ماجد بن عبد الرحمن البلوشي
في ليلة مدينية عاطرة النسمات، هادئة الأجواء، مدلهمّة الظلام، راح أُسيد بن حضير رضي الله عنه يتبوأ مجلسه من الأرض بعد أن وسّد ابنه يحيى بجواره نائمًا في دعةٍ وهدوء، وربط فرسه بإحكامٍ وشدَّ وثاقه وأسلمه إلى الراحة، ثم استهلَّ مبدّدًا هدأة الدجى وسكون صمته، رافعًا صوته الأسيف وهو يرتل سورة البقرة غضّة طريّة كما أنزلها جبريل الأمين على رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
وبينما أُسيد يتلو ويشدو بآيات الكتاب العزيز، إذ بفرسه الطيّعة الودود ترفع راية التمرّد وتعلن العصيان، وتتحرّك بشدة تبغي الفكاك من قيودها، فأوجس في نفسه خيفة أسيدٌ، ورمى ببصره إلى ابنه يحيى، فرقَّ قلبه لابنه وخشي أن تتوسّنه قوائم الفرس الثائرة، فأمسك عن التلاوة وسكت هنيهة، فهدأت فرسه وثابت إلى رُشدِ سكينتها.
ثم شقَّ عليه أن يقطع ورده من القرآن، فعاوده الحنين إلى قراءة كلام الله فاستأنف تلاوته وهمهم بآيات البقرة، وقد انغمس فكره وعقله في تأمل تلك الآيات، مُنسلًّا بتدبّره لها عن عالم الحياة الضئيل، منتشلًا روحه إلى ممالك النور والهدى الممتدة الفسيحة، فما قطع تحدّره بالقرآن إلا بعدما رأى فرسه تصول صولة الباحث عن طوق النجاة، الهارب من حمأة الموت، فتناصرت قوائمها من جديد على بثِّ الخوف في نفس أُسيد، فراحت تعلو وتهبط سِراعًا، وحوافرها تندقُّ في تراب الأرض كأنما تطلبها ثأرًا تليدًا، فخُيّل إليه من شدة رَمْحها أن الأرض قد تزلزلت، وأن البيت يوشك أن ينقضَّ عليه وعلى ابنه، فآثر السلامة وأدركته عاطفة الأبوة تارة أخرى، ليُمسك عن التلاوة ويكفَّ لسانه عنها.
فعجب أسيدٌ لحال فرسه وثورتها الحيوانيّة على وثاق القيد، وهي الفرس المروض المنقادة، وبينما هو على حاله الحيرى تلك، يتردّد في الفكر ويطيل التأمل، إذ شخص ببصره إلى السماء الدنيا فكانت المفاجأة المذهلة! لقد تبدّل صفو سمائه إلى سحابة كظّتها بالغيوم الملبّدة، ورصّعتها بجواهر المصابيح المتلألئة، فأخذت تدنو منه حتى كادت تلامس سقف بيته، فأنكر بصره واتهم حواسّه.
فلمّا انشق عمود الفجر وتصدّعت أركانه، غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبصره حقيقة ما رآه ليلًا، فلما أخذ منزله بين يدي رسول الله، وخلص إليه نجيًّا، طأطأ رأسه ودنا منه في سمتٍ وقور وإجلال خاشع، ثم قصَّ عليه القصص وأنبأه بالخبر، فقال له رسول الله مُطمئنًا له، وماسحًا بأنامل السكينة على أوتار قلبه الفزِع: اقرأ يا ابن حضير! اقرأ يا ابن حضير! أوَ تدري ما ذاك؟ إنّها الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم.
ألا ليت شعري ماذا لو لم تَصُلْ فرس أُسيد ليلتها تلك، وماذا لو أنّه أكب على سورة البقرة يتلوها حتى أتى عليها بتمامها، إذن لأصبح الناس في مدينة رسول الله وقد غشيتهم ظُلّةٌ وهيجةٌ من ملائك الرحمن، فانبسط في أرجائها اليقين، وعمّتها السكينة، ولَأغنتهم عناقيدها الوضيئة عن أشعة الشمس المُشرقة، غير أنَّ أقدار الله غوالب، فله الأمر من قبل ومن بعد.
