الدين

النّصُّ القرآني بينَ التّيْسير والتّفسير!

  • خالد بريه
  • تحرير: عبير الشهري

نَزَلَ الوحي على النَّبيِّ الأكرم، منجَّمًا، يعالجُ القضايا الحادثة، فكانَ فهمه على المتلقي يسيرًا؛ لأنه شهِدَ الوقائعَ التي تعامل معها النَّص، كما أنه كان يفهمُ المصطلح أو اللفظة التي اهتمَّ بتدوينها القرآن، وعَقِل منشأَهَا، وقبلَ ذلكَ كله؛ كانَ صاحبُ الوحي بينَ ظهرانيهم، يبيّنُ ما انغلقَ عليهم، ويشرحُ ما غابَ عنهم، وما قصرت عنه أفهامهم[1]، وبهذه العوامل ملتصقةً بعضها ببعض، كان القرآنُ يسيرًا في فهمه، في حدودِ البيئة التي تناولتْه، وظلَّ الأمر كذلك، حتى ابتعدت عوامل الفهم وبدأتْ تتلاشى، بموتِ النَّبيِّ الأكرم عليه الصَّلاة والسَّلام، وابتعاد “ساحة الوحي” التي كانت ميدانًا لمعالجةِ القضايا والحوادث، ثم اتساع رقعة الأرض، وهذا ناتجٌ عن التوسع الحضاري، الأمر الذي سمحَ بتعدُّدِ الألسن، وغيابِ وهجِ العربية في صورتها الأولى!

فمثلًا غريب القرآنِ في عهد النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام كانَ محدودًا بينَ الكلماتِ المعرَّبة، والكلمات التي تتعلقُ بلهجاتِ العربِ المختلفة، بينما توسَّعَ المفهوم في عهدِ الصَّحابة بعد وفاة النَّبي، واشتدَّ توسعًا في عهدِ التَّابعين، وكلما امتدَّ الزمان واستطال، تصبح الكلمات الغريبة بالآلاف، بسببِ توسُّع ميدانِ التلقي، والحاجة إلى بيانِ ذلك.

ولقائلٍ أن يقول: إذا كانَ القرآن محفوظًا بأمرٍ إلهي، وقد يسَّره الله حفظًا وفهمًا، في قوله تعالى:﴿ ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر﴾ القمر: ١٧. فما الذي جعلَ القرآن عسيرًا في الفَهم، ويحتاج إلى مئات بل آلاف التَّفاسير لتحقيقِ مفهوم الآية، والتي مفادها؛ اليُسْر والتذليل في حفظه وفهمه؟!

وللإجابة على هذا التساؤل؛ يجب أن نعي أنَّ التفسير مرَّ بمراحل وتطوراتٍ متعددة، كما إنَّ مفهوم “التفسير” كانَ متعانقًا مع مفهوم “التأويل” في حقبةِ النُّزولِ الأولى، ولم يكن حينها ثمة تفريق، كما حصلَ فيما بعد، ولهذا، عندما دعا النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام لابن عباسٍ رضي الله عنهما بالفهم والقدرةِ على التُّدبُّر وإيضاحِ مضمونِ القرآنِ وأسراره، قال: “اللهم علِّمْه التَّأويل”[2]. وعندما تمَّ صناعة أول كتابٍ مكتملٍ في التَّفسير عن طريقِ شيخ المفسرينَ ابن جرير، لم يجد حرجًا من تسميته: “جامع البيان في تأويلِ القرآن“. لكنَّ الأمر أخذ منحىً مختلفًا بعد تقدُّمِ العصور، وابتعاد العوامل الأولى للفهم، واتساع ميدان التلقي الذي كان محدودًا في بيئةٍ معينة، ثم انفتحَ على أقطارِ الأرض؛ وتثاقفَ مع مجموعاتٍ دينية وفلسفية وفكريةٍ ونظرية، وبمقدارِ التَّوسع، تتسع دائرة السؤال، والتي بحاجةٍ إلى إجاباتٍ تتجاوز “المفردات الغريبة”، أو هذا المعنى ما المقصود به؟! واتساع دائرة السؤال؛ تفتحُ المجال للخوض في تناول النَّص القرآني بطريقةٍ تختلف إلى حدٍّ ما مع الطريقة الأولى التي اتُفقَ أن تجتمعَ فيها كل عوامل الفهم، ومنها بدأتْ المفاهيم بالانفصالِ والاستقلال!

