سعيد بن عبد العزيز الغامدي
تكاد مواضيع العروبة والترجمة والتعريب والعربية وحالها في مهدها وما صنعته القرون بها أشدّ ما يحتل ذهني هذه الفترة. فقبل أن أمسك القلم لأكتب شيئًا عنها طفقتُ أفكّر؛ هل ثَمّ عرب خارج مهد العربية؟ والإجابة هي بالطبع نعم! ثم سألتُ نفسي: هل هؤلاء العرب تأثّرت عربيتهم ببُعدهم عن الجزيرة العربية؟ فلم أستطع التوصل إلى إجابة حاسمة، ولكن نقطع أن جزءًا ليس بالقليل ضعفت عربيتهم، فضلًا عمّن بهتت عربيتهم جدًّا وأصبحوا لا يختلفون في شيء عن أبناء الأمم التي نزلوا فيها؛ كبطون قبائل العرب التي ذابت من قديم في السودان الكبير (بمعناه التاريخي)، وكالبطون التي بقيت في الأفغان[1] وما وراء النهر والهند والسند، بل حتى العرب الذين نزحوا مع الأتراك[2] إذ نزحوا من البلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى، والشواهد في هذا المجال كثيرة. ولمّا كان الحديث الشريف “إنما العربية اللسان” غير خافٍ عليّ -على ضعف إسناده- استبعدتُ فكرة أن العربية لا تسري إلّا بالدم والنسب.
وفي مقابل هذا قد تسلم لبطنٍ من العرب كثيرٌ من فصاحته إذا تمسّك بلغته وعَضّ عليها بالنواجذ واتصل ببيئة قريبة من بيئة جزيرة العرب مهد العربية، وإن كان بعيدًا عنها واختلط بأعراق أخرى محيطة به؛ كما في بلاد شنقيط أُمّ المَحاضر وبلاد العلم والعلماء.
ثم قفز لي شيطاني وقال: وهل ثمّة عربٌ لا يتحدّثون العربية في مهد العربية؟ فاستذكرتُ بعض ما تشكو منه أسرٌ من أن أبناءهم ضربتهم العُجمة بين أظهرهم لمّا كان اهتمامهم بتعليمهم اللغات الأجنبية وإدخالهم معاهدها ومدارسها من صغرهم عن حسن أو سوء قصد أورث أبناءهم هؤلاء الجهل بلسان قومهم، فزادت هذه الفكرة من قوة أن العروبة والعربية لا تسري بالدم فحسب حتى في مهد العربية. ثم راجعتني كلمة للأستاذ الدكتور مختار الغوث مرّت بي أثناء قراءتي في أحد كتبه[3] إذ يقول: “اللغة عاداتٌ غير واعية، وليست شيئًا يُتخيَّر”؛ فإن جاز لنا أن نبني على هذه الكلمة حَدًّا للعربية قلنا: “إن العروبة عادات لغوية غير واعية، تقوى وتضعف بالاقتراب والابتعاد عن مهد العربية، وبالاتصال بحاملي هذه العادات الأولين من خلال ما دُوّن عنهم، وبحامليها المُحدثين في مهدها أو الأقرب فالأقرب منها ومن بواديها ومخالطتهم والعيش معهم”، ولمّا كنّا نعلم أن مرحلة اكتساب اللغة هي سنوات الطفولة الأولى من عمر الإنسان وَقَر في قلوبنا مدى أهمية أن يكون هذا الاتصال مكثّفًا في هذه السنين الأولى. ولمّا كان هذا الاتصال بحاملي العربية في مهدها أو الأقرب فالأقرب من بواديها بهذه الأهمية، أُلقي في رُوعي أهمية اعتماد هذه العادات اللغوية غير الواعية بكلامهم في التعريب، مع باقي الطرائق المعتمدة كتوسيع الدلالة كما في توسيع دلالة كلمات “سيارة، قطار…” على الآلات الحديثة المعروفة. وأسميتُ هذه الطريقة: “النَّفَس أو الذوق البدوي” في التعريب، ومن الأمثلة عليه تعريب العامة في الحجاز مثلًا للبالون Balloon بـ”نُفَّيْخَة” و”بَلّونة”، والجالون Gallon بـ”جَيْلُون”، والفوانيس الكهربائية بالأتاريك، وتعريب السيارة قديمًا بـ”الطُّرُمْبيل” و”الأُطُمْبيل” من Automobile قبل أن تعتمد المجامع العربية لفظة “سيارة”، ولو لم تعتمدها لَكانت تلك التسمية صحيحة لا بأس فيها، بل -وبعيدًا عن الهُزْء والسخرية- اسم ذاك النوع المعروف من الكيك بـ”طُرْطَة”، وغيرها الكثير من الأمثلة…
وزادني ثقة واطمئنانًا إلى هذه الطريقة كيف تعامل أسلافنا مع الألفاظ المحدثة وأدخلوها في صلب لغتهم؛ كالهندسة والنموذج والفالوذج واللوزينج والأندلس عند جيل الاحتجاج، وكما نقل أسامة بن منقذ في كتابه “الاعتبار[4]” تسميات “البَرْجاسيّة[5]” لما نسمّيها اليوم “البرجوازية”، والبَسْكَنْد[6] لما نترجمه اليوم “الفيكونت[7]“، والعديد غيرها من الأمثلة.
