- عبد الرحمن طعوم
في الزمن الذي تصاعد فيه ضجيج الاستقطاب، وعلت فيه نبرة الاصطفاف، ونادى كل منادٍ ببضاعته على أنها هي الحل، نجد تلك القسمة التي تباين بين اليمين واليسار في صور متعددة، كالشيوعية والرأسمالية، والذكورية والنسوية، والتجريبية والعقلانية وغيرها من الصور التي تتكرر إما كردة فعل لأوضاع معينة، أو كرؤية شمولية تفسر الوجود من حولنا طبقا لمنطقها الداخلي، ويكون من العسير أن نجد في خضم ذلك كله رحابة في تعدد الآراء و مسالك النظر وتنوع مشارب المعرفة.
ومما يستدعي الغرابة أنك ترى أن مفهوما مثل النسبية يتحدث عنه بعضهم على أنه منتج ثقافي غربي النشأة، صدره لنا الرجل الأبيض في مدوناته الفكرية، وأننا حديثو عهدٍ بالتعامل مع هذا المفهوم، ولكن الحقيقة أن آخر من يُمكن أن يحدثنا عن النسبية هو الرجل الأبيض، وإن كان تلامذته من بني جلدتنا يحاولون إيهامنا بعكس ذلك.
إن الفكر الغربي اليوم باتجاهاته وتياراته لم يبلغ مبلغًا حقيقيًا في التعايش مع الأفكار الناشئة من داخله وعبره، بغض النظر عن تعايشه مع الأفكار الوافدة عليه، وهذا يُنبئك عن حجم الارتباك الذي يحمله ملف الاختلاف، ومزاعم الفكر الغربي عن نفسه أنه حامل لواء السلام والأنوار..
ولست هنا بصدد نقض هذا الادعاء المعلوم البطلان، إذ من حق موضوع كهذا عقد دراسة جادة تبيّن خرافة الزعم القائل بأن الفكر الغربي هو المصدّر لمفاهيم التسامح والتعايش وتقبل الآخر – سواء على المستوى النظري أو العملي -، ولكن الفكر الإسلامي حافلٌ بنماذج ثريّة في هذا الباب وإن كانت تسير في الأوساط العلمية الإسلامية مَسِير البدهيات التي لا تحتاج لجهد معرفي من أجل استنتاجها والتوصل إليها، ولكني سأضع بعض المعالم في بيان أوجه تميز النسبية في الفكر الإسلامي وكيف أنها تشكّل لوحة جمالية من جماليات الإسلام..
1- النسبية في الإسلام ليست مطلقة
إن إحدى كبريات المميزات التي يقدّمها الإسلام، ضبط مجالات اشتغال العقل وعدم إطلاقه في بعض المجالات التي لا يمتلك فيها القدرة الكافية على حسم مادة النقاش، لذلك لا يمتلك العقل في الإسلام صيغة مطلقةً تخوّله بالحديث في غير دائرة ما يستطيع الوصول إليه، وليس في هذا إسقاط للعقل ولا إقصاء، ولكنه إنزال للأمور منزلها، فلا يستقيم عقلًا أن نمنع رضيعًا عن أكل اللحوم ثم نجد أشخاصًا يتهموننا بمنع الرضيع عن الأكل وأننا ننوي قتله.
2- النسبية في الإسلام منضبطة بالوحي
لا تتحلى النسبية في الفكر الإسلامي بسِمة العموم الذي لا يُخصّ بشيءٍ على الإطلاق، بل هي خاضعة إلى المعالم التي يحددها لها الوحي المطلق ويجعلها تنتظم في سلكه، وهذا يُكسي النسبية رداء الحق إذ إن أحقيتها ليست نابعة منها؛ لأن هذا يؤدي إلى أن تنقض نفسها بنفسها، ولكنها صادرةٌ من المطلق الذي تكتسب الأشياء قيمتها منه تبارك وتعالى.
3- النسبية في الإسلام تكفل حق الاجتهاد والنظر
إن مادة “ع ق ل” وردت في القرآن العظيم نيفًا وتسعين مرةً، و وقد حث الله العباد على التفكر في آياته المسطورة والمنظورة، ورفع من شأن العلماء، وخاطب الجاحدين من الظالمين بدلائل عقلية، فيا لبُعد من ينظر إلى الفكر الإسلامي ظانًّا أنه لم يكفل حق التفكير وإعمال العقل، والإسلام لا يمنع أحدا ممن توفرت فيه شروط الإدلاء برأيه أو القول باجتهاده، فهو يفتح أبوابه لكل من حاز شروط القيام بهذا الحق، ولم تجعل التفكير حكرا على فئة معينة من الناس، وهذا الاحتكار يدعي الغرب أنه قد شاهد مصرعه مع انتقاله إلى عصر الأنوار، وليس هذا بدقيق، بل الغرب اليوم يصادر كل الآراء التي لا تتفق مع هواه ولا تتماشى مع خططه التي أعدها له فئة معينة من الناس، فهو وإن كان قد انحل من ربقة الاستبداد الديني، فها هو يخضع اليوم إلى عبودية وسائل الإعلام وغيرها من العبوديات
4- النسبية في الإسلام تصبّ في غاية موحدة
والنسبية في الفكر الإسلامي ليست مطيّة للأهواء، بل تنطلق ابتداءً قاصدةً وجه الله تبارك وتعالى، فحين ينظر الفقيه إلى مسألة، ويمرر عليها أدواته المعرفية، يراعي في هذه المسألة تطلّبه لمراد الله عز وجل، فالفقيهان اللذان رأَيا حُكما مختلفًا في ذات المسألة لا يكون منزع اختلافهما من حيث المقاصد، بل إن كلاهما ينطلق من إرادة إنزال حكم الله في المسألة.
ولذلك يكون على مُمارِس عملية الاستنباط التي قد تتحلى بلون من ألوان النسبية ضرورة التجرد من الأهواء – وإن صعُب ذلك – ، ويبحث عن بذل جهده وإفراغ طاقته في أن يدرك حقيقة ما أراده الله من عباده في نصوص الوحيين، واستغلال هذه الرحمة الإلهية في تمرير بعض الأحكام عبر دافع الهوى لا يستقيم مع مقصود الشارع من ترك هذه المساحة النسبية.
5- النسبية لا تتسلل إلى الأصول وتكون دائرة في الفروع
ولأن من طبيعة الفكر النسبي الاضطراب وتباين المخرجات؛ لم تكفل الشريعة حق ممارسة هذه الطبيعة الفكرية في الأصول الإسلامية التي لا يكون الإسلام إلا بها، مثل أركان الإيمان، فالاضطراب في الأصول يورث اضطرابًا في عملية ضبط المساحات الفروعية التي يعمل فيها هذا الفكر النسبي.
وأن هذه الأصول مقصود الشارع منها التسليم والانقياد لما أتى به الله في كتابه أو قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يستقيم أن تتنوع الآراء التي يُطلب فيها التسليم والانقياد.