الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وبعد..
للصوت في أداء القرآن الكريم خصوصية تعبّدية تلاوة أو استماعًا، وحاسّة السمع مقدّمة في القرآن الكريم بوصفها منفذ الإدراك، وقناة جريان العلم، ومفتتح تحصيل المعرفة، وهي مقترنة بالعقل في عدد من المواضع في القرآن، وإن أردف البصر في مواضع أخرى.
والقرآن الكريم نزل به الروح الأمين مشافهة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فارتباط الصوت بالقرآن الكريم منصوص عليه، في التلاوة أمرٌ بترتيله، وفي الاستماع أمرٌ بالإنصات إليه، ولهذا تكثر الأسئلة إلى أهل العلم هل يُثاب المسلم على القراءة بالعينين، أم أن أجر التلاوة يشترط تحريك اللسان والشفتين وسماع الصوت؟ ورأي الشيخ ابن باز رحمه الله “أنّ النظر في المصحف للتدبر والتعقل وفهم المعنى، لكنه لا يُعَدُّ قارئًا إلا إذا تلفّظ بذلك كما نصّ على ذلك أهل العلم”، وبعضهم يحدّ الصوت بأن يُسمع القارئ نفسه.
والتأكيد على السمع للوصول إلى التأثر والاتّباع والاعتبار والتذكّر دليلُهُ من القرآن الكريم، يقول ابن القيم رحمه الله: “إذا أردت الانتفاع بالقرآن فأجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك، واحضرْ حضورَ من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه،…،فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}“. يقول ابن عاشور رحمه الله في تفسير هذه الآية: “أي قلبٌ عظيمٌ حيّ، ذكيّ، زكيّ، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله تذكّر بها وانتفع، فارتفع، وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها استماعًا يسترشد به، وقلبه {شهيد} أي حاضر، فهذا أيضًا له ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى، وأما المُعرِض، الذي لم يُلقِ سمعه إلى الآيات فهذا لا تفيده شيئا، لأنه لا قبول عنده”.
فألقِ سمعك.. وأشهِد قلبك، وأنصت لما في فعل الإلقاء لحاسّة السمع -غير الإرادية- من تسليمٍ وطرحٍ وإقبال ولُقيا، ونعوذ بالله السميع العليم أن نكون من المنصرفين أو المعرضين أو الساهين!
مَددُ المِنن:
العناية بأداء القرآن جزء من فهمه وتدبّره وتعظيمه، وتحسين الأداء وثيق بعلوم القرآن عامة، وبالتجويد والتفسير خاصة، للوصول إلى أداء المعنى على أمثل ما يكون الأداء. غير أنّ تحصيل العلوم ليس عماد الأمر! بل هي هِبَات ربّانية، ونفحاتٌ من السماء يهبها الكريم بفضله لمن يشاء، فكم من حافظٍ وعالم ومتقنٍ وبلاغيٍّ ومفسّرٍ لا يؤثّرون تأثير قارئ آخر أقلّ علمًا وأدنى إحاطة، وهبه المالك الوهّاب هالة تأثيرية في تلاوته، وقد يفتح الله بفضله لمستمعٍ أقل من أولئك الخبراء علمًا فيفهم ويعي ويدرك ويستشعر ويتأثر بما لا يتأثرون به مما يعرفون طرائقه وفنونه، فلا يكلّ المسلم عن طلب مدد الهدى والفهم والتوفيق للنور من مولاه سبحانه.
والتأثير والتأثر أعمال قلبية لا تؤطرها قواعد ولا تنظّمها تصنيفات، ولا تحكم نتائجها أسباب، فمن حكمة الله -جلّ وعلا- وقدرته أن الأثر متغيّر بتغيّر القارئ وأحواله، وبتغيّر السامع وأحواله، وبتغيّر المقام، وأمام تلك المتغيّرات يبقى القرآن الثابت الذي لا يخلق على كثرة الردّ.
