- سي. إس. لويس
- ترجمة: بركة خان
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: ريم الطيار
مقدمة
في عام 1944م قدّم الفيلسوف البريطاني هنري هيبرلي برايس H. H. Price ورقة بعنوان: The Grounds of Modern Agnosticism “أصول اللاأدرية الحديثة”، انتقد فيها ما أسماه دوغمائية الدين، فرد عليه الفيلسوف كلايف ستابلز لويس C.S. Lwies ونقد طرحه في مقال بعنوان: ?Religion Without Dogma وهو تعريض بما قاله برايس من أن الدين مليء بالتحكمات التي لا تقوم على دليل.[1]
وقد انتقينا المقطع الآتي من المقال:
فيما يخص النقطة الرابعة مما ذكره البروفيسور برايس في مقاله -بحكم أني سأرجئ النظر في نقطته الثالثة- فكما تذكرون، أشار البروفيسور في هذه النقطة إلى أن العلم قد قوَّض ليس فقط ما عدّه هو: النمو أوالتطور الميثولوجي للدين، بل أيضًا جوهر الدين نفسه.
وهذا الجوهر بحسب تعبيره هو الإيمان بالله والخلود؛ فبالقدر الذي يوفر فيه العلم الطبيعي توصيفًا مقبولا حول الإنسان أنه كيان بيولوجي بحت، فإن هذا يُقصي مفهوم الروح من الوجود الإنساني، وبالتالي يشطب مفهوم الخلود، وذلك بلا شك هو السبب في أنك ترى أكثر العلماء المهتمين بدراسة الإنسان -أو غالبيتهم- هم الأكثر عدائية تجاه الأديان.
الآن ومن غير ريب إذا صحّت الرؤية الطبيعانية فإنها وفي هذه النقطة تحديدًا – أي دراسة الإنسان نفسه- قد انتصرت وبددت كل أمانينا، ليس أملنا في الخلود فحسب، بل قطعت أيضا كل رجاء في الاهتداء إلى أي معنى، أوقيمة لحياتنا في الوقت الراهن.
من جهة أخرى، فإذا ثبت بطلان الطبيعانية، فهنا بالذات سينكشف ما بها من مشاكل فلسفية فادحة، وهذا ما أظنه قد حدث!
من المنظور الطبيعاني المحض، فإن كل أحداث الكون تحُدُّها وتحكمها قوانين [حتمية]: فتفكيرنا المنطقي، أوأفكارنا عمومًا، وسلوكنا الأخلاقي المتضمن لمعاييرنا الأخلاقية، وكذلك أفعالنا الإرادية، كل ذلك محكومٌ بقوانين بيوكيميائية، وبالتالي يخضع لقوانين فيزيائية هي بحد ذاتها تعميمات وتخمينات حول الحركة الفوضوية للمادة.
هذه “الوحدات” لم تقصد يومًا أن تساهم في حدوث الكون المنتظم الذي نراه، فقانون الاحتمالات (وهو ما عبر عنه لوكريتوس في قصيدته)[2] هو من قام بإيجادها عن طريق التصادم العشوائي لهذه الأشياء المتحركة لا إلى غاية.
فالكون المادي لم يخطط مطلقًا لإنتاج كائنات حية، فليس الأمر أكثر من توفر المواد الكيميائية الملائمة على الأرض مع وجود حرارة الشمس، كل ذلك ساهم في ظهور هذا المرض المزعج الذي أصاب المادة والمسمى بـ: النظام/الضبط.
إن الانتقاء الطبيعي العشوائي الذي يعمل على الفروقات الدقيقة بين كائن وآخر، قد ارتكب حماقة عندما انتقى ذلك النوع من السراب، أوالبصيص الخافت الذي نسميه وعيًا؛ وهذا الأخير، الذي لا يزال خاضعًا -في لحظات معينة داخل القشرة المخية- لقوانين الفيزياء التي بدورها منتخبة من قوانين أكثر تعقيدًا هو الذي اتخذ الهيئة التي نسميها فكرًا، ومنها -على سبيل المثال- أساس هذه الورقة، كما هو مصدر تلك المقالة التي كتبها البروفيسور برايس.
ما ينبغي أن نشير إليه على أنها أفكاره لم تكن إلا مجرد حلقة أخيرة ضمن سلسلة طويلة من الحلقات السببية، والتي كانت روابطها جميعها لاعقلانية وغير منطقية، وحديثه إلينا بهذه الطريقة كان بسبب مادته الدماغية التي كانت تتصرف بطريقة معينة، حيث أجبرته النتيجة الحتمية لتاريخ أحداث الكون منذ بدايته حتى تلك اللحظة التي تحدث فيها إلينا.