أوَ أعجبك أيها القارئ الكريم هذا الخبر في استجابة الملائكة الكرام إلى مائدة كلام الله، وتنزّلهم لاستماعه، وخضوعهم لسلطانه، وخطَّ عليك أمارات الدهشة؟ أمَا والله إنَّ القرآن الذي تقرؤه وآياته التي تترنّم بشدوها لهي أعظم إبهارًا من كلِّ ما تراه من ملكوت السموات والأرض وما بينهنَّ وما فيهنَّ من عجائب مخلوقات الله! وهي أكثر إدهاشًا من كل ما يمكن أن تقرأ عنه من معجزات الأنبياء، وخوارق الطبيعة، وكرامات الصالحين!
وإليك ما هو أعجب من نبأ ملائكة الله الكرام، عن سيّد بَشَري أرفع رتبة منهم، وسلوك الفاضل – كما يقول العلماء – مقدم على سلوك المفضول:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مجتازًا بدرب من دروب المدينة النبوية، ومعه حبه عائشة رضي الله عنها، فاهتبل فرصة خلوتهما عن الناس في مسيرهما، فراح يسامرها بحديث الأرواح وبوح المحبين، ويبادلها كأس المودة والحنين، وبينا هما كذلك إذ يغشى رسول الله فجأة سكون مُطبق، فيُسبل عينيه ويلوذ بخياله بعيدًا في صمت غامر، ويرهف بسمعه إلى نَغمٍ أخّاذ وصوت زكيٍّ يتهادى إليه من إحدى بيوتات المدينة الرثّة.
كان ذلك الصوت المُحبّر صوت الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري، وهو يتلو كتاب الله في زوايا بيته بعيدًا عن أعين الناس، وقد ذوت في نفسه حظوظه من الدنيا حتى كأنها جناح بعوضة، وعظمت في عينه مآرب الآخرة فهو ينظر إليها رأى العين، فنفض عن ناظريه وطأة الوسن، وانكبَّ على آي القرآن تنغيمًا وتعظيمًا، ولم يكد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع له إلا ويفتح شغاف قلبه لتستقبل أشعة نور الله، فتصغى إليه كل جوارحه، مطرقًا برأسه، متأمّلًا كلام ربه، وقد قطع جميع شؤونه إلا شأن التدبّر والإنصات إلى آيات القرآن العظيم التي أخذت بمجامع قلبه وأذهلته عن حبه عائشة وحديثه إليها.
ثم لمّا أصبح الصباح وأسفرت أنواره، جاء أبو موسى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على هيئة تسكنها الطمأنينة، غضَّ الروح من أثر التلاوة، متقد الطلعة من نور الديانة، فسلّم على رسول الله، ليبادره بردِّ التحيّة ويبادله مشاعر الود، ثم يخاطبه خطاب التحفيز الأبوي، قائلًا له: لو رأيتني البارحة يا أبا موسى وأنا أستمع إلى تلاوتك!
يا تُرى هل بقي قلب أبي موسى وعقله في مكانهما بعد هذا الخطاب النبوي الذي لاطفه به؟ أن يبوح إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قطع زخم يومه المزدحم بأخبار السماء وأعباء الأرض، ثم يتوارى مستترًا عن الأعين جوار جدار بيته ينصت خاشعًا إلى تلاوته! يا لهذا الشرف العظيم الذي تتضاءل عنده كنوز الأرض وخزائن الجوهر.
