر فهو من الإثم، فدل أن صيامه لا يجزئ في السفر. فجوابه أن لفظَهُ خرج على شيءٍ معين كما سبق في الحديث، ومعناه: ليس من البر أن يبلغَ الإنسانُ بنفسه هذا المبلغ. (التوضيح 13/341). قلت يعني بالظاهري: أهلَ الظاهر، ويعني بالنخعي: إبراهيمَ النخعي، وذلك لأنهما يبطلان صومَ المسافر.
- قال ابن حجر في (التلخيص الحبير 2/393): فائدة: رواه أحمدُ من حديثِ كعبِ بن عاصم الأشعري بلفظ: “ليس من امبر امصيام امسفر”، قال: وهذه لغةٌ لبعضِ أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميمًا، ويحتمل أن يكونَ النبي – صلى الله عليه وسلم – خاطبَ بها هذا الأشعري كذلك: لأنها لغته، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ الأشعريُّ هذا نطق بها على ما أَلِفَ من لغته، فحملها عنه الراوي عنه، وأداها باللفظ الذي سمعها به، وهذا الثاني أوجه عندي.
الحديث الثلاثون
عن أَنسِ بنِ مالكٍ قال: كنَّا نُسافرُ مع النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، فَلمْ يَعِبِ الصائمُ على المُفْطِرِ، ولا المفطرُ على الصائمِ.
فيه فوائد:
- هذا حجةٌ على من زعمَ أن الصائمَ في السفرِ لا يجزئُهُ صومُه، لأن ترَكَهُمْ لإنكار الصومِ والفطر= يدل على أن ذلك عندهم من المتعارفِ المشهورِ الذي تجبُ الحجةُ به. (ابن بطال – شرحه 4/88).
- فيه أن من فعلَ شيئًا مما شرعه الله عز وجل لا ينبغي للآخرينَ أن يعيبوا عليه، وإن كانوا يرونَهُ خلافَ الأولى. (محمد بن علي الإثيوبي – البحر المحيط الثجاج 21/114).
الحديث الحادي والثلاثون
عنِ ابنِ عُمرَ رضيَ الله عنهُما [أَنَّهُ 5/ 155] قَرأ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: هيَ مَنسوخَةٌ.
فيه فوائد:
- قال ابن بطال: اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فروي عن ابنِ عباسٍ، وعكرمةَ، وسعيدِ بن جبيرٍ، ومجاهدٍ أنهم قرءوها: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطوَّقُونَهُ)، قال: على الذين يَحْمِلُونَهُ ولا يطيقونه: فدية، فعلى هذا تكون الآيةُ محكمةً غيرَ منسوخة، يعني: في الشيخِ والحاملِ والمرضعِ، قال أبو عبيد: وهو قول حسن، ولكن الناس ليسوا عليه، لأن الذي ثبت بين اللوحين في مصاحف أهلِ الحجازِ والشامِ والعراقِ: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)، ولا تكونُ الآيةُ على هذا اللفظِ إلا منسوخة، روي ذلك عن ابنِ عباسٍ وسلمةَ بنِ الأكوعِ، وابنِ عمرَ، وابنِ أبي ليلى، وعلقمةَ، فتفرقَ الناسُ في ناسخِ هذه الآيةِ ومنسوخِهَا على أربعِ منازل، لكلِّ واحدةٍ منهن حكمٌ سوى حُكْمِ الأخرى، فالفرقةُ الأولى منهم: وهم الأصحاء، ففرضهم الصيام، لا يجزئهم غيره، لَزِمَهُمْ ذلك بالآيةِ المحكمة، وهي قوله: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] . والثانية: هم مُخَيَّرُونَ بين الإفطارِ والصيام، ثم عليهمُ القضاءُ بعدَ ذلك، ولا إطعامَ عليهم، وهم المسافرونَ والمرضى بقوله: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184]. والثالثة: هم الذين لهم الرخصةُ في الإطعامِ، ولا قضاءَ عليهم، وهم الشيوخُ الذينَ لا يطيقونَ الصيام. والرابعة: هم الذين اختلفَ العلماءُ فيهم بين القضاءِ والإطعام. وبكل ذلك قد جاء تأويل القرآن، وأفتت به الفقهاء. (شرحه 4/92).