ولأنَّ النَّص القرآني؛ هو الوثيقة المركزية الأولى في الانطلاقِ لتأسيس الأفكار وتشييدها؛ طمع كلُّ توجه أن يكونَ له نصيبٌ من القولِ فيه، ومن هنا تشعبَّت مدارس التَّأويل، وتعدَّدَت، واختلفَ التَّناول باختلافِ الاهتمامات والغاياتِ من عمليةِ التَّأويل أو التَّفسير. وفي هذه الفترة بدأ عِلمُ “التفسير” يتشكَّل بصورةٍ مستقلة، تأخذُ طابعًا شاملًا؛ كون المتصدي لعمليةِ التفسير بحاجةٍ إلى امتلاك أدوات التعامل مع النَّص القرآني، والاحاطةِ بالعواملِ المؤسِّسَة لفهمه؛ للانتقال من مرحلةِ “الأساس” إلى مرحلةِ “التَّأسيس” لعلوم وتفسيرِ القرآنِ الكريم.

وامتدَّت عملية التفسير والتأويل في الانتشار، وباتَا مطلبًا لكلِّ عصر، فتعدَّدت التفاسير، ما بينَ اختصارٍ، وتعليقٍ، وتحشية، وما بينَ تكرارٍ وتدويرٍ بشكلٍ أو بآخر، بما يراه (المفسِّر) مناسبًا للعصرِ والبيئة التي تحيطُ به، واستمرَّ هذا العطاء حتى عصرنا الحاضر!

ثم تطوَّرَت طرق التَّناول؛ ودخَلَ على خطِّ التأويل من تناوله من زوايا أخرى، كتحليل الخطاب، وتفكيكه، وإعمال بعضِ المناهج الغربية في دراسةِ النَّص القرآني، باعتباره مضمونًا إلهيًّا، لكنَّه تنزَّل بلغةِ البشر وخَضَعَ لقوانينِ اللغة، وهذه إحدى المسائل الكبرى في درسِ التَّفسير المعاصر، والتي ينتهي بها المطاف إلى المحاولةِ في تجريدِ النَّص من قدسيته وإلباسه ثوبًا بشريًّا، قابلًا للتناولِ والنَّقد!

وقد تزامنَ هذا الاهتمام مع ظهور مدرسة نقد الكُتُبِ المقدَّسة في الفكرِ الغربي الحديث، التي كان من رموزها اسبينوزا، ورينان، وقد كانت هذه المدرسة وما زالت تنظر إلى الكتب المقدَّسة بوصفها نتاجًا بشريًّا له علاقة بالبيئةِ الثقافيةِ والحضاريةِ التي جاءت فيها هذه النصوص، لذلك عكفت على دراستها في ضوء الوثائق التاريخية، وأخضعتها للنَّقد التاريخي من حيث الشكل والمضمون.

وظهرت ملامح هذا التوجه في محيطنا الإسلامي، إثر محاولاتٍ عصريَّة لفهمِ القرآن الكريم وإعادةِ تفسير بعض آياته، وصولًا إلى تفاسير حملت عناوين مثل “قراءة معاصرة”، معتمدةً على مناهج غربية، وملقيةً ورائها التفاسير القرآنيةِ السَّابقة، ويأتي على رأس هذا المسار، بعض المنشغلين بالفكر وإشكالياتِ التَّأويل؛ كحمد أركون، وحسن حنفي، وعبد المجيد الشرفي، ونصر حامد أبو زيد. “وهذا النَّوع من المقاربات للنصِّ القرآني، وهذه المقاربات التفسيرية؛ لا تلقى أي صدى في المجتمعات”، كما يجزم بذلك المفكِّر التونسي “أحميده النيفر”.

ولعل ذلكَ من آثارِ الحفظِ الإلهيِّ للقرآنِ بـ “مفهومه الشَّامل”[3]، إذ تتساقط أمامه عشرات ومئات الدَّعاوى والتأويلات التي تخرجه من دائرةِ المقدَّس، إلى حيِّز النَّص البشري!