بل وإنّي أميل كثيرًا إلى تثوير وحشيّ ومهجور اللغة ممّا لا يثقل على اللسان، والاستفادة منه في سدّ هذا الثغر لمّا هجم علينا هذا الطوفان الهائل من المعلومات بسبب العولمة والانفتاح حتى غزانا في كلّ بيتٍ بل في كلّ كَفّ، فالدَّبْرَة لا تكسرُها إلّا الدَّبْرَة والهجمة لا تكسرُها إلّا كَرَّةٌ وهجمة مرتدّة، والقارئ العَجِل لو تصفّح بضع صفحات من أيّ معجم لَوقع على المئات من الألفاظ والمعاني الغنيّة التي كان يجهلها وأصبحت مهجورة في “بلاغتنا العصريّة”. وأعجبني قبل فترة اقتراح أعضاء مجمع اللغة العربية الافتراضي تعريب جهاز “المِكْرويف” بـ”الصَّيْخود” أو “الصَّيْهود”، وأعدّ هذا الاقتراح نموذجًا ناجحًا في تثوير وحشيّ ومهجور اللغة. وتعجبني حقيقةً جهود هذا المجمع المبارك ومؤسسه أ.د. عبد الرزاق الصاعدي في نظريته عن جمع “فوائت المعاجم الظنّيّة”، وأنت لا تستطيع -حتى وإن اختلفتَ معه في بعض أجزائها- إلّا أن تُكبر عمله فيها. وأرى أنّنا نَدين لأجيال العربية القادمة -بما فتحه الله علينا من اتّساع ووفرة في المصادر والمعلومات ووسائل العلم وسهولة ويُسْر في الجمع والرَّصْد- بتسجيل هذه العادات اللغوية في مهد العربية وآثار القرون والاتصال باللغات والثقافات الأخرى عليها، كما أسدانا سَلَفنا جميل تدوين وحفظ اللغة لمّا خشوا على لغة كلام رب العالمين من العُجْمَة وتداخل الألسنة.
وبعد؛ فإن اقتراحاتي هذه لا أدعو فيها إلى نقض بنيانٍ تامٍّ قائم أو العبث بالعربية، وإنما هي اقتراحاتٌ أحسبها تنطلق من روح العربية، هدفها خدمتها وتيسيرها وتيسير العمل بها وإثرائها، فإن أصبتُ فأحمدُ الله، وإن أخطأتُ فأتوب إليه. والعربية باقيةٌ بكتاب الله الخالد الذي تكفّل سبحانه بحفظه، فحفظها كتابُه لمّا وَعَته، وشرّفها لمّا حملته، وستظل باقيةً ما بقي.
اقرأ ايضاً: نظرات نقديَّة في بعض الترجمات العربية المعاصرة مع نماذج منها
[3] في كتابه: “قضايا النقد العربي القديم” ص48
[4] الذي وثّق فيه شهادته على الحروب الصليبية في القرن السادس الهجري، وهو من قادة وأعلام تلك الفترة.
[5] يقول: “واشتروها البَرْجاسيّة ووزنوا لهم أثمانها…”، وفي موضع آخر: “وقال: هذا رجلٌ بَرْجاسيّ، أي تاجر…”
[6] يقول: “فجاء البَسْكَنْد، وهو شِحْنَة البلد…”
[7] وهو لقب يستخدم في بعض البلدان الأوروبية لوصف طبقات متفاوتة من النبل، ويساوي الدرجة الرابعة في سلم النبلاء البريطاني.
اما عرب شنقيط فوضعهم مختلف لا يقاس عليه، لم يكن لهم شيء من العلم حين دخلوا تلك الارض وكانت الامية سارية فيهم وكانوا كبقية بطون عرب هلال، ولم تكن لهم قوة ليدفعوا بها اهل البلاد لتعلم اللغة والذين تعلموا اللغة وعلموها هم البربر
هما عينان في رأس، يوحّدهم كتاب واحد ودين واحد