عام

تثويْر القراءة

محمد السعيد

التَثْوير لغةً مصدر ثَوَّرَ، ونقول ثوَّر الأمر: أي بحثه واستقصى مضامينه، وتثوير الأرض: تقليبها للزرع والحرث.

وجاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: (مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ)

قال ابن عطية في التفسير: “وتثوير القرآن: مناقشته ومدارسته والبحث فيه، وهو ما يعرف به”

فالتثوير يعني التحريك والتقليب والتنقيب والتنقير في الأرض، والبحث والتفتيش والاستقصاء والاستنباط في النص، وكلها معانٍ متضمنة للحركة، باعثةٌ عليها، وهذا ما نرمي إليه بتثوير القراءة: أن تكون -القراءة- متضمنة للحركة؛ بأن يُعمِل القارئ بعض الأدوات والآليات في النص فيخرجه من سكونه وسباته، وباعثةٌ عليها؛ بأن تُثيْر في نفسه تساؤلات واستفسارات تدفعانه للبحث والقراءة أكثر.

 

  • لماذا علينا أن نثوِّر ما نقرأ؟ 

بتثوير النص تكون قراءتنا تثويرية، وهي القراءة التي يُترجَّى منها ويعوُّل عليها في إنتاج المعرفة وإحداث العلم وتجديد الفكر وزيادة الفهم وتكوين العقل الصحيح وبناء الرأي الصريح، وهي التي تصنع العقليات العالية والنفوس السامية.

يقول الأستاذ العلامة محمد محمد أبو موسى – حفظه الله -: “من أراد أن يخرج قومه من ظلمات التخلُّف إلى أنوار التقدُّم، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الظلم إلى العدل، ومن ظلمات الفزع إلى الأمن، ومن ظلمات الفقر إلى الغنى والقوة، من أراد ذلك فليقرأ وليتِحْ لقومه أن يقرءوا، إن الشعاع الأول لإخراج الناس من الظلمات إلى النور هو القراءة”.

فالخروج والخلاص في القراءة، فما هي هذه القراءة؟ شكلها وماهيتُها؟ ولماذا لم نخرج من هذه الظلمات ونحن نقرأ منذ عقود وقرون؟

إن هذه القراءة التي يشير إليها أستاذنا أبو موسى ليست ككُلِّ القراءات الأخرى، لا هي قراءة تباهي وتفاخر، هَمُّ صاحبها أن يظهر بمظهر المثقَّف العارف والعالِم الفطِن، ولا قراءة تسلية أو متعة لا تحصِّل علماً ولا تزيد فهماً، ولا قراءةٌ لدفع الملل و قتل الوقت لا تجدي نفعاً ولا تترك أثراً في نفس صاحبها، ولا قراءة عقلٍ ميت و قلبٍ غافل، ولا قراءة نطلبها بأوقات الفراغ أو قراءةٌ محسوبة على الكماليات والهِوايات.

هذه القراءة التي سُقنا الكلام من أجلها في هذا المقال، قراءةٌ يُراد بها تحصيلُ علمٍ ودفْع جهلٍ وإنشاء معرفة جديدة في صرح العلوم وفتح آفاق عديدة في الفهم والفكر، قراءة تثير فينا الدهشة والسؤال والحيرة، تثير فينا طلباً أكثر وتزوداً أغزر من العلوم والمعارف، وجماعُ هذا الأمر في تثوير ما نقرأ بعد معونة الله وتوفيقه.

وهي من أصعب القراءات وأشدُّها على النفس في البدايات ولا يرتادُها إلا من رُزِق حُب العلم والمعرفة وشُغِف بطلبهما. تتطلَّب من صاحبها صبراً وجهداً وطاقة، ولا يصبر عليها إلا من رُزِق حبَّ القراءة، ومن كان همَّهُ إخراج الناس من الظلمات إلى النور. ومن صبر عليها نال الكثير ولا يسعنا المقام ويضيق بنا الوقت عن بسط القول في هذا الباب ومن شاء فليراجع ما كتبه العلماء وقاله الأدباء، ويكفينا أن نعرِّض بقول يسير، فنقول: إن أهل هذه القراءة أهل علمٍ، تتجلى عليهم أنوار المعرفة، ويُخصَّون دون غيرهم بفهم وعلم، وتُفتَح لهم من الأبواب ويُكشف لهم من الأسرار ما لا يكون لغيرهم، فيكونون منارةً لمن بعدهم وضياءً وكنزاً لمعاصريهم، ولبْنَةً وحجراً في ثقافة الأمة وحضارتها.

