عام

التراث الخطِّي والواقع المعاصر

  • الخطاط زكي الهاشمي
  • تحرير: عبد الرحمن بن سليمان الميمان

الناظر إلى التراث الخطِّي بشِقَّيه النظريِّ والعمليِّ يرى أنَّه تراثٌ متغيِّرٌ من جيل إلى جيل، ومن زمن إلى آخر، وذلك بسبب الاحتياج والمتغيِّرات الحضاريَّة والخامات الفنيَّة؛ لذلك نجِد أنَّ أهل كلِّ زمن لهم ثقافتهم الخاصة بهم من الناحية العملية في الأداء ومن الناحية النظرية في اختيار الألفاظ وصياغة القواعد والرؤى الجمَاليَّة، وكل زمن كان يقف على الزمن الذي قبله وقوفَ الناظر إلى المرتكزات التي يستطيع أن يبني عليها مقومات حاضره واحتياجات زمنه. فالقرن الثاني ليس كالقرن الأول أداءً، والثالث ليس كالثاني أيضًا، وهكذا. فلم يحافظوا على الشكل الذي وَرِثُوه عن آبائهم وأساتذتهم بل جعلوه أصلًا مِن خلاله ينطلقون إلى عالمٍ آخرَ تقتضيه حياتهم وذوقهم، فكأننا نجد أنَّ كل قرن كانت له خصوصيَّته الخاصة بالشكل والأداء والتفكير.

وهذا ما تقتضيه السنن الكونية في حياتنا وفي العلوم التطبيقية الجمالية، ولو نظرنا أيضًا في الثوابت الحياتية كأحكام الشريعة نجد أنَّ الحكم ثابتٌ لكنَّ أداءَ هذا الحكم يختلف من زمنٍ إلى آخر، حسب الوسائل المتاحة، ولا علاقة هنا لـ(مفهوم الكلاسيكية) مِن حيثُ الحفاظُ عليها أو نَقْضُها؛ فإنَّ مفهومَ الكلاسيكية غيرُ ثابتٍ كشَكْلٍ أو وسيلةٍ، لكنه رؤيةٌ فكريةٌ إجماعيَّةٌ لزمنٍ معيَّن لا تكاد تتجاوزه، وتختلف حسب العلم أو الفن مِن حيثُ قدرتُه على الاستمرار أو التحوُّل ولا سيما الفنون التي تقوم على الذوق العام، فإنَّ مفهوم الكلاسيكية فيها متغيِّر بشكلٍ كبير، وما نراه مِن آراء في مفهوم الكلاسيكية الخطيَّة مِن حيثُ الثبوتُ على شكلٍ معيَّن يستمر ولا يجوز الخروج عنه= فإنَّه لا يقوم على أيِّ دليلٍ نظريٍّ أو استقرائيٍّ أو منطقيٍّ، إنما هو ضربٌ من اليأس والانغلاق عن مفهوم التغير الحضاري.

فإذا نظرنا إلى التراث النظري في الخط العربي مِن حيثُ شرحُ الأدوات وتفاصيلُها والاهتمامُ بها= نجد أنَّ كل ما ذُكر من الأوصاف يقود إلى نتيجة معينة، كقولهم عن القلم: “لا يكون بالطويل ولا بالقصير” إنما هو حفاظًا على نسبة الوزن والتحكُّم بالقلم التي تتعارض مع الأداء السليم، وكقولهم عن المحبرة: “الأفضل أن لا يكون بها زوايا” إنما العلَّة مِن ذلك عدمُ اجتماعِ الحبر في مكان معيَّن مِن المحبرة. ومعلوماتٌ كثيرةٌ يُفترَض أن ننظر إلى عِلَلِها وليس إلى ذاتها؛ فالعالَم اليوم أصبحَ أكثر تطوُّرًا وقادرًا على خَلْق أدواتٍ أفضلَ مِن السابق بما نملك مِن إمكانيَّات عالية في صنع تلك الوسائل، فمن يكتب اليوم بسلَّاية (=قلم حديد) يُنكر عليه بعضهم أنها ليست مِن الكلاسيكية، وهذا ما قصدتُه من عدم فهم معنى الكلاسيكية، حيث جعلوها تَقِف عند الوسائل، وكذلك مَن يُكبِّر قالِبَه (=الفكرة الأولى للعمل الفني) عن طريق الحاسب الآلي وما يُوصَف به من أنه خَرَجَ عن مفهوم الكلاسيكية باستخدامه هذه الطريقة من التكبير أو الإخراج.

وإذا نظرنا إلى الجانب العملي أيضًا نجد أن الوقوف على شكلٍ ثابت بأنه هو الخط العربي وغيره أو دونه ليس خطًّا، ولو كانت هذه النظرة عند مَن سَبَقَنا لوصل إلينا الخطُّ المكيُّ في صورته الأولى دون أن يكون هناك أي تغيير عليها، أو وصل إلينا (ثُلُث ابن البوَّاب) دون المساس به، أو (نَسْخ ياقوتٍ) دون تغيير في شكله، لكن ما وصلنا هو شكل ثلاثة قرون ماضية فحسب، وما يعتدُّ به خطاطو اليوم هو نتيجةٌ شخصية لبعض الخطاطين فحسب، وصار التعامل مع مخرجاتهم على أنها هي الخط العربي مع إهمال ما عداها.

ومن هنا؛ فإنَّ نسبةَ شكلٍ معيَّن بأنَّه هو الخط العربي= ضربٌ من عدم معرفة مسيرة الخط العربي. والصحيح أن يُنسَب الشكلُ إلى صاحبه كنتيجةٍ أو مثالٍ من أمثلة الخط العربي فحسب، أما الخط العربي فهو عالمٌ كبير من المتغيِّرات والنتائج التي لا يمكن حَصْرُها ولا تقف عند شخصيةٍ معيَّنة أو مثالٍ فنيّ. لذلك، فإنَّ التعامل مع الموروث الخطِّي يحتاج إلى فَهْمِ مقاصِدِه وعِلَلِه للوصول إلى نتيجة سليمة.

فليس كل ما هو موجود في التراث يصلح للتعامل معه اليوم، نظرًا لوجود ما هو أفضلُ وأدقُّ إنْ أحسنَّا النظرَ في عِلَلِ الوصف ومقصده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى