الذكاء ماء في صحراء الحياة. يتوق الإنسان دوماً إلى أن يكون أكثر ذكاء، فالذكاء ممرُ لتحقيق ما يصبو إليه، وذلك أن الذكاء يجعل الإنسان أكثر قدرة على فهم العالَم، وتبين السبل الموصلة لتحقيق الغايات والاحتياجات، وفق رؤيته الكلية في الحياة.
ولأهمية الذكاء، اشتغلتْ الفلسفةُ كثيراً بمبحث الذكاء وقاربته بمداخل عديدة، وانتقل المبحثُ إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، فتكثف البحث العلمي في موضوع الذكاء من زوايا نفسية واجتماعية ونفس اجتماعية وأنثربولوجية وتربوية واقتصادية وسياسية وتقنية.
ومفهوم الذكاء لم يحظَ باتفاق العلماء حيال تعريفه كما هو معلوم، حيث تعددت التعاريف وتنوعت في سياقات تضيق حيناً وتتوسع حيناً آخر. لا يهمنا الجدل العلمي حول مفهوم الذكاء، حيث تعنينا دلالته العامة التي تتمحور حول معنى مباشر: الذكاء هو قدرات عالية تمكّن الإنسان من: الفهم العميق، والأداء الدقيق في مجال أو آخر.
ومما لا شك فيه أن الذكاء شرط للعلم والمعرفة والحكمة، وهو شرط لتنميتها وتثميرها، مما يستلزم وجود علاقات تفاعلية بين هذه المكونات بقالب ما، ليغذي بعضها بعضاً. وهذه العلاقات معقدة في الأدبيات العلمية ومطولة ومبهمة. سندع هذه الأدبيات في هذا النص، ونيمم وجهنا صوب المدونة القرآنية، لنلتقط خيطاً رفيعاً لإحكام هذه العلاقات وتجويدها. لننظر في هذه الآية الكريمة: “هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ” (الجمعة: 2). هنا نلحظ ترتيباً معيناً في الآية:
- تلقي المعرفة: تلاوة القرآن على المؤمن، ليكون أحد أهم مصادر المعرفة لديه، حيث يحتوي على هدايات عامة حيال الدين والإنسان والعالَم.
- تزكية النفس: عقب التلقي المعرفي وأثناءه، تجيء التزكيةُ للنفس، بتطهيرها من شوائب النوايا وأخلاط الأعمال، فتكون بذلك النفسُ: مفتقرة إلى الله مستغنية به.
- تحصيل العلم: بعد التلقي المعرفي والتزكية للنفس، يجيء تحصيل العلم بمسائله وتفاصيله، عبر التعلم والتلمذة والقراءة والممارسة والتجربة، ومراكمة العلم وتنظيمه وتثميره؛ وفق المناهج السديدة الناجعة.
- تحصيل الحكمة: بعد كل ما سبق، تتصلب قاعدةُ الحكمة في عقل المتعلم، فيتعلم أصول ومبادئها ومهاراتها ويمارس التفلسف الرشيد؛ وفق فلسفة مؤمنة: مفتقرة مستغنية.
وهنا نستذكر مقولة شذرية بديعة لابن تيمية يقرر فيها أن البعض: “أوتوا علومًا ولم يؤتوا فهومًا، وأوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً”. إذن، الآية الكريمة السابقة تقرر مبدأ “الزكاء سبيل الذكاء”، وذلك أن موضعة التزكية في الآية يدل على ذلك ويؤكده. والذكاء المراد هنا هو “الذكاء الذكي”، لا “الذكاء الغبي”، ونعني به “الذكاء الحق”، الذي يصلك بالحق ويصل الحق بك، فتعيش حميداً وتموت حميدا. وعند التمعن في هذا الترتيب العجيب، يمكن للمحلل أن يستخرج جملة من الحكم المترتبة على هذه العلاقة بين هذه المكونات، ومن ذلك:
- الهدايات: يظفر المتعلم المتزكي بالهداية العامة الكبرى، حيال الرؤية الكلية للإله والعالَم والحياة، فيؤمن أن ثمة إلهاً خالقاً مدبراً عليماً حكيماً، خلق العالَم وفق سنن مطردة، يمكن الوصول إليها عبر العلم والبحث والتجربة في ضوء حقيقة أن أصل المعرفة هذا الإله العليم الحكيم. وتتجذر شجرة التوحيد في نفسه لهذا الإله العظيم، ساعياً لجعل العلم سبيلاً لعمران الأرض بالحق والخير والعدالة والحرية والكرامة والسمو والرقي.
- الآداب: يتخلّق المتعلم المتزكي بآداب العلم والحكمة، فلا يكذب ولا يختلق، ولا يغتر ولا يظلم، ولا يسرق ولا يهمش غيره ولا يظلمهم، بل يتعاون على بر المعرفة وتقوى الحكمة، مُسهماً في بناء مجتمعه وقوته ومنعته وعزته ورفاهيته.
- التكاملية: يستثمر المتعلم المتزكي كل منهج نافع، ويقر بكل دليل ناجع، أياً كان مصدره، ضمن بناء منهجي محكم، يعرف لمصادر المعرفة ومناهج الاستدلال قدرها، فيفيد من الصحيح الناجع منها، مكرساً لـ صداقة المناهج والبراهين، في سياق بحثي تعاوني بناء.
- التراكمية: يتسم المتعلم المتزكي بالنفس الطويل، فلا يملُّ ولا يكلُّ، فحياته مملؤة بالعلم والتعلم والبحث والحكمة والتفلسف والعمل والإنتاج، مؤمناً بأنه حلقة صغيرة ضمن سلسلة طويلة، فيكون بذلك مُراكماً للمعرفةـ فيأخذ ممن سبقه ويعطي من يلحقه بالدليل والبرهان، فلا يتكلم بدون حجة، ولا يقتحم ما لا يسعه، ولا يدعي ما لا يعلمه.
وخلاصة القول، أننا بأمس الحاجة إلى ترسيخ منظومة التزكية في برامجنا العلمية والتربوية كما يجب، فالزكاء سبيل الذكاء والعطاء.