- فيه التدرّجُ في تشريعِ الصومِ= تسهيلًا على المكلّفين. (محمد بن علي الإثيوبي – البحر المحيط 21/292).
الحديث الثاني والثلاثون
عن عائشةَ رضيَ الله عنها قالتْ: كانَ يكونُ عليَّ الصَّومُ من رمضانَ، فما أسْتطيعُ أنْ أَقْضِيَ إلا في شعبانَ. قال يحيى: الشُّغلُ مِنَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، أَوْ بالنَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم .
فيه فوائد:
- فيه دَلِيلٌ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَالرُّخْصَةِ فِي تَأْخِيرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَعْبَانَ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي ذَلِكَ. (ابن عبد البر – التمهيد 23/149).
- ظَاهِرُ صَنِيعِ عَائِشَةَ يَقْتَضِي إِيثَارَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْقَضَاءِ، لَوْلَا مَا مَنَعَهَا مِنَ الشُّغْلِ؛ فَيُشْعِرُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَنْبَغِي لَهُ التَّأْخِيرُ. (الزين بن المنير – نقله ابن حجر في الفتح 4/189).
- قال البخاري بعده: “قَالَ يَحْيَى: الشُّغْلُ مِنَ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، ويحيى هو ابنُ أبي كثير، قال ابن الجوزي: دلّ هَذَا على أَن حقَّ الزَّوْجِ مقدمٌ على كلِّ شَيْءٍ مَا خلا الْفَرَائِض. (كشف المشكل 4/352).
- قال ابن العطار: لا شكَّ أنَّ نساءَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – كُنَّ يهيِّئنَ أنفسهنَّ لرسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، يَتَرَصَّدْنَ لاستمتاعه في جميع أوقاتِهِنَّ إن أراد ذلك، ولا تدري كلُّ واحدةٍ منهنَّ متى يريدُ حاجَتَهُ – صلى الله عليه وسلم – منها، ولم تستأذِنْهُ في الصومِ مخافةَ أن يأذنَ؛ فتكونَ له حاجةٌ فيها، فَتُفَوِّتُهَا عليه، وهذا من الأدب. (العدة 2/874).
- قال الأشرف الفقاعي: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومُ كلَّ شعبانَ على ما روي “أنه كان يصوم شعبان إلا قليلًا” فلا يَشتغلُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بها، فتتفرغُ عائشةُ في شعبانَ لقضاءِ ما عليها من رمضان. (نقله عنه الطيبي في الكاشف 5/1601). قلتُ: والفقاعي هو إسماعيلُ بنُ محمدِ بنِ إسماعيلَ بنِ عبدِ الملكِ بنِ عمرَ الفقاعي.
- يستفادُ منه أن المرأةَ لا تصومُ القضاءَ وزوجُها شاهدٌ إلَّا بإذنه؛ إلَّا أن تخافَ الفواتَ= فيتعين، وهو مذهب الشافعي. (ابن الملقن – الإعلام 5/288).
الحديث الثالث والثلاثون
عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “من ماتَ وعليهِ صيامٌ، صامَ عنهُ وليُّهُ”.
فيه فوائد:
- قال النوويّ رحمه الله: الْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ الْقَرِيبُ سَوَاءٌ كَانَ عَصَبَةً أَوْ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُمَا وَقِيلَ الْمُرَادُ الْوَارِثُ وَقِيلَ الْعَصَبَةُ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. (شرح مسلم 8/26).
- قال النووي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَاجِبٌ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ قَضَاءٌ، أَوْ نَذْرٌ، أَوْ غَيْرُهُ، هَلْ يُقْضَى عَنْهُ؟ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ: أَشْهَرُهُمَا لَا يُصَامُ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ مَيِّتٍ صَوْمٌ أَصْلًا، وَالثَّانِي يُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، وَيَصِحُّ صَوْمُهُ عَنْهُ، وَيَبْرَأُ بِهِ الْمَيِّتُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِطْعَامٍ عَنْهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابِنَا الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ؛ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ. (النووي – شرح مسلم 8/25).