إن ما أسميناه “أفكاره” لم يكن في الأساس سوى ظاهرة من نفس جنس إفرازات جسده الأخرى، وهو نمط مماثل لأي صورة من المرجح جدًا أن تتخذها أي عملية لاعقلانية للطبيعة في زمان ومكان محددين.
لكن بطبيعة الحال لم يبد الأمر كذلك لا بالنسبة له ولا لنا، فقد ظن برايس مع نفسه أنه يدرس طبائع الأشياء، وأنه بطريقة ما مدرك لحقائق الواقع المحسوس، ليس هذا فحسب، بل حتى الحقائق المتجاوزة للحس أيضًا والتي تحدث خارج عقله.
بيد أنه إذا صحت تلك النظرة الطبيعانية المتطرفة فإن السيد برايس كان ضحية خداع؛ لأنه توهم شيئا غير موجود، كل ما في الأمر أنه كان مستمتعا بالوعي المنعكس من أحداث تجري داخل عقله أنتجتها حتمية لاعقلانية، وبدا له أن أفكاره -كما أسماها- يمكن أن تكون لها حقائق خارجية، وهي علاقة غير مادية بالكامل نسميها الحق أوالباطل، ولما كانت تلك الأفكار هي مجرد نتيجة أوخيال لحوادث عصبية دماغية، فليس من السهل أن نقول بأنه يمكن أن تكون لها أي علاقة بالعالم الخارجي باستثناء العلاقات السببية بين الأحداث.
وعند دفاع البروفيسور برايس عن العلماء، وحديثه عن مدى ولائهم، وحبهم للحقيقة، وعن تفانيهم في اتباع أفضل السبل العلمية، فالبروفيسور عندما قال ذلك قد خُيِّل إليه أن موقفه يستند إلى معيار معين، متغافلاً بذلك عن حقيقة أنه فقط يعاني من ردة فعل محددة مسبقا، قد فرضتها مصادرٌ هي بتمامها لاأخلاقية ولاعقلانية، فليس هناك من فرق بين القدرة على فعل الصواب أوالخطأ، وبين العطس والسعال، فالجميع سواء.
إذا تقرر ذلك فمن المستحيل أن يكون البروفيسور برايس مختارًا لما كتب، وسيتعذر علينا أيضا كقُرَّاء أن نطالع ورقته بأدنى اهتمام، إذ كلٌ منا يتبنى -بوعي منه- ذلك التصور الطبيعاني المحض أثناء قراءة، أوكتابة تلك الورقة. ومع ذلك في وسعنا الاستطراد أكثر ونقول: سيكون من المستحيل تبنّي الطبيعانية نفسها، إذا كنا حقا نؤمن بصحة الطبيعانية؛ فالطبيعانية نفسها منظومة فكرية، ومن وجهة نظر الطبيعانية فإن كل الأفكار مجرد حوادث تتحكم فيها أسبابٌ لاعقلانية.
وإذا أخذنا بوجهة النظر هذه فبالنسبة لي ومهما يكن من أمر، يستحيل أن أنظر بعين الاعتبار لتلك الأفكار التي تشكل الطبيعانية، وفي نفس الوقت اعتبرها بُعدَ نظر وحسن فهم للواقع الخارجي.
ميَّز فرانسيس برادلي بين الفكرة- الحدث- وبين صناعة الفكرة، لكن الطبيعانية على ما يبدو لي هي ساعية وبحرص إلى اعتبار الأفكار مجرد أحداث؛ فالمعنى هو علاقة من نوع مختلف وجديد تماما، بعيد، وغامض، ومبهم بالنسبة للدراسة الخاضعة للمنهج التجريبي، شأنه شأن مفهوم الروح نفسه، ولعل هذا سيكون أكثر سلاسة ووضوحا لو عرضناه بطريقة أخرى؛ كل فكرة، سواء أكانت حُكما تصوريًان أوحُكما قيميّا هي دائما مردودة، ولا قيمة لها من وجهة نظر الناس ما إن يعتقدوا أنه يمكن تفسيرها – بدون الحاجة إلى أي شيء إضافي- نتاجًا لعلل وأسباب لاعقلانية. ففي تلك اللحظة التي تدرك فيها أن كل ما يتفوه به الطرف الآخر ليس إلا دفعة من مركباته الكيميائية، أو بسبب انضغاط عظمة صغيرة داخل دماغه فإنك تتوقف، ولا تعير أي اهتمام لما يقوله بعد ذلك.