أمّا أبو موسى الأشعري فقد أدهشه ذلك التودّد الأبوي، وطار محلّقًا بأجنحة الفخر إلى سماء العز، وهو يسمع حديث رسول الله وافتتانه بتلاوته، ثم عنت له فرصة للاستزادة من سماع النبي الكريم لتلاوته فقال في لحظة شموخ وكبرياء حميدةٍ: أما إني لو علمت بمكانك يا رسول الله لحبّرته لك تحبيرًا.
هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم مع مُحَبِّري القرآن، لا يملك من نفسه إلا أن تُصغي إلى التلاوة، مشدوهةً بجمال الصوت، منقادةً إلى جلال المعاني، فتتوقف عقارب الساعة ويتباطأ الزمان وتُعلّقُ الأعمال وتُلغى المواعيدُ وتتوارى الملاذُّ، ويحبس السامعون أنفاسهم، لأنَّ المشهد هو مشهد أداء القرآن المجيد.
وأعجب من ذينك الخبرين الآنفين، هذا الحديث المذهل:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أذِن الله لشيء ما أَذِن لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن يجهر به”. متفق عليه.
تأمّل كيف أنَّ الله الذي ترتفع إليه حاجات الخلائق، ويجأرون إليه في المضائق، ويسألونه عند النوازل، فهو في كل لحظة وأوان مقصد الخائفين ومطمح الراجين، وبالرغم من كل هذه الأصوات الهادرة: بَشَرِيُّها وبهيميُّها، إنسيُّها وجِنيُّها، أحياؤها وجمادها، إلا إنه سبحانه وتعالى لا يستمع إلى شيء من الأشياء كاستماعه إلى صوت القرآن الذي يتغنّى به قارئه، ويجوّده بأداء يغشاه فيه الخوف، وتعلوه الهيبة.
فهل بعد هذا يفرّط المرء في اقتناص بركة هذا الإقبال الربّاني على عبده، ونيل شرفه الأثير؟ لأيم الله إنَّ في عقل من فعل ذلك خللًا مبينًا! وكيف لشيء أن يرقى إلى منزلة كلام الله وكتابه العظيم، ورعايته بمن يتلو كتابه وإقباله عليه بالعطاء والعناية؟ وإنَّ فضل كلامه وشرفه على سائر الكلام والعلوم، كفضله سبحانه وتعالى على سائر مخلوقاته.
وفي هذه الأيام الموغلة بالبلاء، المترعة بالبأس، يغشانا شهر فضيل، وزمان كريم، شهر رمضان الذي أُنزل فيه الذكر والنور، وهو عند الصالحين بمثابة مواسم التجارة عند أهل الدنيا، يعدّونه موسم اقتناص الحسنات وادخار الأجور وقضاء الحوائج، وهو بذات المنزلة عند أهل السموات العُلى، فإنَّ جبريل عليه السلام كان يتنزّل في كل ليلة من ليالي رمضان جذلان مسرورًا بالأمر الربّاني، ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد أخذ أهبته، وفي نفسه فيوض غير ناضبة من سيول المسرّة والبشر بزورة جبريل له، فيذاكره القرآن ويراجعه معه.
فياله من مجلس وطيء الأكناف، يلقى فيه سيد الملائكة في السماء بسيد المخلوقات في الأرض، وقد ألقيا خلف ظهورهما مجريات شؤون الأحداث، لتنعقد همتهما على التماس الرضا، ونشدان السكينة في سماع القرآن ومذاكرته.
فإن لم نكن على صلة وثيقة بالقرآن في سائر أيامنا، فلا أقلَّ من أن نتعبّد بتلاوته ونترنّم بقراءته في موسم نزوله، فهذه فرصة سانحة أطلّت، ونعمى من الله أقبلت، فإنَّ الناس مع جائحة كورونا مأمورون بلزوم بيوتهم، فأوقات الفراغ تضاعفت وساعاته امتدت، فما أحراها من مناسبة أن نعيد حساب الأولويات، ونمد وشائج العلاقة بتلاوة كتاب الله، وتدبّر آياته.