- قال ابن حجر: قَوْلُهُ “صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ” خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، تَقْدِيرُهُ “فَلْيَصُمْ عَنْهُ وَلِيُّهُ”، وَلَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ -قلت: يعني جمهورَ المجيزين-، وَبَالَغَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُ فَادَّعَوُا الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَوْجَبَهُ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ عَلَى قَاعِدَتِهِ. (الفتح 4/193).
- فيه العمومُ في الصومِ الَّذي يُصامُ عن الميِّت، من غير تخصيصٍ بنذر، وقد ورد في بعضِ الأحاديثِ ما يقتضي الإذنَ في الصومِ عمَّن مات وعليه نذرُ لصوم، وليس ذلك بمقتضٍ لتخصيصِ صورة النذر. (ابن العطار – العدة 2/877).
- قال ابن دقيق العيد: قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَا يَصُومُ عَنْهُ الْأَجْنَبِيُّ، إمَّا لِأَجْلِ التَّخْصِيصِ، مَعَ مُنَاسَبَةِ الْوِلَايَةِ لِذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْأَصْلَ: عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا يَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ، فَلَا تَدْخُلُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَوَازِ النِّيَابَةِ: وَجَبَ أَنْ يُقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَجْرِي فِي الْبَاقِي عَلَى الْقِيَاسِ. (إحكام الأحكام 2/24).
الحديث الرابع والثلاثون
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: جاءَ (وفي روايةٍ: امرأَةٌ) إلى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – فقالَ: يا رسولَ الله! إنَّ أُمِّي (وفي رواية: أُختي) مَاتتْ وعليها صومُ شهرٍ، (وفيها: صومُ نَذر)، (وفي رواية ثالثةٍ: صومُ خمسة عشر يوماً) فأَقضيهِ عنها؟ فقال: “نعمْ”؟ قال: ” فَدَينُ الله أَحَقُّ أَنْ يُقضى”.
فيه فوائد:
- في بعض الروايات أن السائلة إنما هي امرأة، وقد سمع ابنُ عباسٍ سؤالها، ففيه جَوَازُ سَمَاعِ كَلَامِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي الِاسْتِفْتَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ. (النووي – شرح مسلم 8/26).
- فيه صِحَّةُ الْقِيَاسِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ. (النووي – شرح مسلم 8/26). وقال ابن القيم: تضمنَ هذا الحديثُ بيانَ قياس الأوْلى وأن دَيْنَ المخلوقِ إذا كان يقبل الوفاءَ مع شُحِّهِ وضيقه= فدَيْنُ الواسعِ الكريمِ تعالى أحقُّ بأن يَقْبَلَ الوفاء، ففي هذا أن الحكمَ إذا ثَبَتَ في مَحَلٍّ لأمرٍ، وثمَّ محلٌّ آخَر أولى بذلك الحكمِ، فهو أولى بثبُوته فيِه، ومقصودُ الشارِع في ذلك التنبيهُ على المعاني والأوصافِ المقتضيَةِ لشَرْعِ الحُكْمِ والعِلل المؤثِّرة، وإلا فما الفائدةُ في ذكر ذلكَ والحُكْمُ ثابتٌ بمجرَّد قوله؟! (بدائع الفوائد 4/1538).
- فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ “إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَدَيْنٌ لِآدَمِيٍّ وَضَاقَ مَالُهُ= قُدِّمَ دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى”؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ. (النووي – شرح مسلم 8/27).
- فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ إِذَا كَانَ مُخْتَصَرًا وَاضِحًا، وَبِالسَّائِلِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، أَوْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسَ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ. (النووي – شرح مسلم 8/27).
- فيه تقريبُ العلمِ إلى أذهانِ السائلين، بعبارةٍ مفهومةٍ عندهم؛ ليكونَ أقربَ إلى سرعةِ فهمهم. (ابن العطار – العدة 2/882).
الحديث الخامس والثلاثون
عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنهُ قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “إذا أَقْبلَ اللَّيلُ من ها هُنا، وأَدْبَرَ النهارُ من ها هُنا، وغَرَبَت الشَّمْسُ؛ فقدْ أَفْطرَ الصائم”.
