- اسم الكتاب: الدحيح: ما وراء الكواليس
- المؤلف: طاهر المعتز بالله
- الناشر: دار الشروق
- سنة النشر: 2021
- عدد الصفحات: 261
“الدحيح مش بيقدم علم ولا معرفة، الدحيح بيحكي قصة” (ص14)[1]
“البرنامج في النهاية برنامج ترفيهي، مش مركز بحثي أكاديمي” (ص215)
بعد محاولات شاقة لرفع الغطاء الوثير في صباح بارد…ومحاولة رفع الجفون في هذا الوقت من اليوم -التي أحيانا ما تكون أصعب من رفع الأثقال- وتجهيز حقيبة “الأثقال” بعد نومٍ تعيس، والخروج لقضاء يوم شاق آخر في هذه البناية الغريبة، مع أشخاص يلقنونك أشياء أنت لا تعرف ما الفائدة منها، وترى أنه عليك تصديقهم فقط لأنهم سبقوك إلى هذا العالم ببضع سنين…
تقريبًا تنقضي سنوات التعليم، ولا يعلق بالذاكرة سوى هاته الذكريات، مع بعض اللحظات السعيدة مع الأصدقاء؛ أما العلم -الذي من المفترض أن يكون مكانه المدرسة- فغالبًا ما يذهب هباء، ولا يتذكر صاحبه منه شيئًا.
ما الغرض من العلم؟ وما الغرض من المدرسة؟ وهل هما متطابقان؟
رغم أن المعادن واحدة في العالم كله، ومع أن عبارة “المعادن تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة” تقريبًا لا يخلو منها كتاب العلوم في أي منهج تعليمي؛ إلا أنه ربما يظل الطفل طيلة اليوم يردد في الصف عشرات المرات خلف أستاذه: “تتمدد المعادن بالحرارة وتنكمش بالبرودة”، ولكن عندما يعود إلى المنزل، لا يتمكن من فتح علبة لها غطاء معدني مُحْكَم الإغلاق!
هنا نحن أمام حالة تستدعي التوقف؛ فالطفل أو الصبي هنا لديه معرفة -نظرية- جيدة عن المعادن، ومن المفترض أن تساعده هذه المعرفة النظرية في التعامل مع العالم الواقعي، لكن ما يحدث غالبًا هو أنه لا يلجأ لهذه المعلومة، ويرتجل حلولًا أخرى، فقط لأن أحدًا لم يخبره أن حصة العلوم مفيدة في مثل هذه الأشياء، ولأن معلمه كان مشغولًا جدا بأن يحفظ طلابه “تتمدد المعادن بالحرارة وتنكمش بالبرودة”، ولا يهمه بعد ذلك أن يصلوا بهذه المعرفة النظرية لشيء ذي بال في الواقع.
لدينا من جانب مئات الآلاف من الطلاب الذين استوعبوا منهج العلوم في مراحلهم الدراسية المختلفة، ولكن انتفاعهم به يتوقف فور تسليمهم ورقة الإجابة في اختبارات نهاية العام؛ وعلى الجانب الآخر هناك العالم الواقعي، العالم الحديث، حيث العلم -في تطبيقاته المختلفة- في مركز أدوات الهيمنة والقوة؛ الأمر أشبه باستعمال وقود الطائرة في تسيير دراجة بخارية، أو الذهاب إلى متجر قريب من المنزل بطائرة خاصة.
من هذا الانفصام تولد لدى الشباب العربي تساؤلات عدة عن جدوى ما أنفقوا فيه سني طفولتهم؛ ما فائدة حشائش السافانا؟ وما هذه الـ “جا” و الـ “جتا” التي صدعت رؤوسنا…مَن نيوتن هذا الذي أسهرنا ليال طويلة؟ ومن فيثاغورس هذا الذي كان يحب اللعب بالمثلثات لينغص عيشنا؟ ماذا عن هذه الحصة الغامضة المسماة بحصة العلوم، وهذا المعمل الذي لم يروا فيه شيئًا مختلفًا عن فصولهم الدراسية، لماذا سُمّي معملا أصلا وهو لا يختلف عن أي مكان في المدرسة!