وحتى تعرف أثَر قطرة صغيرة من بركة محيط القرآن الزاخر، فدونك مليارات الأحرف، وملايين الصفحات، ومئات الآلاف من العناوين، وآلاف مؤلفة من علماء المسلمين الكبار، على مدى مئات السنين، في شتى قارات الأرض، كتبوا وصنّفوا فملأت كتبهم الآفاق، وضاقت بها أرفف المكتبات، فإذا تأملت تلك الكتب وذلك الإنتاج المعرفي الغزير المنهمر، وجدتها منبثقة عن كتاب الله، تفسيرًا لمراده، وبيان لمعانيه، واستمدادًا من أوامره وتشريعاته.
أمّا كيف يقرأ المرء القرآن، وكيف يُحبّر تلاوته ويزيّن به صوته، فإن كان موهوب الطبع، جميل الأداء فتلك نعمة عظمى، وأمّا إن كان دون ذلك فعليه أن يرسل نفسه على سجيّتها في التلاوة، ويراعي أحكام التجويد، ويترسّل في قراءته، ويُحسّن صوته بالقدر المعتدل.
قال الإمام أحمد – كما في المغني لابن قدامة 2/ 155 -: يعجبني من قراءة القرآن السهلة، وقال في بيان معنى حديث: “زيّنوا القرآن بأصواتكم”: يُحسِّنه بصوته من غير تكلّف. أ.هـ، فإن جاء موضع فيه مقام تخويف وترهيب، أو وعد ووعيد، أو سياق آخر ينساب معه قلبه رُخاءً حيث أصاب القرآن، تجاوبَ معه بصوته وأدّاه بنبرة أخرى مؤثرة، ليكون ذلك أحرى أن يعيش مع الآيات.
ففي الحديث الصحيح أن جبير بن مطعم – وكان آنذاك مشركًا – وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي المغرب بأصحابه، ويتلو سورة الطور، قال جبير: فلما بلغ قوله تعالى: “أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون”، كاد قلبي أن يطير.
هكذا صوّر لنا جبير بن مطعم حاله مع القرآن، إذ لان قلبه ورفَّ طائرًا حتى أوشك أن ينخلع من موضعه، وهكذا ينبغي أن تكون حال قارئ القرآن والمُستمع له، أن يتبصر في معانيه كأنه المخاطب بذلك دون العالمين، وأن يكسر قلبه ويُذلِّله في أعطاف الآيات ويرسله على سجيّته فيتأمل ويتدبّر، فإذا جاءه موضع فيه إذكاء لجذوة الحياة لقلبه كرّره وردده وأقبل عليه إقبال الظامئ المُسغب يعل من ماء الحياة.
وفي كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد ص 57 وصفٌ لقراءة أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه كان إذا قرأ: “إذا الشمس كورت” يحزّنها شبه الرثاء، وفي صفة الصفوة لابن الجوزي 2/ 238: كانت قراءة الفضيل بن عياض حزينة شهيّة بطيئة مترسّلة، كأنه يُخاطب إنسانًا، وكان إذا مرَّ بآية فيها ذكر الجنة يردّدها.
ويُروى عن صالح المرّي أنّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقرأ عليه القرآن، فلم انتهى قال له رسول الله: يا صالح هذه التلاوة، فأين البكاء؟ ووصف ابن الوردي في تاريخه قراءة شيخ الإسلام ابن تيمية للقرآن بأنها تلاوة خاشعة، وأن رقّة قلبه في صلاته كانت تأخذ بمجامع القلوب.
أمّا سيد المشاهد في الاستجابة لمفعول آي القرآن على الأرواح والأجساد ومآقي العيون، فهو في سورة مريم، حيث استهلَّ الله السورة بأخبار أنبيائه ورسله ومقاماتهم الشامخة المكتنزة بالأنفة والعزة في الدعوة ومقارعة الأعداء وارتياض القيم وعطاءات التربية، ثم ختم جميع تلك المقامات المذهلة بمشهد عليه مسحة الخضوع والانكسار لله، والتأثر بالقرآن تلاوة وتدبّرًا واستماعًا، فقال سبحانه وتعالى: “أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرّية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هدينا واجتبينا، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدًا وبُكيًّا”.