فيه فوائد:
- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ” هذه الثلاثةُ الأمورُ: متلازمة؛ إذا حصلَ الواحدُ منها حصل سائِرُهَا، وإنما جمعها في الذِّكْرِ -والله أعلم-؛ لأن الناظرَ قد لا يرى عينَ غروبِ الشمسِ لحائل، ويرى ظلمةَ الليلِ في المشرق، فيحلُّ له إذ ذاك الفطر، وإقبالُ الليل: إقبالُ ظُلمتِهِ. وإدبارُ النهار: إدبارُ ضوئِهِ. ومجموعُهُمَا: إنما يحصلُ بغروبِ الشمس. (المفهم 3/158).
- قال ابن هبيرة: فيه من الفقهِ أنَّ الصومَ هو حكمٌ مؤقتٌ بأولٍ وآخر، فإذا انتهى إلى وقتِهِ زال حُكْمُهُ، فإن أَخَّرَ أحدٌ إفطارَهُ فقد أعلمَهُ هذا الحديث: أن اللهَ غيرُ مُعْتَدٍّ له بصيامٍ بعد غروبِ الشمس؛ لأن وقتَ حُكْمِ الصيامِ قد زال، وهذا مما يكونُ داعيًا إلى تعجيلِ الفطر. (الإفصاح 1/135).
- قال ابن الجوزي: في معنى “فقد أفطر” قَولَانِ: أَحدُهُمَا: فقد دخلَ وَقتُ الفِطْرِ، وَجَاز لَهُ، وَالثَّانِي: فقد صَارَ في حكمِ الْمُفطر وَإن لم يَأْكُل. (كشف المشكل 1/84). قال الفاكهاني: فالغروبُ على الأول عَلَمٌ على حِلِّ الإفطار، وعلى الثاني يؤخذُ منه استحالةُ الإمساكِ الشرعيِّ ليلًا. (رياض الأفهام 3/452) بتصرف يسير. وقال ابن خزيمة بعد إخراجه في صحيحه (3/273): أي: فليفطر الصائم، إذ قد حَلَّ له الإفطار، ولو كان معنى هذه اللفظةَ: معنى لفظِهِ= كان جميعُ الصوامِ فِطْرُهُم وقتًا واحدًا، ولم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر”، ولقوله: “لا يزال الدين ظاهرًا ما عَجَّلَ الناس الفطر” معنى.
- فيه الرَّدُّ على أهلِ الكتابِ وغيرِهِم من المتشيعةِ الذين قالوا: لا يُفْطِر حتَّى تظهرَ النجوم. (ابن العطار – العدة 2/884).
- فيه أنَّ الأمرَ الشرعيَّ أبلغُ من الحِسِّي، وأنَّ العقلَ لا يقضي على الشَّرع، بل الشَّرعُ قاضٍ عليه؛ حيث جعلَ دخول اللَّيلِ فِطْرًا شرعًا. (ابن العطار – العدة 2/885).
- لطيفة: قال القاضي ابنُ العربي في (القبس ص: 479): وقعتْ ببغدادَ نازلةٌ تتعلقُ بهذا الحديث؛ وذلك أن رجلاً قال -وهو صائم-: امْرَأَتي طَالِق إِن أفطرت على حَارٍّ أَو بَارِد! فَرُفِعَت الْمَسْأَلَةُ إِلَى أبي نصرِ بنِ الصّباغ إِمَامِ الشَّافِعِيَّةِ بالجانبِ الغربي؛ فَقَالَ: هُوَ حانثٌ، إِذْ لَا بُد من الْفِطْرِ على أحد هذَيْن، وَرفعت الْمَسْأَلَةُ إِلَى أبي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيّ بِالْمَدْرَسَةِ؛ فَقَالَ: لَا حِنْثَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قد أفطر على غير هذَيْن، وَهُوَ دُخُول اللَّيْل؛ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وسَاقَ الحَدِيث إِلَى “فقد أفطر الصَّائِم”. قال ابن العربي: فتوى ابنِ الصباغ= أشبهُ بمذهبِ مالكٍ في تعليقِ الأيمانِ بالمقاصد، وفتوى أبي إسحاقَ الشيرازي: صريحُ مذهبِ الشافعي، فإنه يُعَلِّقُهَا بالألفاظ، ولا يلتفتُ إلى المقاصد.
الحديث السادس والثلاثون
عن سهل بنِ سَعدٍ أَنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يزالُ النَّاسُ بِخَيرٍ ما عَجَّلوا الفِطْرَ”.
فيه فوائد:
- قال ابن الجوزي: لِأَن إِلْزَامَ النَّفسِ مَا لَا يلْزمُ شرعًا= ابتداعٌ يُخَافُ مِنْهُ الزيغ، كَمَا ابتدعَ أهلُ الْكتابِ فِي دينهم فزاغوا، وشددوا فَشدد اللهُ عَلَيْهِم. (كشف المشكل 2/271).
- فيه مِنَ الفِقْه: أَنَّ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ ما حَدَّ اللهُ لَهُ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ، وفِيما بَيَّنَهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: كَانَ بِخَيْرٍ مِنْ دُنْيَاهُ، واسْتَوْجَبَ الأَجْرَ على ذَلِكَ مِنْ رَبّه في آخِرَتِهِ. (أبو المطرف القنازعي – تفسير الموطأ 1/284).
- قال المهلب: إنما حضَّ عليه السلام على تعجيلِ الفطر= لئلا يُزادَ في النهارِ ساعةً من الليل، فيكونَ ذلك زيادةً في فروضِ الله، ولأن ذلك أرفقُ بالصائم، وأقوى له على الصيام. (نقله ابن بطال في شرحه 4/104).
- فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُتَشَيِّعَةِ، الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ إلَى ظُهُورِ النَّجْمِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِ النَّاسِ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَخَّرُوهُ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي فِعْلٍ خِلَافِ السُّنَّةِ، وَلَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا فَعَلُوا السُّنَّةَ. (ابن دقيق العيد – إحكام الأحكام 2/26).
الحديث السابع والثلاثون
عن أَسماءَ بنْتِ أَبي بكرٍ رضي الله عنهما قالتْ: أَفْطرنا على عهدِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – يومَ غيمٍ، ثُمَّ طَلعتِ الشَّمسُ. قيلَ لِهشامٍ: فَأُمِروا بالقضاءِ؟ قالَ: بُدٌّ من قضاءٍ؟
وقالَ مَعْمَرٌ: سمعت هِشاماً: لا أَدْري أَقَضَوْا أَمْ لا؟
فيه فوائد:
- قال ابنُ الملقن: جمهورُ العلماءِ يقولون بالقضاء في هذِه المسألة. ثم قال: وحجةُ من أوجبَ القضاءَ: إجماعُ العلماءِ على أنه لو غُمَّ هلالُ رمضانَ فأفطروا، ثم قامت البينةُ برؤيةِ الهلال= أنَّ عليهم القضاء، بعد إتمامِ صيامهم، ومن حجتهم أيضًا قولُه تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، ومن أفطر ثم طلعت الشمسُ: فلم يتمَّ الصيامَ إلى الليلِ كما أمره الله؛ فعليه القضاءُ من أيامٍ أُخَرَ بنصِّ القرآن. (التوضيح 13/410). قلت: وتفاصيل المسألة مذكورةٌ في كتبِ الفقه، وقد قال ابنُ حجر هنا: وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ فَلَا يُحْفَظُ فِيهِ إِثْبَاتُ الْقضَاءِ وَلَا نَفْيُهُ. (الفتح 4/200).
- قال ابن المنيِّر: والحكمةُ في اتفاقِ هذا في زمنِهِ -عليه السلام- أن لا يكونَ للشيطانِ على الناسِ سبيلٌ في تقنيطهم من رحمةِ الله، وتغييرِهِمْ لأحكامِ الله، وظنِّهِمْ أنهم مخاطبونَ بالباطنِ لا بالظاهر، فأعلمَ اللهُ بذلك أنهم إنما خوطبوا بالظنِّ والظاهِر، فإذا اجتهدوا وأخطؤوا، فلا حرج عليهم، وعلى هذا البيان: فليست العامَّةُ إلا أتباعًا للشياطين، تراهم إذا أُغْمي عليهم، ثم ثبتَ في أثناء اليوم أنه من الشهر، أحالوا العيبَ على الحكام، وكلَّفوهم الشَّطَطَ، ونسبوهم إلى التقصير بأنهم فَطَّروا الناسَ يومًا من رمضان، وهذه وسوسةٌ من الشيطان، نعوذُ بالله منها. (الدماميني – مصابيح الجامع 4/377).