ولأنه لا أحد يكره العلم -ومن كرهه فقد كره الطريقة التي تلقاه بها فقط- ولأن العلم بحد ذاته جميل وشيق وجذاب، وثمة تربة خصبة متعطشة للفهم لدى الشباب العربي= كان من الطبيعي جدا أن تنجح البرامج التي تستعمل التقانة الحديثة لتقريب العلوم للناس بأسلوب سهل وممتع وغير ممل (مخالف لأسلوب التلقين، وغير مرتبط باختبارات مملة)، وفي نفس الوقت تكمل مهمة المعلم والمدرسة في حصة العلوم؛ لاسيما مع تمكُّن القلة فقط من الحصول على تعليم ذي مستوى عالٍ يغنيهم عن هذه البرامج، نظرًا لارتفاع تكلفته.
**********
رغم كل ما كتب وقيل؛ فهذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن برنامج “الدحيح”؛ وذلك لأنني أعتمد فيما أكتب مقولة “الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره”؛ ولأنني أعرف أن الجزء الأكبر من الصورة خلف الكاميرا وليس أمامها، وأن ما يبدو لنا على اليوتيوب ليس سوى جزء صغير من الصورة الكاملة= آثرت عدم الحديث حتى تتبين لي الصورة الكاملة، وهذا ما وجدته في هذا الكتاب الذي كتبه أحد أهم كُتَّاب حلقات البرنامج، طاهر المعتز بالله، ليقدم لي “الكواليس” التي كنتُ أنتظرها لأكمِّل بها الصورة، ولو كان الكتاب غير ذلك لما صحّ أن أعتمده في بناء فكرتي عن البرنامج ككل. فميزة الكتاب أن مؤلفه كان -حرفيًا- خلف الكواليس، وأسهب في حكاية الكثير من الكواليس التي لا تظهر على الشاشة، و كما يتضح من محتواه فهو لم يذكر شيئا ينكره أو يستنكره لا أحمد الغندور ولا غيره من الكُتَّاب، فناسب أن يكون هو المعتمد في إكمال الصورة. أما الاعتماد فقط على محتوى الحلقات، دون إلمامٍ بالكواليس وبناء نظرة تجاه البرنامج من خلالها= فهذا المسلك لم يرُق لي الدخول فيه، وإن ارتضاه آخرون منهجًا للنقد والتحليل.
لم يدهشني صدور كتاب عن الدحيح؛ بل إنني من أنصار أن البرنامج ونجاحه ظاهرة جديرة بالدراسة، وهذا بالطبع لا يعني شيئًا إيجابيا أو سلبيا؛ كل ما في الأمر أن حجم تأثيره وسرعته وعمقه في مجتمعنا العربي= كلها أشياء جديرة بالدراسة والتحليل، ومن هذا التحليل فقط يمكن تقييم التجربة ككل والحكم عليها بتبيُّن آثارها.
ليس معنى أن البرنامج مهتم بتبسيط العلوم أنه “علمي”؛ وليس معنى أنه “يتكلم في العلم” أنه يستهدف إصلاحًا.
وهاتان الفكرتان هما أهم الأفكار التي استخلصتها من الكتاب؛ والحقيقة أن غرضي من وراء قراءة الكتاب كان بالأساس التعرف على الأفكار الكبرى للغندور نفسه ولفريقه، وليس التركيز على التفاصيل والمسائل الفرعية ومناقشة أخطاء محتوى الحلقات إلا في هذا الإطار الأوسع؛ فظاهرة الدحيح أكبر من محتوى حلقاته؛ وهذا ما لم يبخل الكاتب ببيانه. وفي رأيي أن تكوين أي رؤية وتحليل لظاهرة الدحيح يجب أن يعتمد هذه الأفكار، لأنها تفسر العديد من الجزئيات التي كان من الممكن تناولها بطريقة أعمق لو أخذت هذه الأفكار بعين الاعتبار. من ناحية أخرى، فإن التحليل السليم لأي ظاهرة لابد وأن يستند إلى أصولها ومنطلقاتها الكبرى وليس إلى جزئيات تحتمل التأويل.