وعليه إذا كانت الطبيعانية صائبة، فكل الأفكار إذن وكيفما كانت هي مجرد نتاج عللٍ لاعقلانية، وهكذا تكون كل الأفكار تافهة وبلا قيمة على حد سواء، ويكون التصور الطبيعاني نفسه تافهًا، وبلا قيمة أيضا لأنه فكرة.
فإذا كانت الطبيعانية حقاً، فلا سبيل لمعرفة الحق؛ إن الطبيعانية ببساطة تدحض نفسها بنفسها.
أتذكر مرة أن أحدهم أطلعني على نوع من العُقد بحيث إذا ذهبت لتضيف لفةً أخرى تحرص على أن العقدة أمتن وتطمئن بأنها قوية، تجد نفسك فجأة وقد استطلق الوثاق، وانحلت العقدة، ولم يبق في يدك إلا جزء من خيط، وهذا هو الحال مع الطبيعانية، فهي تطلق الادعاءات الواحد تلو الآخر، وتهيمن على كثير من المجالات؛ بدءًا بالكائنات غير العضوية، ثم الكائنات الحية، ثم جسم الإنسان، وبعدها وجدانه وأحاسيسه؛ لكن عند القيام بآخر خطوة ومحاولة “طبعنة” الأفكار ذاتها ينحل كل شيء ويصير هباء منثورًا.
لقد قضت الخطوة الأخيرة للطبيعانية على جميع ما سبقها وأتت على بُنيانه؛ ففي كل الخطوات السابقة كانت هناك محاولة لعقلنة الأمور والاستدلال، ثم في الأخير طعنت في آلة الاستدلال نفسها، ومن ثم يتوجب علينا أن نتخلى عن عملية التفكير برمتها، أونبدأ العملية من الصفر.
وإلى هنا، فما من سبب يدعونا إلى استحضار المسيحية، أوأية منظومة روحانية أخرى، فلسنا في حاجة إلى أي منها لتفنيد الطبيعانية، فهي تدحض نفسها بنفسها، وأيًا كانت التصورات التي يمكن تبنيها عن الكون، فعلى الأقل لا يصح لنا أن نتمسك بالطبيعانية.
إن ما يتمتع به التفكير المنطقي/العقلاني من صحة ونفوذ – وهو في نفسه فكر غير مادي، ومتعالٍ، وفوق طبيعي- هي الفرضية الضرورية التي يجب أن تسبق أي تنظير، فلا معنى لأن تتبنى تصورًا معينًا عن الكون كمقدمة، ثم تحاول بعدها تطويع أي دعاوى يأتي بها الفكر لتتلاءم مع ذلك التصور السابق، فبمجرد الشروع في التفكير أصلا، نكون قد قطعنا اليقين بأن أفكارنا هي أكثر من مجرد حوادث طبيعية (مادية)، وعليه فكل القضايا الأخرى يجب أن تتسق وتتلاءم مع ذلك الفرض الأولي، وتتمحور حوله.
[1]– كُتب هذا المقال عام 1946 قبل أن يُجمع مع مقالات أخرى للمؤلف في كتاب “god in the dock” أو “محاكمة الإله: مقالات في اللاهوت والأخلاق” وكان من ضمنها هذا المقال، وهو منشور على الشبكة، والجزء المترجم هو ص8 إلى ص10. (المراجع)
[2] – لوكريتوس هو شاعر يوناني ألف قصيدة دافع فيها عن المذهب الذري لإبيقور وحاول فيها أن يقنع الإنسان بأنه “سيد نفسه” وبأنه ليس في حاجة إلى مخافة الآلهة، ومن ثم لا مبرر لخوفه من الموت. اعتمد في فلسفته هذه على نظرية الذرة التي تقول إن الجسم والروح معاً نشآ من الذرة، وإن ما يؤثر في أحدهما يؤثر في الآخر، وإنهما إذا انفصلا فنيا معاً، فلا خلود للروح وحدها. واعترف الفيلسوف بوجود الآلهة، ولكن قرر أن تصرفات البشر لا تخصهم ولا تعنيهم، لأن الكون جاء إلى الوجود وفقاً لقوانين الطبيعة التي تعمل على تجميع الذرات وخلق الكون، فالآلهة إذن ليس لها فضل في إيجاد هذا الكون وما فيه من المخلوقات، لذلك يجدر بالإنسان أن يحيا حياته بشجاعة، وأن يواجهها بقوة معتمداً على نفسه، ومن هنا أرجع الكاتب النظرة الطبيعانية للوجود إلى مقالة لوكريتوس، وهذا يعني أن المقالات المنحرفة وإن اختلفت مظاهرها فإن أصولها واحدة. (المراجع)