الحديث الثامن والثلاثون
عن أَنسٍ رضيَ الله عنهُ قالَ: واصَلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – آخرَ الشهرِ، وواصلَ ناسٌ من الناسِ، فبلغَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: “لو مُدَّ بي الشهرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ المُتَعَمِّقونَ تَعمَّقَهُمْ”. قال: “لا تواصِلوا”. قَالوا: إنكَ تُواصِلُ. قال: “لَسْتُ كأَحَدٍ مِنكُمْ، إني أُطْعَمُ وأُسْقى”.
الحديث التاسع والثلاثون
عن أبي سَعِيدٍ رضي الله عنهُ أَنَّه سَمعَ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – يقولُ: “لا تُواصِلوا، فَأَيُّكُمْ إذا أَرادَ أنْ يُواصِلَ فَليواصِلْ حتى السَّحَرِ”. قالوا: فَإنَّكَ تَواصِلُ يا رسولَ الله؟ قال: “إني لَستُ كَهَيئتِكُمْ، إني أَبيتُ لي مُطْعِمٌ يُطْعِمُني، وساقٍ يَسقينِ”.
الحديث الأربعون
عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: نَهى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عنِ الوِصَال؛ رحمةً لَهُمْ، فَقالوا: إنَّكَ تُواصِلُ، قالَ: “إني لستُ كهيْئَتِكُمْ، إنِّي يُطعمُني ربي ويَسقين”.
الحديث الحادي والأربعون
عن أَبي هُريرةَ رضيَ الله عنهُ قال: “نهى رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الوصالِ، وقال: “إِيَّاكمُ والوصالَ،- مرتين-، فقالَ لهُ رجلٌ (وفي روايةٍ: رجالٌ) منَ المُسْلمينَ: إنَّكَ تُواصِلُ يا رسولَ الله! قال: “وأَيُّكُمْ مِثلي؟ إنِّي أَبيتُ يُطعِمُني ربي ويَسقينِ، فاكْلَفُوا من العملِ ما تُطيقونَ”. فَلمَّا أَبوْا أَن يَنْتهوا عنِ الوِصالِ، واصَلَ بهم يوماً، ثمَّ يوماً، ثم رأَوا الهِلالَ، فقال: “لو تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ”. كالتَّنكيلِ (وفي روايةٍ: كالمُنَكِّلِ) لهمْ، حينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهوا.
قد تقدم الكلام فيما سبق عن الوصالِ وشيءٍ من معاني هذه الأحاديث وفوائدها في هذا الباب، وهنا زيادات يسيرة:
- قال المهلب: لما نهاهم عليه السلام عن الوصالِ فلم ينتهوا= بَيَّنَ لهم أنه مخصوصٌ بالقوةِ بقوله: “إني لست كهيئتكم”، لأن الله يطعمُهُ ويسقيه، فأرادوا تَحَمُّلَ المشقةِ في الاستنانِ به، والاقتداء به، فواصل بهم كالمنكلِ لهم على تركِهِمْ ما أمرهم به من الرخصة، فبانَ بهذا أن الوصالَ ليس بحرام، لأنه لو كان حرامًا ما واصل بهم، ولا أتى معهم الحرامَ الذى نهاهم عنه. (نقله ابن بطال في شرحه 4/112).
- قال البرماوي: إنما جوز لهم [الوصالَ] لمصلحةِ زجْرِهِمْ، وبيانًا للمَفسَدةِ المترتِّبةِ على ذلك، وهي المَلَلُ من العِبادةِ، والتعرُّضُ للتَّقصيرِ في سائر الوظائِف. (البرماوي – اللامع 6/437).