************
“[الغندور] شخص مش مهتم بتغيير العالم، ولكن مهتم بفهمه” (ص49)
“…في الوقت ده الغندور كان مشهور نسبيًا، لكنه رفض المشاركة في الحركة [حركة اتحاد طلاب الجامعة الأمريكية بالقاهرة للضغط على الجامعة احتجاجًا على زيادة المصاريف، رغم تحقيق الجامعة فائض ميزانية 12 مليون دولار]، رغم اقتناعه بعدالة مطالبها…وشايف انه شخص مهتم بفهم العالم مش بمحاولة تغييره…هو مهتم يعرف إيه اللي بيحصل مش ايه اللي المفروض يحصل…وعشان كده معندوش مشكلة يبان متخاذل” (ص86-87)
“الدحيح غير مهتم إطلاقا بالتأثير على سير الأشياء بقدر اهتمامه بفهمها” (ص205)
“[محمد] عيطا [أحد كُتّاب الحلقات] بيهتم بالأشياء للأشياء، مش بالضرورة للنفع اللي ممكن يجي من ورا الأشياء…بيحب المعرفة للمعرفة”. (ص149)
هذه هي أكثر فكرة تكررت في الكتاب؛ وربما هي حجر الرحى الذي تدور من حوله سائر التفاصيل الأخرى، وفي رأيي أن تأثير هذه الفكرة عميق جدا؛ سواء على محتوى البرنامج أو على مستوى تعامل الفريق مع الانتقادات التي وُجهت له. فوسط الكم الهائل من الانتقادات التي وُجهت لمحتوى البرنامج لم يرد الفريق -بنفسه- سوى على نقد واحد هو النقد الذي وُجه لحلقة كوكب اليابان، وما سوى ذلك -وعلى وجه التحديد النقد الذي وجهه الإسلاميون- فلم يُقابله الفريق سوى بالصمت. ببساطة؛ المنتقدون مهتمون بتغيير الأشياء، وما يجب أن يكون، في حين أن الدحيح وفريقه لا يعنيهم في شيء تغييرُ العالم، واهتمامهم كله “بما هو كائن”.
إن إدراك هذه الفكرة الكبرى التي توجه الفريق مفيد في حل معضلات كثيرة؛ ومفيد أيضا في وضع البرنامج في مكانه الصحيح بعيدا عن ضجة المعجبين وتهويل العاشقين؛ فالدحيح -الشخص والفريق- لا يستهدف إصلاحًا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة؛ ورغم أن الكثير من المعجبين قد يرون أن البرنامج مفيد جدا وجميل، لكن الإفادة والتسلية وتبسيط العلم شيء، والإصلاح شيء آخر. إن من يريد الإصلاح أولا عليه الاعتراف بوجود مشكلة ما، وهذه المشكلة يجب أن تكون محددة بدقة، ثم عليه أن يفكر “فيما يجب أن يكون”، ولا ينظر إلى “ما هو كائن” إلا للتفكير في كيفية تغييره. وإذا كان الدحيح -الغندور والفريق- يرفع شعار “التركيز على فهم ما هو كائن فقط، دون محاولة تغييره”، ولا يعنيه سوى فهم العالم والمعرفة من أجل المعرفة، ويفضل دائمًا عدم الاشتباك مع ما هو كائن= فليس من الحكمة القول إن لديه أجندة وثلة من الأفكار يريد الترويج لها عن عمد، كما أنه ليس من الصائب رفعه إلى مكانة فارس الإصلاح والتنوير وهو أصلا لم يعر التغيير أي اهتمام. قد يكون البرنامج مفيدًا للبعض، مسليًا للبعض الآخر، علميًا بالنسبة لآخرين، لكن بالتأكيد أن بينه وبين الإصلاح والتغيير بونًا شاسعًا.
من ناحية أخرى، يجب أن توضع مقولة التمييز بين “ما هو كائن” و”ما يجب أن يكون” في موضعها الصحيح من بنية الفكر الحديث بوجه عام؛ فالدحيح باعتباره “ناقلا” غير ممحّص للعلوم كما تظهر في تأسيسها الأوروبي واعتماده فلسفتها السائدة = كان لابد وأن تتسرب إليه العديد من المنطلقات والرؤى الكلية الحداثية، ومنها -بل من أهمها- مقولة التمييز، واللامبالاة تجاه الواقع، وترك المجال العام بأكمله بيد الاقتصاد والسياسة؛ فمجرد تبني هذه الفكرة دون وعي بلوازمها على تناول المعرفة = يقود صاحبه إلى مفاوز بعيدة تنتهي به إلى الاصطدام ببنى الفكر غير الحديثة التي لا تزال بقاياها الهزيلة تعمل في المجتمعات الإسلامية؛ ولعل هذا هو منشأ الصدام المحموم بين محتوى البرنامج وما يراه بعض النقاد مضامين إلحادية.
قد يقال إن مجرد تبسيط العلوم وتقريبها للعامة وتحبيبهم فيها هو إصلاح بحد ذاته؛ وأقول:
“عزيزي القارئ” لا أحد يكره العلم، حتى من طُردوا من الفصول، ورسبوا في جميع المواد يحبون العلم، ويحبون أن يفهموا كيف يعمل هذا العالم، هم فقط كرهوا الطريقة التي تعلموا بها. أي طفل في العالم تستطيع إبهاره ببعض التجارب الشيقة، والمبادئ الفيزيائية البسيطة، والتجارب الكيميائية كفيلة بإبهار أي أحد؛ ولا أظن أن أحدًا لو عرضت له حقائق الكون والطبيعة بأسلوب شيق وممتع وفكاهي ترفيهي وعلى شكل قصة سيبغضها. لا أحد يكره العلم.
الدحيح يكمل مهمة أستاذ العلوم في المرحلة الابتدائية، هذا كل ما في الأمر.
من ناحية أخرى؛ شتان بين إصلاح يأتي “أثرًا جانبيًا”، وبين إصلاح مقصود وممنهج. ولست هنا بصدد محاكمة هذا المنهج الذي ارتضوه، بل فقط أريد وضع الأمور في نصابها، وعدم وضع الدحيح في مكانة هو نفسه لم يسع إليها؛ فالدحيح لم يستهدف تغيير شيء.
لو تخلينا مثلا أنه سيقدم حلقة عن قنبلة هيروشيما، فكيف ستكون؟
يمكننا الحديث عن هيروشيما بثلاثة طرق؛
الأولى: الحديث عنها من الناحية العلمية المحضة؛ بمعنى شرح المبادئ العلمية الكامنة وراء صناعة القنبلة، وبعض المعادلات الرياضية وتاريخ الاجتهادات العلمية التي بذلت من أجل الوصول إلى وسيلة لشطر النواة، والقوة التدميرية لهذه القنبلة وكم فرد لقي حتفه في ثوانٍ قليلة، والغبار النووي، بجانب شيء من تاريخ الحرب العالمية الثانية وملابساتها…إلخ. بعبارة أخرى: ما الذي حدث؟
الثانية: تناول الموضوع من ناحية قيمية؛ بمعنى الحديث عن الإجرام الغربي، وقتل ملايين الأبرياء في سبيل إجبار اليابان على الاستسلام، وأي مبادئ أخلاقية يمكنها تبرير هذه الفعلة، والتناقض الأخلاقي الكامن في الإمبريالية الغربية…إلخ. بعبارة أخرى: كيف ولماذا حدث؟
الثالثة: مزيج بين هذا وذاك؛ بمعنى الحديث عن الحافة التي يمكن أن يوصلنا إليها العلم إذا كان منزوع القيمة، وكيف أن الإنتاج العلمي مهما بالغنا في إيجابياته، فمن الممكن تحويله إلى سلاح فتاك يتسبب في قتل ملايين الأبرياء، وكيف أن الأرقام والمعادلات لا يمكنها أبدا أن تخبرنا بالمبدأ الأخلاقي الذي نحن على وشك اختراقه.
بعد قراءتي للكتاب، والاطلاع على بعض الحلقات، ليس عندي من شك في أن الحلقة لن تخرج كثيرا عن السيناريو الأول. وهنا تكمن المشكلة؛ أن هذا المبدأ بالفعل يُظهر صاحبه أبلهَ في بعض المواطن، ومتخاذلًا -مثلما قال الكاتب- في مواطن أخرى.
تخيل أن يخرج صانع محتوى ياباني يحدِّث أهالي هيروشيما عن القنبلة والمعادلات الرياضية التي وظفتها وعدد من ماتوا ودرجة الحرارة في الدقائق الأولى من الانفجار…إلخ، ولا ينبس ببنت شفاه عن الملايين الذين لقوا حتفهم ولا ناقة لهم في الحرب ولا بعير! بالطبع لن يعدو كونه مهرجًا بالنسبة للمستمعين الذين لا تزال ذكرى المأساة تتردد في وعيهم.