ولا أوضح شواهدَ على تغيّر التأثر بالقارئ من قراءته صلى الله عليه وسلم، في مثل الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِن غيرِ شيءٍ أمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ، أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} قالَ: كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ”، ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من غيره عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه: قالَ لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: فإنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِن غَيرِي، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ النِّسَاءِ، حتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قالَ: أمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ” -صلى الله عليه وسلم-، وفي قصة تروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لرجل: اقرأ سورة الحجر، قال أوَليست معك يا أمير المؤمنين؟ قال: أما بمثل صوتك فلا.
وتغيّر التأثر بحسب السامع وأحواله شواهده كثيرة، وكم مرّ بنا من آية كنا نحفظها سمعناها في موقفٍ كأنّا نسمعها أول مرة، من عظمة كلام البارئ وحكمته جل في علاه، مثل قصة عمر رضي الله عنه يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم الذي سمع أبا بكر رضي الله عنه يقرأ {ومَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فكأنه سمعها أول مرة، وقصة توبة الفضيل بن عياض حين سمع قارئًا يقرأ {ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}، وأما التأثر بالمقام فمن الناس من يتأثر بصوت القرآن في الصلوات، أو في مقامات الشدّة، أو المرض، أو الامتنان والابتهاج، أو الحَيرة والاحتياج.
ولا يقصد أهل العلم بحسن الأداء التكلّف وتصنّع التأثر أو المبالغة في التنغيم، بل قراءة القرآن قراءةً مبلّغةً للمعنى حاملة فهم القارئ وشعوره أثناء القراءة، يروي ابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) عن أبي عثمان النهدي قال: “صلّى بنا ابن مسعود المغرب ب{قل هو الله أحد} فوالله لوددتُ أنه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته وترتيله”، وقال “ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حُسن صوت، ولا معرفة بالألحان، إلا أنه كان جيد الأداء، قيّمًا باللفظ، فكان إذا قرأ أطرب السامع، وأخذ القلوب بالمجامع، وكان الخلق يزدحمون عليه، ويحبّون الاستماع إليه، أممٌ من الخواص والعوام، يشترك في ذلك من يعرف العربية ومن لا يعرفها من سائر الأنام، مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان، العارفين بالمقامات والألحان، لخروجهم عن التجويد والإتقان”.
تبليغ بلاغة القرآن:
وقارئ القرآن مبلّغٌ لبلاغته، فإنْ أراد توضيح البلاغة القرآنية فعليه أن يراعي في أدائه أدق تفاصيل الأداء، فليس تلوين الصوت والنبر والتنغيم وحده المؤثّر في تبليغ المعنى بل الوقوف وطول ذاك الوقوف وتفاصيل الأداء كلها، فالأداء الحسن تجويدٌ للحروف وتبصّرٌ بالوقوف، وعليه أن يدرك أعلى الإدراك أنّ الغاية من تحسين الصوت بالتلاوة العظةُ والانتفاعُ والفهمُ، واجتماع الحواس والقلب والعقل في إنصات يتشوّق لكلام ربّ العالمين.
وأجدُ أن النظامَ الصوتيَّ أو البلاغةَ الصوتيةَ أو المستوى الصوتي في القرآن الكريم -كيفما كان المصطلح- منبعُ وجه الإعجاز الذي وصفه الخطابي بأنه وجهٌ آخر “ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، ذلك صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا، إذا قرع السمع خلص له القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور”.. ومثلها إشارة الزركشي: “كل كلمة منه لها من نفسها طرب، ومن ذاتها عجب، ومن طلعتها غرة، ومن بهجتها درة”، وقبله أشار الفرّاء وأبو عبيدة والرماني والباقلاني إلى التلاؤم والحلاوة والطلاوة والجمال، وكلها معنيةٌ بأصوات القرآن الكريم.
فالأداء الصوتي للقرآن موصّلٌ عميق للتأثيرية التي يسمّيها بعض المعاصرين: الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم، يقول الدكتور محمود توفيق سعد في كتابه: العزف على أنوار الذكر: “لن يتحقق لبيان أن يُرتّل وأن يُتغنّى به إلا إذا كان نسقه ونظمه وجرس كلماته وموقع معانيه غنيًا بمقومات الإيقاع وأنواعه وألوانه المتعددة وهذا ما تحقق للقرآن الكريم، فلا يشاركه فيه بيانٌ آخر”.