- فيها ما اختصَّ اللهُ تعالى به نبيَّهُ محمَّدًا – صلى الله عليه وسلم – من الأحكامِ دونَ غيرها؛ تكريمًا له، وتشريفًا ولطفًا، وتعريفًا لقدره – صلى الله عليه وسلم -، وتبيينًا لعظيمِ رُتْبَتِهِ عند ربِّه – سبحانه وتعالى -. (ابن العطار – العدة 2/889).
الحديث الثاني والأربعون
عن أَبي جُحَيْفَةَ قال: آخَى النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بينَ سلمانَ وأَبي الدَّرداءِ، فَرأي سلمانُ أَبا الدَّرداءِ، فرأَى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فقال لها: ما شَأْنُكِ؟ قالتْ: أخوكَ أبو الدَّرداءِ ليسَ لهُ حاجةٌ في الدُّنيا! فجاءَ أبو الدرداءِ، فصنعَ لهُ طعاماً، فقال: كُلْ. قال: فإني صائمٌ. قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأْكُلَ، قال: فأَكلَ، فلمَّا كان الليلُ، ذهبَ أبو الدَّرداءِ يَقومُ، قال: نَمْ، فنامَ، ثم ذهبَ يقومُ، فقال: نم، فلما كان من آخرِ الليلِ قال سلمانُ: قمِ الآنَ. فصَلّيا، فقال لهُ سلمانُ: إنَّ لِرَبِّكَ عليكَ حقّاً، ولِنفسِكَ عليكَ حقاً، ولأَهْلِكَ عليكَ حقاً، فأَعْطِ كُلَّ ذي حق حَقَّهُ. فَأَتَى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَذكر ذلك له، فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: “صدقَ سلمانُ”.
فيه فوائد:
- ذكره البخاري في مواضع؛ وبوب عليه البخاري في أحدها بقوله: “بابُ صنعِ الطعامِ والتكلفِ للضيف”، قال ابن بطال: التكلفُ للضيفِ لمن قَدِرَ على ذلك من سننِ المرسلين، وآدابِ النبيين، ألا ترى أن إبراهيمَ الخليلَ ذبح لضيفِهِ عِجْلًا سمينًا. (شرحه 9/311).
- فيه النهيُ عن التعمقِ والغلوِّ في العبادة. (ابن بطال – شرحه 4/114).
- فيه: شكوى المرأةِ زوجَهَا إلى صديقِهِ المُلاطِفِ؛ ليأخذَ على يدِهِ ويَرُدَّهُ عما يُضِرُّ بأهله. (ابن بطال – شرحه 9/313).
- فيه ثُبُوتُ حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ. (ابن حجر – الفتح 4/212).
- فيه: أنه لا بأسَ أن لا يأكلَ الضيفُ حتى يأكلَ ربُّ الدارِ معه. (ابن بطال – شرحه 9/313).
- فيه: أنه لا بأس أن يفطرَ ربُّ الدارِ لضيفِهِ في صيامِ التطوع. (ابن بطال – شرحه 9/313). وقال ابن عبد البر: وأما من احتج في هذه المسألة بقوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) فجاهلٌ بأقوال أهل العلم فيها، وذلك أن العلماءَ فيها على قولين: فقولُ أكثرِ أهلِ السنة: لا تبطلوها بالرياء، أخلصوها لله. وقال آخرون: (ولا تبطلوا أعمالكم) بارتكابِ الكبائر، وممن روي عنه ذلك أبو العالية. (الاستذكار 3/358).
- فيه: أن الصلاةَ آخرَ الليلِ أفضل؛ لأنه وقتُ تنزُّلِ اللهِ إلى سماءِ الدنيا؛ فيستجيبَ الدعاء. (ابن بطال – شرحه 9/313).
- فِيهِ جَوَازُ النَّهْيِ عَنِ الْمُسْتَحَبَّاتِ إِذَا خَشِيَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ وَتَفْوِيتِ الْحُقُوقِ الْمَطْلُوبَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمَنْدُوبَةِ الرَّاجِحِ فِعْلُهَا عَلَى فِعْلِ الْمُسْتَحَبِّ الْمَذْكُورِ. (ابن حجر – الفتح 4/212).
هذا وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اقرأ ايضًا: الجزء الرابع من الفوائد المنتخبة من أحاديث الصيام