نفس الشيء يمكن أن نقوله عن حلقة الأخوّة من الرضاعة؛ فالواقع -الذي يصب عليه الفريق كل اهتمامه كما بيَّن الكاتب- هو أن حلقاتهم تُذاع في الوطن العربي، حيث الدين فاعل ومحرك اجتماعي أساسي. وسواء رضي الفريق عن هذه الحقيقة أم لا، فهي قائمة وموجودة. لذلك فعندما تخلو الحلقة من أي حديث عن هذا التشريع الديني ففي الحقيقة هذا ليس تركيزًا على العلم، بل تجاهلٌ للواقع الذي يقول الفريق إنه يستهدف فهمه.
ولست أريد هنا الخوض في التفاصيل التي ذكرها الكاتب، لكن التبرير الذي ذكره لعدم التعرض لهذا التشريع في الحلقة، أن الأخوة من الرضاعة موجودة قبل الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعتبر مرضعته حليمة السعدية وأهلها من أهله قبل نزول التشريع (ص249) = ليس بصحيح. فرغم أنني لم أقف على دليل يثبت وجود التحريم بالرضاعة (كما شرعه الإسلام) قبل الإسلام، إلا أنه حتى لو وُجِد، فلن يكون بعمق وتعقيد التشريع الفقهي. أما فيما يتعلق بمرضعة النبي، وأنه كان يعتبر أهلها من أهله حتى قبل الرسالة، فإن إسلام حليمة نفسه مختلف فيه، وإن كان الأقرب أنها أسلمت، لكن متى؟ الأرجح أنها أسلمت بعد غزوة حُنين (شوال عام 8هـ) وذلك من الحديث الذي يشير إلى إكرام النبي لها ولعشيرتها لأنهم حضنوه صغيرًا؛ لكن سورة النساء التي فيها تحريم الأخوة من الرضاعة نزلت عام 7هـ، لذلك لا يستبعد أبدا أن هذا الإكرام كان نابعًا من التشريع الذي ورد في سورة النساء، وليس قبله. لذلك فالمبرر الذي ذكره الكاتب ضعيف في نظرنا.
ثم تابع الكاتب بسؤال: “هل دي نقطة كان لازم يتم تغطيتها في الحلقة، مين بيحدد لازم ولا مش لازم، وليه لازم أصلا” (ص249). هل كان من الواجب تغطيتها؟ جوابي هو نعم، لماذا؟ لأسباب عدة، منها أنه سواء كانت الأخوة من الرضاعة موجودة قبل الإسلام أم لا، فلو لم تنص سورة النساء على هذا التشريع، ولو لم يفصله الفقهاء في كتبهم ليكون له حضور اجتماعي في المخيال الديني= فعلى الأرجح لن تكون هناك حلقة عنه، ومن ثم فإغفال هذا الجانب من الحلقة قصورٌ في تناول الموضوع من أهم جوانبه. ومن ناحية أخرى، فالذي يحدد ما الذي يجب تغطيته وما الذي لا يجب تغطيته في الحلقة -عزيزي المؤلف- هو ببساطة طبيعة الموضوع، وخلفية الشريحة التي تخاطبها؛ واستحضار مثال هيروشيما مفيدٌ هنا.
إن الحديث الذي ينأى بنفسه عن القيم -التي تتعامل مع ما يجب أن يكون- لا يصلُح في كل القضايا، لاسيما وأنت تقدم محتوى في منطقة عربية؛ ولا تعارض أصلا بين الحديث العلمي والقيمي، حتى يكون التركيز كله على وصف الواقع وفهمه، دون الحكم عليه، بل إن هذا يصل أحيانا إلى تجاهل أجزاء كاملة من الواقع لأنها تتطلب حكما قيميا، أو استحضارًا للدين؛ وهذه الخانة غير مفعلة لدى الفريق كما قرر الكاتب (ص238). كما أنه لا تلازم بين استهداف الإصلاح وبين الأدلجة والتحيز، ولا تعارض بين أن تستهدف الإصلاح وأن يكون كلامك علميًا؛ لكن كما قلت آنفًا: الإصلاح يبدأ بإدراك المشكلة وهذا ما لم يفعله الفريق من الأساس؛ وهذا ظاهر جدا في محتوى الحلقات. ورغم أن هذه الكلمة سيئة السمعة، فإنني أجرؤ على وصف الدحيح وفريقه بالمحافظين؛
حتى عندما يتكلم في العلم؟ نعم عزيزي القارئ!