 

  • كيف نثوِّر القراءة؟ 

تثوير القراءة، أي تثويرُ ما نقرأ، ويكون التثوير باستعمال آلياتٍ وأدوات عدَّة كالتفكُّر والتدبُّر والتنبُّه والبحث الدقيق والتأمل العميق والتساؤل والتكرار والمباحثة والمدارسة والمحاورة وإشغال الفكر وإعمال النَّظر.

فكلُّ واحدة من هذه الأدوات والآليات لها شأنٌ ودورٌ – بعد توفيق الله ومعونته – في تنمية المعرفة وتوسيع العلم وبسط الفهم، وبها تتولَّد الأفكار وتتجلى الأنوار، ويخرج النص عن سكونه فتُبعَث فيه الحياة وتدبُّ فيه الحركة والنشاط فيُستخرج منه نصاً جديداً ويتولَّد منه فهماً حديثاً.

القراءة كالولادة، فيكون من الكتاب كتاباً ومن النص نصاً ومن المعنى معنىً آخر، ومن الفهم القديم فهم جديد، من رحمٍ واحد تخرج وتتولَّد وتتكاثر هذه الفهوم والعلوم.  ولا يُحسِن فِعْلُ ذلك ويتقنه إلا أصحاب الألباب السليمة والعقول اليقظة والنفوس الحيّة. ومناطُ هذه الأفعال والأعمال وصلاحها وانعدام فسادها وانتفاء ضررها يكون: بصدق التطلُّب والتزوُّد وإخلاص النية، وامتلاك عقل حي متيقِّظ ونفس شغوفة صبورة.

واجب علينا أن نتعلَّم كيف نقرأ، وأن نتعلَّم كيف نثوُّر ما نقرأ، وأن نتعلَّم كيف نستفيد ممَّا نقرأ، إن تعلمنا هذا وأتقناه نكون قد خطونا خطوتنا الأولى في طريق إنشاء المعرفة وبناء الحضارة.

 

  • القارئ المثوِّر: 

والمثوّر لما يقرأ هو الذي لا يكتفِ بظاهر النص، إنَما يتغلغل إلى باطنه، يفتِشُ وينقِّب، ويعيد ويكرِّر، ويوسِّع دائرة بحثه ونطاق دراسته، فيغترف من أعينٍ متعدِّدة وينظر في الأقوال المتنوِّعة والآراء المشكَّلة، فتكون لهُ مادةٌ غزيرة في الباب الواحد، يُعمِل فيها أدوات المعرفة وآليات الفهم مع إحسان التأمُّل وإجادة التفكُّر واستنفار الطاقة وصدق المجاهدة، فيستخرج بتوفيق الله خبايا المعرفة ودقائق العلم من ظاهر الكتاب وباطنه، ويسدُّ الثغرات ويملأ الفراغات ويكمل المنقوص في الكتاب والمادة ويزيد في الكتابة والتأليف فيما سكت عنه المؤلف، وإن لم يكن له هذا، كانت له عصارةٌ نتاج هذا الصنيع تغذي العقل والفكر، ويكسَبُ بها فهماً جديداً ورأياً سديداً.

والقارئ المثوّر ينال من لذَّة تحصيل المعرفة ومتعة بسط الفهم وجلال إنتاج العلم وتجلّي أنوار العلم الشيء الكثير والكم الوفير ما لا يمكن وصفه ويستحيل شرحه، يعرفه من عاشه وخبره.

بهذه القراءة، نحصِّل العلوم ونصنع العقول وننتج المعارف ونحيِّي النفوس. بهذه الأفعال تُبنى الحضارات وتقوم الأمم وتتقدم الدول وتترقّى الشعوب، فهلّا تنبَّهنا وتيقظَّنا، فعملنا فأتقنَّا فوصلنا ونجحنا وما هذا بالعسير المستحيل وهو على الله يسير إن أُخلِصتِ النية وصُحِّحت المقاصد وهُذِّبت الغايات.

  • استفدتُ كثيراً في كتابة هذا المقال من دروس الأستاذ العلّامة الدكتور محمد محمد أبو موسى حفظه الله ورعاه.

اقرأ ايضاً: البالغون الذين يعاملون القراءة بصفتها واجبًا منزليًّا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى