- ليام جيليسبي
- ترجمة: دعاء خالد
- تحرير: أسامة خالد العمرات
في ملخص نظرية الممارسة، يقدم بيير بورديو إطارًا لفهم المنهج الذي تتبعه المجتمعات الثقافية في إعادة بناء عملية الإنتاج لديهم، وتحليل تأثير هذه الإعادة في ضوء نقاط معينة من مبدأ محدد. بالنسبة لبورديو، يُقصد بمصطلح الهابيتوس: مجموعة الأنظمة التي يتم من خلالها إنشاء الظروف الاجتماعية والثقافية السائدة وإعادة بنائها، فعلى حد تعبير بورديو؛ يدل الهابيتوس على نظام ذاتيٍّ لا فرديٍّ للسّمات الشّخصيّة ونمط الإدراك والتصورات والعمل المشترك بين جميع أعضاء المجموعة أو الطبقة الواحدة، حيث تقوم “السّمات الشّخصيّة” و “أنماط الإدراك” ببناء آراء سائدة مشتركة، وتشكل وعياً للأشخاص في العالم الذي يعتقدون بوجودهم فيه.
يعتقد الكاتب أنّ الهابيتوس تغرس الآراء السّائدة في رعاياها من خلال منح قيمةٍ (ثقافيّة) للأشياء، سواءً كانت ماديّة أو غير ماديّة، وببساطة، ومن خلالها، تخضع بعض الأشياء للتقييم بينما البعض الآخر ليس كذلك، وحتى على مستوى العاطفة الجسدية، فإن الهابيتوس تؤسس وتضفي خصائص معينة، بعضها مصنفة كخصائص جيدة، بينما البعض الآخر سيئ ومُشوّهٌ (مثل القوة البدنية، والجمال، والقبح). وقد شُكلت بعض السمات بطريقة “محايدة” و”طبيعية” (أي باعتبارها ما قبل ثقافية و”موضوعية”) في كثير من الأحيان، السمات الي تُنشأ على أنّها محايدة وطبيعية تستمر أكثر من غيرها ويصعب التنافس عليها (تشمل الأمثلة على ذلك العرق والجنس). بالنسبة لبورديو، فإنّ الصّفات المميزة الموجودة في الهابيتوس تشكل رأس مال ثقافي، يؤثر امتلاكها على كيفية تكوين العلاقات الاجتماعية والثقافية وإعادة تكوينها، والأهم من ذلك، على يد من؟ ولمن؟
وفقًا لبورديو، تمنح المؤسسات الاجتماعية الإحساس بالهابيتوس -وكل ما يتم تقييمه بداخله- حيث تبدأ هذه العملية عادةً مع محيط الأسرة، ثم تتطور لاحقًا من خلال منشآت أخرى كالتعليم والتوظيف، هذه المنشآت تعزز باستمرار، وأحيانًا تعيد هيكلة وتعديل القوالب الأصلية للمواضيع المرتبطة بالثقافة والمجتمع. (أي، القوالب التي يرتبط بها الأشخاص بالعالم وبالآخرين).
تحتوي المواضيع المتعلقة أو المتضمنة بالهابيتوس الأفكار الاجتماعية والثقافية السائدة، وأساليب تشكلها المتاحة في ذلك، ومن خلال ذلك تقتصر المواضيع على أنواع محددة (مثل العِرق أو الجنس أو المواضيع القومية والمدنيين والقضايا القانونية). في المقابل، يعاد تقديم هذا المصطلح ودعمه وتعزيزه في النهاية من خلال المساهمة في أفكاره السائدة وأنماطه الاجتماعية والثقافية ونشرها. بالرغم من أنّ الأشخاص الذين ينتمون لهابيتوس معين لديهم ماضيهم الشخصيّ المتعلّق بهم، إلّا أنّ عملية إعادة تقديم الهابيتوس ونشرها وتعزيزها تتواجد داخلها، وتُسرَد وفقًا لمصطلحاتها.