وهنا يأتي الكلام عن أصول المحتوى العلمي؛
صحيحٌ أنني قلت إن الدحيح يكمل مهام مدرس العلوم، لكن من قال إن هذا هو العلم؟
**********
“البرنامج كان واضح من الأول في تفضيله عدم التعرض لأي أمور دينية أو ميتافيزيقية، وده للتركيز على العلم مش لتجاهل الدين” (ص238).
“قرأ [الغندور] خلال المرحلة الإعدادية كل كتب ستيفن هوكينج” (ص23).
“قدر [الغندور] انه يشرح مواضيع في منتهى التعقيد بكل سلاسة، لأنه كان بيحكي قصص مش بيشرح محاضرات” (ص45).
“ورغم أنه مكنش بيحبه ولا بيعترف بيه [علم النفس] وبيعتبره زي أغلب أفرع الإنسانيات: علم زائف pseudo-science، مليان فرضيات بلا إثباتات”. (ص63)
“الموضوع جذب اهتمامه، بس اتردد يعمل حلقة لأنه مش خبير في الاقتصاد، ولكن بعد ما حضر ندوة لعمر الشنيطي عن التعويم وآثاره قال مبدهاش وبدأ تحضير حلقة عن تاريخ الاقتصاد المصري الحديث”. (ص95)
“قراءته [عمر الجمال أحد كُتَّاب الحلقات، ورفيق الغندور] للجرنان خلته مثقف في وقت كانت الثقافة فيه عيب”. (ص153)
بداية من منتصف القرن الماضي شهدت الكتابة الفلسفية العربية ازديادًا مطردًا في الكتابات المهتمة بفلسفة العلوم، ونظرية المعرفة، وقد كان الغالب على هذه الكتابات طابع النقل وإعادة الإنتاج والترجمة للمنتج الغربي -الإنجليزي على وجه الخصوص- الذي كتب في فترة ما بين الحربين، وبعد الحرب العالمية الثانية بفترة قليلة، وقد سادت تلك الحقبة مقولاتُ الفلسفة التحليلية ممثلة في حلقة فيينا (التي يعد الدكتور زكي نجيب محمود أبرز ممثليها العرب)؛ وقد تشبعت الممارسة العلمية ودراسة العلوم بمختلف اتجاهاتها بمقولات حلقة فيينا، رغم أن نجمها قد أفل سريعا في الغرب.
ثم ظهرت كتابات كارل بوبر، والتي لم تكن نقدا حاسما لطرح الفلسفة التحليلية (ممثلة في كتابات هانز ريشنباخ ورودولف كارناب)؛ وسرعان ما دخلت كتابات بوبر نطاق الفلسفة العربية على يد الدكتورة يمنى طريف الخولي، بترجمة العديد من كتبه، ثم بإعدادها رسالة الدكتوراه حول فلسفته.
في الوقت الذي هيمنت فيه فلسفة بوبر (ترجمة وتأليفا) على سائر الإنتاج العربي المتعلق بفلسفة العلوم -ولا يزال ذلك جاريا إلى الآن، حتى بعد ترجمة كتب ناقديه- إلا أن بوبر في الغرب لم يحظ بتلك المكانة والهيمنة التي يتمتع بها في الوسط العربي؛ إذ سرعان ما أصدر توماس كون، وبول فييرابند أطروحاتهم الناقدة له، ولمقولات التحليليين عموما؛ ثم مؤخرا ذهب لاري لودان إلى أبعد ما يمكن أن تصل إليه فلسفة العلوم بنقض مقولة التقدم في العلم.
لم تترجم الكتابات الناقدة لفلسفة بوبر إلا في فترة متأخرة، ولم تحظ بنفس الاحتفاء والأهمية التي حظيت بها كتابات بوبر لا على مستوى الترجمة، ولا على مستوى الدراسة وإعادة الإنتاج؛ ومن ثم شكّل التلقي العربي لفلسفة العلوم كما رسمها كارل بوبر الرافد الأهم لهواة القراءة حول هذا الفرع المعرفي، ويتطلب تجاوز فلسفة بوبر أو حتى الوقوف على ثغراتها العديد من الآلات والقدرات المعرفية والمهارة البحثية والفلسفية التي لا تتوفر غالبا لغير المتخصصين المعنيين بالمنتج الفلسفي الغربي، والقادرين على الاطلاع على سائر التيارات المناهضة له.