ولعلّك تقولُ: فما العجب في هذا، أليست هذه بحال طبيعية للأنبياء والمرسلين، فقد كانوا شهداء على تنزيل الله لكتبه عليهم، وعاينوا ملائكة الله وخاطبوا رسله منهم! فيأتيك الرد القرآني في مشهد آخر لا يقل روحانية عن سياق سورة مريم، إذ يقول سبحانه واصفًا حال أهل العلم مع آيات كتابه: “قل آمنوا به أو لا تؤمنوا، إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدًا، ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولًا، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا”.
وهكذا يتجلّى أثر القرآن والتعلق به والانقياد إلى سلطانه عند عباد الله المصطفين الأخيار، فهو معيار رئيس من معاييير التفاضل وأصل مهم من أصول التقييم، ومهما اختلفت تشريعاتهم وتباينت أحكامهم، إلا أنَّ التماهي مع كتاب الله سِمة راسخة في نفوس الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من جميع الأديان السابقة ثم دين الله الناسخ الإسلام، الناسخ لما سبقه والمهيمن على غيره.
وأختم بقضايا:
أوّلًا: حَبِّرِ القرآن أثناء تلاوتك وزيّنه دون تكلّف، وأرسل همهمات صوتك عفوًا في مرابع طبيعته، وحسّنه إلى الحد الذي يمكنك دون مشقّة أو عنت، قال عبدالجبار بن الورد لابن أبي مليكة بعد سماعه منه لحديث: “ليس منّا من لم يتغن بالقرآن”: يا أبا محمد أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال ابن أبي مليكة: يُحسنه ما استطاع.
ثانيًا: لا تعجل بالقرآن وأنت تتلوه، ولتكن قراءتك له مترسّلة متئدة، بهذا أمر الله تعالى نبيّه فقال سبحانه: “وقرآنًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلًا”، قال ابن جرير: أي لتقرأه على الناس على تؤدة، فترتله وتبيّنه، ولا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك، وقال الطاهر ابن عاشور: والحكمة في ذلك أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين.
وهكذا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلّم في قراءة القرآن، سالكًا سبيل ما أمره الله به من التريّث في القراءة والتؤدة في ترتيله، فقد سُئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ: “بسم الله الرحمن الرحيم” يمدُّ ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم. رواه البخاري.
ثالثًا: حيثما وجدت قلبك حاضرًا في سورة، أو مشهد آية فكررها، وتشبّع منها، وارو ظمأ قلبك من جدولها الرقراق، واملأ جوانحك من معانيها، حتى لو لم تقرأ في وردك ذلك إلا تلك الآية، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فرددها حتى أصبح: “إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم” رواه أحمد، وقال عبادة بن حمزة: دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ: “فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السَّموم”، فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو، فطال علي ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت، وهي تعيدها وتدعو.
رابعًا: من أشرف مقامات قارئ القرآن أن يقوم به في صلاته لاسيّما صلاة الليل، ولمّا أمر الله نبيّه في سورة المزمّل بقيام الليل، عقّب على ذلك بقوله سبحانه: “إنَّ ناشئة الليل هي أشدُّ وطئًا وأقوم قيلًا”، أي أنَّ القلب واللسان يتواطآن على تلاوة القرآن بالليل في الصلاة، فيحصل للقارئ الانتفاع الأكمل بالتلاوة.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ فقال: “طول القنوت”، أي طول القيام بتلاوة القرآن في الصلاة، وفي زمان جائحة كورونا قد لا يتهيّأ لأكثر الناس أن يصلي قيام رمضان في المسجد، فهي فرصة حسنة سانحة يجدر اغتنامها، بأن يقوم بنفسه وبأهل بيته، حتى لو لم يكن حافظًا للقرآن، فليفتح المصحف وليقرأ منه نظرًا ويطوّل القيام.