وكما هو موضّحٌ أعلاه، فإن الهابيتوس يعيد صياغة نفسه وأفراده عن طريق مؤسساته الاجتماعية، كما أنّه يُكرر المواقف الاجتماعية والثقافيّة التي تربط المواضيع بعضها ببعض. فمن خلال الهابيتوس، يكتسب البشر وجهة نظرهم وآراءهم نحو العالم، ومن خلاله يُصنَّف البشر ضمن أنماط معينة تجعل تصرفاتهم وسلوكياتهم على نحو معين. أحد الأمثلة على هذا هو القانون، فهو يشكل منطقًا ورؤيةً للقانونيين نحو العالم، ويحدد سلوكياتهم لتكون على نمط معين (مثال على ذلك، الحكم على الأشياء والأفعال بأنّها قانونية أو محظورة). ومثال آخر، مؤسسة التعليم –الواقعية والتصورية- التي تخوّل للطلاب والأساتذة الحصول على الألقاب والدرجات بحيث لا تكون الموضوعات قادرةً على تمثيل كفاءتهم وخبراتهم وحسب، بل وتمثيل هوياتهم المتصورة داخل البيئات الاجتماعية والثقافية أيضًا. أي إنّ المؤسسات الاجتماعية كالمدارس والجامعات، تمنح سلطةً للأشخاص لتمثيل أنفسهم كأطباء ومحامين وما إلى ذلك. بعبارة أخرى، تُمكّنُهم المؤسسات الاجتماعية من الحصول على أدوار محددة يمثلون أنفسهم من خلالها.
بالنسبة لبورديو، فإن العملية التي تستخدمها الهابيتوس لاستنساخ نفسها ومواضيعها تستلزم إنتاج نظام ذاتي دائم مكون داخل علاقات قوية غير متكافئة، ولا تتطلب صراعًا سياسيًا مباشرًا بين الأفراد لتعمل. فبدلًا من ذلك، تنتج الهابيتوس علاقات مهيمنة من خلال مؤسساتها بشكل افتراضي، لأنّ المؤسسات توزِّع رأس المال الثقافي بشكل مختلف ومتباين بين الأفراد. وكما يوضح بورديو، فإنّ التصنيف غير العادل لرأس المال الثقافي ينتج ويزيد من تفاقم الأوضاع الاجتماعية والثقافية غير العادلة، ومع ذلك، تظهر عدم المساواة على أنّها “موضوعية” وطبيعية أو جديرة بالتقدير داخل الهابيتوس، لأنّ مؤسسات الهابيتوس تحجب المدى الذي يشترط رأس المال الثقافي، ويتراكم عبر الأشكال الأخرى لرأس المال الذي يمتلكه الفرد، بما في ذلك رأس المال الاقتصادي (الموروث) وغير ذلك من الظروف المادية غير العادلة. وفي المقابل، يساعد رأس المال الثقافي في امتلاك وحفظ أشكال أخرى من رأس المال، سواءً اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية. وبالرجوع للأمثلة أعلاه، فإنّه إذا تقدم شخصان لنفس الوظيفة، وكان أحدهما حاصلًا على درجة معينة والآخر لا، فقد يبدو “موضوعيًا” أنّ الشخص الحاصل على الدرجة المؤهلة أكثر استحقاقًا للوظيفة. ومع ذلك، فإنّ ما يحجبه هذا التحديد هو حقيقة أن التصنيف غير المتكافئ لرأس المال الثقافي من المحتمل أن يؤثر على من يمتلك القدرة للحصول على الدرجة العلمية في المقام الاول، وعلى من لا يمتلك القدرة، (على سبيل المثال، الأحكام العنصرية حول العرق والجنس- الهوية الاجتماعية والفيسيولوجية- غالبًا ما تؤثر على مدى سهولة الحصول على التعليم لبعض الأشخاص).
وفقًا لوجهة النظر هذه، فإنّ الهابيتوس لا تقدم مستويات غير عادلة من الامتياز الاجتماعي والثقافي لأفراد معينين (من خلال منح رأس المال الثقافي) وحسب، بل وتخفي هذا الامتياز أيضًا. ونتيجة لذلك، فإنّ النضال من أجل تغيير الظروف الاجتماعية والثقافية للهابيتوس صعبٌ بحكم طبيعته؛ وذلك لأنّ الأشخاص المهيمنين قادرون على ممارسة سلطتهم -فقط- من خلال التوافق مع الوضع الراهن بحيث “أن يكونوا على طبيعتهم” في حين أنّ أولئك المسيطَر عليهم يجب أن يُحدِثوا تفكّكًا في الهابيتوس ضمن كيانها نفسه. وبعبارة أخرى، داخل الهابيتوس، تبدو سلطة الأشخاص المهيمنين “موضوعية”. يمكن للسيطرة أن تتواجد، بينما يجب على المهيمِن أولًا أن “يمهد الطريق” قبل أن يتمكن من “أن يتواجد”.