وإيقاع القرآن غزيرٌ أخّاذ، غرفةٌ منه ما يشار إلى إيقاع الحركات والسكون في مقاطعه الصوتية، أو تقسيم الفواصل القرآنية، أو بعض الفنون البديعية، وإعجازه كما أقرّ السكاكي رحمه الله: “يُدرَك ولا يمكن وصفُه”، ويزيد إدراك جمال أصوات القرآن إذا كان بأداء حسن، تلاوة أو استماعًا، وجديرٌ بمن بورك له في الإمامة أو القراءة أن يلزم إتقان الأداء القرآني الموصّل للمعاني، المبلّغ للبلاغة.
مثال أداء:
وسأذكر مثالين للأداء المبلّغ للبلاغة، المثال الأول، لاتساع الدلالة بأثر الصوت، حين قرأ قارئ سورة النازعات، فوقف عند موضع الوقف الجائز {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)}، وقف بعد المد الواجب في السماء، فكان للوقوف وقع خاص، لحظة سكونٍ لفتت إلى تأمّل الكون والتفكّر في امتداد آفاق القدرة الإلهية، كان سكونًا قصيرًا بعد خفض صوته استنكارًا في الاستفهام:أأنتم! فأتبع الوقف بمدّ جميل لكلمة بناها مؤكّدًا للمعنى، ثم لفت في نبر صوتي إلى تلاؤم الفاء في (رفع ، فسوّى)، وصوت السين: (سمكها، فسواها).
والمثال الثاني، لأثر التلوين الصوتي بحسب المعاني، ومثاله من تلاوة للشيخ مصطفى إسماعيل رحمه الله، لسورة التحريم، في تلاوة منشورة زكية النشر، كأنه يعنون أبواب البلاغة ومباحثها ويلفت إليها بأدائه المعبّر المؤثّر، وقف ست وقفات في كل مواضع الوقف الجائز أو الوصل المستحب؛ ليلفت إلى المعاني في المقاطع الصوتية في الآيات الشريفة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴿1﴾ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿2﴾}
كان يشحن فهمه للمعنى فوصل صوتُه بحمولة تأثره بالمعنى البلاغي الذي وعاه، في طريقة نطقه للمقطع {ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ} وفي وقفته وسكونه بعد قوله سبحانه {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ} ثم إعادة تلاوتها بأداء مختلف يعمّق التلقي للمعنى.
ثم تغيُّر النبر وتحميله دلالة الفُجاءة والدهشة حين قرأ قوله سبحانه {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا ۖ}ُ أو في أدائه المعبّر عن أسلوب الشرط من المقام الإلهيّ : {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ}، وأما التلوين الصوتي بحسب جرس الألفاظ ودلالتها فيتجلى في أدائه لمثل الآية الكريمة: {عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} كان أداءً معبّرًا عند التضعيف والتنوين والمدود، فكأن السامع يجد في إيقاع كل صفة معناها المميّز لها عن غيرها، وأمّا بث الشعور بالمعنى عبر الصوت دون تكلّف أو تصنّع ففي مثل أدائه الهادئ الخاشع لقول المولى عز وجل: {كانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْن} وتغيّر الصوت استنكارًا لما صدر منهما حين تلا بإحساس الألم والخيبة قوله سبحانه {فَخَانَتَاهُمَا}، ثم اختلف ذلك الدفق الشعوري حين قرأ قوله سبحانه {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} بأداء الإجلال والتعظيم والإعجاب والثناء لهذا التخصيص والتصريح باسمها ونسبها الشريف وما في ذلك من تكريم لها عليها السلام، ثم تغيّر النبر لأداء معنى المهابة والخشية للقدرة الإلهية حين قرأ قوله جل وعلا {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} فجاء الأداءُ الصوتي مبلِّغًا للبلاغة المعجزة، متفنّنًا في إيصال فنونها.
والخلاصة أنّ الإنصات إلى صوت القرآن من أعظم القناطر إلى إدراك شيء من معانيه، فنسأل الله أن يعيننا على إلقاء السمع، وشهود القلب، وأن يُدخلنا برحمته في عباده المهتدين العقلاء الذين وصفهم سبحانه بقوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.