خامسًا: لا يقلُّ سماع القرآن شأوًا عن تلاوته، فلها مفعول هائل في إذابة رَينِ القسوة عن أغشية القلوب، وإماطة وهن التراخي عن مفاصل الطاعات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه كان يستسمع أصحابه، كما في سماعه لسورة النساء من فم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وتأثر رسول الله من تلاوته واستعباره لها.
وسماع القرآن يُعدُّ من مجالس الملائكة الثابتة يوميًّا، والتي تحرص عليها وتجتمع عندها وتشهدها بغزارة، قال الله تعالى: “وقرآن الفجر، إنَّ قرآن الفجر كان مشهودًا”، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر”، قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : “وقرآن الفجر، إنَّ قرآن الفجر كان مشهودًا”. رواه البخاري.
سادسًا: خير ما يُستعان به على فهم القرآن وتدبره: معرفة معاني الآيات وتفسيرها، وتجلية ما يستشكله القارئ من سياق الآيات وغوامض المفردات، والسبيل إلى ذلك أن يعمد إلى كتاب من كتب التفسير ذي عبارة سهلة ومنهج سديد، فيجعله قريبًا منه أثناء تلاوته، فإذا ابتغى تفسير آية أشكلت عليه من القرآن، فتح موضعها من كتاب التفسير وقرأ فيه.
سابعًا: لا تشغل نفسك بالنقاش الدائر: أيّهما أفضل: من يقرأ القرآن قراءة تدبّر فاحصة متأنية ولو طال بصاحبها المقام، أم ذلك الذي يختم القرآن تلاوةً في وِرْد ثابت بصفة مستمرة؟ فكلاهما من السبل الموصلة إلى الخيرات، على أنَّ تلاوة القرآن في وِرْد ثابت كان منهجَ النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهج أصحابه، وأجمعت الأمة عليه تأصيلًا وتقريرًا، وعملًا ومزاولة، فحيثما وجدت لذة الذكر في منزلة من المنزلتين أعلاه، فانزل بساحتها، ويمّم قلبك تلقاءها، فثمَّ وجه الله ومحراب القرآن.
ثامنًا: وصف الله كتابه بوصف عظيم فقال تعالى: “وإنه لكتاب عزيز”، ومن عزّته أنه لا يبقى حيث لا يكترث صاحبه له، أو يتشاغل عنه، فمن لم يتعاهد القرآن بالمراجعة الدائبة وإدامة النظر فيه بالقراءة المستمرة، فإنّه يتفلّت من صاحبه ويستعصي عليه ويغادره كأن لم يحفظ منه شيئًا، وأمّا من أقبل عليه وعَجم عُوده ونهل من معينه وجعله وِرْدًا مورودًا ثابتًا في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فإنه يستقر في نفسه ويتغلغل في روحه.
والله أعلم.
سلمت أناملك، وسلم لك قلمك الفيّاض!
يا الله ؛ ما أحوجنا لتأمّل تلك الرحاب ؛ اللهم اجعلنا من أهل القرآن، واحشرنا في زمرتهم!
جزاكم الله خيرا. جعلنا الله من أهل القرآن
قلت غفر الله لك وعفا عنك.:
أمّا أبو موسى الأشعري فقد أدهشه ذلك التودّد الأبوي، وطار محلّقًا بأجنحة الفخر إلى سماء العز، وهو يسمع حديث رسول الله وافتتانه بتلاوته..
لفظة (افتتانه بتلاوته )
هل هي مرادة لك وتراها صحيحة
أم أنها سبق قلم.
غفر الله لك.. ارجو التوضيح
مقال جميييل جداً,سلمت.
جزاك الله خيرا
جزاكم الله خيرًا
مقال إبداعي