وعند العودة إلى السؤال الجوهري؛ لماذا يسَّرَ الله القرآن، وعقَّدتْه التَّفاسير والتأويلات المختلفة، أو بطريقةٍ أخرى، ما الدَّافع لكلِّ هذه التَّفاسير، والنَّص يُسِّرَ فهمه من عندِ الإله؟!

يجب ابتداءً أن ندركَ أنَّ اليُسْر في القرآنِ لا يعني “سهولة الفهم” بالشكلِ العفوي لهذا المعنى، وإنما السُّهولة واليسر هنا؛ تشبه إلى حدِّ ما، تسخير الكون للإنسان، فـتيسيره من الله تعالى، كتسخير الله تعالى الكون للإنسان ﴿ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ الجاثية: ١٣. فهذا التسخير الإلهي لا يعني سهولة التَّناول لسننِ الله في الكون دون أخذٍ بمقتضياتها، وإنما تحتاجُ إلى جهدٍ بشري، وإعمالٍ للعقل، وبحثٍ وأخذٍ بالأسباب، وكذا التيسير في القرآن؛ يحتاج إلى جهدٍ بشري، ومكابدةٍ بشرية، فلا يمكن أن نفهم عملية التفسير على أنها لا تحتاج إلى أي جهدٍ وتأملٍ ونَظَر، وإعمالٍ للعقل والفكر، واستخدام لأدوات الفهم، فالله سبحانه وتعالى ذكر أنَّ الكون مسخرٌ لنا، ولكنه طالبنا بالكدحِ وطالبنا بالجهد، وتكاد تتسقُ هذه الفكرة مع فكرة تيسير القرآن، فالتيسير هنا؛ هو إتاحةٌ لمدِّ يد المساعدة للإنسان حتى يتولى مهمته الأساسية، لكنَّ هذه الإتاحة تحتاج من الإنسان، إلى عملٍ حقيقي على مستوى الفهم، وعلى مستوى مراجعة هذا الفهم، إذا أخذنا في الاعتبار أنه ليس هناك فهم أمثل، لأننا نعتقد أنَّ النَّص الإلهي لا يمكن أن يحجر عليه فهم ما، مهما كانَ هذا الفهم، إلا فهمُ النَّبيِّ وبيانه عليه الصَّلاة والسَّلام. فلذلك من الممكن أن نعتبر تيسير الذِّكر؛ نوعٌ من مساعدة البشر على أن يرتقوا باستمرارٍ لفهمِ مبتغى الله ومقصده، مع مراعاةِ ظروفهم واحتياجاتهم الآنية!

وما يؤيد هذا الفهم؛ النُّصوص القرآنية المتظافرة التي توصي بتدبُّرِ القرآن، والتَّفَكُّر والتَّأمل فيه، والتَّدبُّر عملية حفرٍ عميقة في مضمونِ النَّص، لتأمّل مضمون الخطاب الإلهيِّ في القرآن، ومن تَدَبَّر وأعْمَلَ عقله في فهمه؛ يسَّرَه الله له!

والأثر الذي أورده الإمام الطبري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، يؤيد فكرة التيسير والمراد بها، وذلك في قوله: “التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ: وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها، وتفسير لاَ يُعذَر أحدٌ بجهالته، وتفسيرٌ يعلمه العلماء، وتفسيرٌ لاَ يعلمه إلا الله تعالى ذكره [4]“. فتخصيص العلماء بتفسيرٍ لا يعلمه أحدٌ سواهم، يفيدُ إعمالَ التفكر والتدبر للوصول إلى المعنى المراد، وتيسير الفهم لمن سلكَ الطُّرقَ الصحيحة لتأويلِ وتفسير القرآن، وهي مبثوثة في مدوناتِ علومِ القرآن كالبرهانِ والإتقان.

ولتقريب فكرة “التيسير والتسخير” التي ذكرتها آنفًا، نستشهدُ بفكرةِ “الحفظ الإلهي” للقرآنِ الكريم،﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾الحجر: ٩. والسؤال المتبادر إلى الذِّهن: لمَ اشتغلَ الصحابة بجمعِ القرآن في المصحف وقد وعَدَ الله تعالى بحفظه، وما حفظَه الله فلا خوفَ عليه؟!