من ناحية أخرى؛ أثرت فلسفة بوبر على تناول الدراسين العرب لتاريخ العلوم، فصارت مقولات مثل: “قابلية الدحض” و”قابلية الاختبار التجريبي” وتصحيح العلم لذاته من داخله -لسهولة فهمها، وقرب مأخذها، وربما لسطحيتها- هي المقولات الأساسية الموجهة للفكر العربي السائد[2] حول العلم ونظرته للعلوم تأريخها وطريقة تدريسها في؛ وتشربها -بوعي أو بغير وعي- القراء العرب وصولًا إلى الدحيح. وبجانب هذه المقولات، ترسخت المقولات الأخرى التي عززتها الفلسفة التحليلية (لغو الميتافيزيقا)، ومعها التحييد العام الذي يمارسه العالم الحديث للشأن الديني وفصله عن العلوم الطبيعية وتأويل نتائجها، واعتبار ذلك من سمات الموضوعية والحياد والتركيز على العلم من أجل العلم.
هذا هو التوصيف العام للمقولات الكبرى التي تحكم الإطار الذي ينظر منه الدحيح -وغيره كثير من المثقفين العرب- إلى العلم والدين، وهو تشكل خطابي سائد، حتى صار نقده والخروج عليه يعد خرقًا للتيار المحافظ. وفي الاقتباسات أعلاه يبدو أثر هذه المقولات ظاهرًا بدرجة كبيرة، مع عجزٍ أكبر في القدرات والمهارات الفلسفية اللازمة لتتبع جذورها؛ فاعتبار الدحيح مثلا علم النفس علما زائفا -وهو عين ما قاله بوبر من قبل، ولا يقبله بحال علماء النفس- ليس إلا ثمرة رسوخ هذه النظرة المحافظة للعلوم، واعتماده على الكتابات الرائجة، بغض النظر عن عمقها.
كذلك إفصاح المؤلف عن أن البرنامج لا يتعرض للدين للتركيز على العلم = هو بحد ذاته نتاج رسوخ وهيمنة تيار محدد للعلم يفصله عن المجالات الأخرى؛ حتى لو كان لهذه المجالات اشتباك مباشر بما يقوله العلم. كما تعود سطحية بعض التصريحات سالفة الذكر إلى السطحية التي تعامل بها بوبر وأنصاره مع تاريخ العلم ومنهجه، وهو الأمر الذي أوضحه بما يغني عن مزيد بيان توماس كون في كتابه “بنية الثورات العلمية”.
بالنهاية؛ نحن أمام تكرار -وإن بشكل حديث- لنفس المقولات التي تدور رحاها منذ أكثر من خمسة عقود، دون اشتباك نقدي أو علمي معها. لذا؛ يرى كاتب المقالة أن التصحيح الأهم لصورة العلم لدى المثقفين العرب والمسلمين لن يأتي بكتابة المنشورات الطويلة وعمل الحلقات في “الرد” على الدحيح، بل التصحيح المثمر بالفعل هو إخراج وتثوير التيارات الموازية والناقدة لفلسفة بوبر وتوابعها الحديثة، وإعادة تأسيس النظر في تاريخ العلوم وبيان تبعات ومضامين الإطار العام الذي يتعامل به الغرب مع العلم.
[1] – صدر الكتاب بالعامية المصرية، وآثرت الحفاظ على لفظه كما هو؛ فلغة الكتاب نفسها لها دلالة على نوع الفكر الذي يتبناه صاحبه.
[2] – قيد “السائد” هنا احترازي لإخراج بعض الأطروحات الجادة التي ظهرت مؤخرا.
لعل من أهم وأقوى الناقدين لبوبر وتوماس كون وغيرهم من وضعوا أسساً نظرية للتطور العلمي بعقولهم.. هو: أ.د. (جميل أكبر) في كتابه الرائع: ( قَصّ الحَقّ.. العقل وحتمية الفساد).
تكلم عن ذلك في جزء من أول الكتاب، وخصص له فصلاً بعنوان: (المعرفة) لكنه لم ينشر.