وقد وقفتُ على جوابٍ بديعٍ للإمامِ الفخر الرَّازي، حول هذا التساؤل، الذي يشبه إلى حدٍ كبير، سؤال تيسير الفهم، وتعدُّد التفاسير التي توحي بصعوبةِ النَّصِ القرآني وحاجته للدِّراسة، قال رحمه الله: “إنَّ جَمْعَهم لِلْقُرْآنِ كانَ مِن أسْبابِ حِفْظِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ فَإنَّهُ تَعالى لَمّا أنْ حَفِظَهُ قَيَّضَهم لِذَلِكَ “[5]. وعليه؛ نقول: أنَّ التَّفاسير المبثوثة حولَ النَّص القرآني، كانت من أسبابِ تيسيره. فقيَّضَ له العلماء الراسخين يحفظونه “بالتلاوة والحفظ والفهم”، ويذبّونَ عنه إلى آخرِ الدَّهر.

وبيانُ القرآن وتفسيره؛ لا ينبغي أن يكونَ حاجزًا عن غايةِ البيان، وهو الوضوح، وإظهار المعنى، وإلا لأصبحَ التفسير عبئًا على النَّص، وسببًا من أسبابِ حجز المتلقي عن فهمه، ومن هذا الوجه؛ يصحُّ القول: بأنَّ بعض طرق التناول للقرآن؛ كانت سببًا في تعقيده، أكثر من كونها تمارسُ عملية التَّفسير بمعناه البدهي، وهذا التكلُّف، وليِّ عنق النصوص، هو الذي حدا بكثيرٍ من العلماء؛ أن يحذروا من اتخاذ بعض التفاسير أو التأويلات واسطة للفهم بين الملتقي وبين النَّص القرآني؛ لأنها تقفُ حاجزةً له عن الفهم، أكثر من مساعدته على التأمُّل وإدراك مرامي مقاصد وغايات القرآن العظيم!

وفي الأخير؛ نحنُ أمام نصٍّ إلهيٍّ معجز[6]، كلما مرَّ به الزَّمن، توهَّج، وتمكَّن من أخذِ مكانه كأعظمِ كتابٍ تناولته الأيدي والعقول، وستبقى عملية التفسير والتأويل قائمة حتى يرثَ الله الأرض، لأنها استجابة طبيعية لحاجةِ الإنسان في القرب من كتابِ ربّه، كما أنها من وجهٍ آخر تدلُّ على يقظةِ المجتمع، والوعيِّ المجتمعي، من خلالِ استعداده المتواصل على أن يلتحمَ بجذوره التي تأسَّست عليها حضارته، فمن هذه الناحية، تبقى عملية التفسير المستمرة، ظاهرة صحية، لكنها تخضعَ للنقد والتمحيص، ومدى تحقيقها للغاياتِ الكبرى في تثويرِ النَّص، ومدى قدرتها على تجاوز الخروج من حالةِ المأزق التي يسميها بعض الباحثين المعاصرين “مأزق المعنى” بمعنى: عملية ربط الماضي بالحاضر، والعيش في حالةٍ أشبه ما يكون بحالة الفصام.

ومن الممكن، أنْ نرى في استمرار عملية التَّفسير في واقعنا المعاصر، تجسيرًا وربطًا للعلاقة، بصورةٍ إيجابية بينَ “الماضي وبينَ مقتضياتِ الحاضر”، وهي بالمجمل ظاهرة صحية، وإن لم توفَّق إلى نتائج حقيقيةٍ كبرى، نأمل أن تصلَ إليها.


[1] ومثال ذلك ما رواه عَديّ بن حاتم في قوله: لما نزلت هذه الآية: ” وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ”، عَمَدت إلى عقالين، أحدُهما أسود والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما فلا تَبَيَّن لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت. فقال: “إنّ وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل”، ينظر: مسند الإمام أحمد المسند (4/377)؛ تفسير ابن كثير: (1 / 513).

[2] المعجم الكبير للطبراني: (10 / 238).

[3] الحمل على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلة في حقّيته. ينظر: تفسير أبي السعود :(5 / 68).

[4] تفسير الطبري: (1 / 75).

[5] تفسير الفخر الرازي: (1 / 2661).

[6] وبقاء هذا الكتاب مصونًا عن جميع جهات التحريف مع أنَّ دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات. ينظر: تفسير الفخر الرازي: (1 / 2661).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى