- ريتشارد في. ريفيز
- ترجمة: غفران فراج
- تحرير: محمود سيّد
ذات يومٍ، أخبرت صديقًا أنّ نوكسفيل هي عاصمة تينيسي. بعد خمس ثوانٍ ضبابيةٍ، قال: “لا، إنها ناشفيل”.
من الواضح أنّ حديثي لم يكن صحيحًا. ولكن بما أنني آمنت بصدقٍ بدقة ما كنت أقوله، فقد كنت مع ذلك صادقًا. كنت مخطئًا، ولم أكن كاذبًا. هذا التمييز بين الحقيقة والصدق أمرٌ حيويٌّ، لكنه مُعرَّضٌ لخطر الضياع في المناقشات حول سياسة “ما بعد الحقيقة” و”الأخبار الزائفة”.
ربما يتشارك مُعظمنا بشكلٍ متكرّرٍ وعن غير قصدٍ في نشر الأكاذيب التافهة. في الوقت الحاضر، هناك دائمًا هاتفٌ ذكيٌّ في مُتناول اليد مع شخصٍ مّا يكون مستعدًّا لتوجيهنا بشكلٍ مباشرٍ. إذا كان الأمر مُهمًّا حقًّا، فمن الأرجح أن نتحمَّل عناء التثبّت من الحقائق.
إنّ مخاطر فهم الحقائق بشكلٍ خاطئٍ تكون أكبر بكثيرٍ بالنسبة لمؤسسات الإعلام أو الأوساط الأكاديمية أو الحكومة. لذلك فإنهم يحاولون جاهدين -أو على الأقل يجب أن يحاولوا جاهدين- تصحيح الأمور. لم يكن خطئي في نوكسفيل ليُنشَر في صحيفة “نيويورك تايمز”، إلا إذا كان العديد من مُدقّقي الحقائق ومُحرّري الأخبار مُهمِلين.
حتى الصحفيّين الصادقين والباحثين الحريصين قد يرتكبون أخطاء صادقةً أحيانًا. لكن بمجرد وضع علامةٍ على هذه الأخطاء، يتمّ تصحيحها والإقرار بها على الفور؛ قد تكون هناك بعض الأسئلة الصعبة التي تُطرَح بشأن إخفاقات البحث. ولكن هناك فرقٌ كبيرٌ بين الخطأ والكذب -وبين “الأخبار الزائفة” و”الأخبار الكاذبة”-. المُزيَّف دائمًا ما يكون خاطئًا، وكان المقصود منه أن يكون خاطئًا. لكن المعلومات الكاذبة ليست دائمًا مُزيَّفةً. فقد تكون مجرد خطأٍ.
أنصار السياسة يحاولون طمس هذا التمييز النقدي. ففي عام 2018، قام الرئيس الأمريكي آنذاك “دونالد ترامب” واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري بتسليم “11 جائزة أخبار وهمية” إلى وسائل الإعلام المختلفة. لكن تمّ تدوين معظم الأخبار و/أو تصحيحها على الفور و/أو التراجع عنها مع تفسيراتٍ كاملةٍ. تلك التصريحات كانت كاذبةً، لكنها لم تكن مُزيَّفةً.
عندما يتعلّق الأمر بمعلومات الصحة العامة، فإنّ المخاطر تكون أكبر. عندما ضربت جائحة كورونا، أردنا جميعًا مشورةً فوريةً ودقيقةً حول ما يجب فعله وما لا يجب فعله. لكن الفيروس، كان جديدًا. والعلماء كانوا يسعون جاهدين لمعرفة ماهيته، وكيفية انتشاره، وكيفية التغلّب عليه. والإجابة الصادقة على العديد من الأسئلة الأكثر إلحاحًا كانت: “لا نعرف حتى الآن”. كان لا بُدّ من تقديم التوجيه بمعلوماتٍ منقوصةٍ. وتمّ ارتكاب العديد من الأخطاء. فقد كانت بعض النصائح المبكرة خاطئةً، واتضح أنّ الأقنعة كانت أكثر أهميةً من غسل اليدين، وأنّ الخارج كان مختلفًا تمامًا عن الداخل، وما إلى ذلك. إذن العديد من النصائح الرسمية خاطئةٌ ولكنها ليست مزيفةً. السؤال الأهم بالنسبة للمواطنين ليس ما إذا كانت نصائح الصحة العامة صحيحةً دائمًا، بل ما إذا كان مسؤولو الصحة العامة يحاولون باستمرارٍ فهمها بشكل صحيح، وإيصال ما وصفته عالمة الاجتماع زينب توفيكجي “بالحقيقة المُؤلمة الكاملة”. فالثقة مبنيةٌ على الصدق بدلًا من الحقيقة.
وفي مواجهة الحاجة المُلحّة للمعلومات، نريد الحقيقة فقط. وهذا ما يمثله -ربما- الرد على سؤال “أين الطريق إلى غرفة الطوارئ؟”، كل ما يهم حقًّا هو دقة الاستجابة. ولكن في كثير من الأحيان، من المهم أن يتحدّث الشخص بصدقٍ أكثر من التحدّث بالحقيقة، خاصةً عندما تكون الإجابات غير واضحةٍ بعدُ. يشعر مُعظمنا بشكلٍ مختلفٍ تمامًا تجاه الصديق الذي يرتكب خطأً صادقًا بناءً على معلوماتٍ غير كافيةٍ، والشخص الذي يقول كذبةً متعمَّدةً. ونعلم أيضًا أنه لا يمكن لأيّ شخصٍ أن يكون على حقٍّ بنسبة 100 % في كل شيء بنسبة 100 % من الوقت، ربما نغفر الأخطاء غير المقصودة التي ارتُكِبَت على طول الطريق. لذلك يجب أن ينطبق الشيء نفسه على مؤسساتنا.
في نهاية عام 2020، قال الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لصحيفة “ذي أتلانتيك”:
“إذا لم تكن لدينا القدرة على التمييز بين ما هو صحيح وما هو زائف؛ فعندئذٍ من خلال التعريف، لا يعمل سوق الأفكار. وبحكم ذلك التعريف، فإنّ ديمقراطيتنا لا تعمل. نحن ندخل في أزمةٍ معرفيةٍ”.
أعتقد أنّ أوباما مُحِقٌّ فيما يتعلّق بالأزمة المعرفية. لكنني أعتقد أن الأمر أعمق مما يقترح. المشكلة ليست مجرّد مشكلةٍ في القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. فالمشكلة تكمُن في القدرة على تمييز مَن يحاول حتى تقديم الحقيقة، حتى لو لم ينجح دائمًا. السؤال ليس “أين هي الحقيقة؟” بل “من الذي يكون صادقًا؟”.
تصنِّف المؤسساتُ الإعلامية المختلفة الادّعاءاتِ من حيث صحتها. ففي الولايات المتحدة، يعطي مشروع واشنطن بوست “The Fact Checker” ادّعاءات السياسيين درجة على مقياس بينوكيو من واحد إلى أربعة. و PolitiFact التابع لمعهد بوينتر لديه مقياس “Truth-o-meter”، ويحوي ستة مقاييس ينتقل من “True” إلى “Pants on Fire”.
لكن من الصعب تقييم الصدق، لأنه يتطلّب منا معرفة ما يعرفه المتحدث للنظر في رؤوسهم. هل كانت كذبةً أم خطأً صريحًا؟ هناك طريقةٌ واحدةٌ لمعرفة كيف يتفاعل الشخص مع الدليل على أن ادّعاءاتهم كاذبةٌ. إذا استمرّوا في تكراره، فيكون من الواضح أنهم ليسوا صادقين. فمثلًا الخطأ الصادق الذي وقع يوم الاثنين وتمّ تصحيحه يوم الثلاثاء يصبح كذبة إذا تكرر يوم الأربعاء.
وكما كتب برنارد ويليامز، في كتابه الأخير “الحقيقة والصدق: مقال في الجينيالوجيا” (2002):
إذا تبيّن أنّ ما يعتقده المرء خاطئٌ، فهذا لا يعني أنه لا يجب على المرء أن يصدِّقه. ما يعنيه ذلك أن المرء إذا أدرك الأكاذيب، فلن يستمرّ في التصديق.
الحقيقة تجريبيةً، بينما الصدق أخلاقيٌّ. فالحقيقة هي النتيجة النهائية، بينما الصدق عنصرٌ أساسيٌّ في إنتاجها. الأزمة المعرفية يتحمل تبعتها السياسيّون الشعبويّون، ومشاهير المنصات التقنية، وعلى المتصيّدين للمشاهير الذين يسعون للربح. كل هذا مهمٌّ، لكن المشكلة الحقيقية هي فقدان الفضيلة، وتحديدًا فضيلة الصدق. الأزمة المعرفية هي أزمةٌ أخلاقيةٌ. ومن ثم تتطلّب حلولًا أخلاقيةً.
غالبًا ما يعني بذل المزيد من الجهد؛ اللجوء إلى مصدر أخبار أعلى جودةً من خلاصتك على موقع فيسبوك.
قد يكون قدوتنا في هذا الجهد “نثنائيل”، الذي يظهر في إنجيل يوحنا، حيث كان لديه ادّعاءٌ جيدٌ بأنه شفيع الصدق. عندما أُخبر عن يسوع، سَخِرَ قائلا: “هل يخرج من الناصرة خيرٌ؟” لكن المسيح، وهو يعلم أنه قال هذا، صرخ: “هو ذا إسرائيليٌّ حقًّا، ليس فيه خداعٌ!” من الواضح أنّ المسيح لم يصفِّق لـ”نثنائيل” من أجل حقيقة أقواله، لكن من أجل استعداده للتعبير عن رأيه، ولأجل صدقه.
جادل “ويليامز” بأنّ الصدق يقوم على فضيلتَيْن أساسيتَيْن: الدقة والأمانة. تتطلّب فضيلة الدقة أن “تبذل قُصارى جهدك لاكتساب معتقداتٍ حقيقيةٍ”. هذا لا يعني أننا جميعًا بحاجةٍ إلى محاولة أن نصبح خبراء عالميين في كل شيءٍ على الإطلاق. هناك، على حدّ تعبير “ويليامز”، “تقسيمٌ ضروريٌّ معرفيٌّ للعمل”. فمثلًا نحن في العادة نثق بالآخرين لمعرفة كيفية التأكّد من أنّ مياه الشرب لدينا آمنةٌ أو كيفية إزالة الشوائب. لذلك، فإنّ المهم أن نفعل ما في وسعنا، خاصةً فيما يتعلق بالمسائل الأكثر أهميةً، في حدود معرفتنا وكفاءتنا.
ويُضيف “ويليامز” أنّ الدقة هي “الفضيلة التي تشجِّع الناس على بذل المزيد من الجهد أكثر مما قد يفعلونه في محاولة العثور على الحقيقة، وليس مجرد قبول أيّ شيءٍ على شكل اعتقادٍ يخطر ببالهم”. وصديقي كان يُبرهِن على هذه الفضيلة عندما تَحقَّق من ادّعائي بشأن “نوكسفيل”. الشخص الذي يقرأ أدبيات الصحة العامة حول ارتداء قناعٍ أو أخذ لقاحٍ، بدلًا من مجرّد تصديق ما يقوله جاره، يفعل الشيء نفسه. إنّ بذل المزيد من الجهد لا يعني في كثير من الأحيان أكثر من اللجوء إلى مصدرٍ إخباريٍّ أعلى جودةً من خُلاصتك على موقع فيسبوك -على سبيل المثال- في أخبار الانتخابات أو تغطية أحداث كورونا.
بعد محاولة الحصول على معلوماتٍ دقيقةٍ، يجب أن نشاركها بشكلٍ كاملٍ وصادقٍ. هذه هي فضيلة الصدق التي تتطلّب، كما يقول “ويليامز”، أنّ “ما تقوله يكشف ما تؤمن به”. قد يبدو هذا سهلًا. ولكن قد تكون هناك ظروفٌ نميل فيها إلى إخفاء معتقداتنا، أو على الأقل جزء منها، وعندما يتطلّب الأمر ذلك يلزمه بعض الشجاعة للقيام به. وعندما يُطرَح الموضوع، قد يكون من الأسهل -على الأقل من وجهة نظرٍ اجتماعيةٍ- التزام الصمت. لكن أن تكون صادقًا يعني أن تتحدَّث. إذا كانت الشجاعة مطلوبةً أحيانًا من المتحدّث، فإنّ الثقة تُطلَب من المستمع. يقول “ويليامز”: “الصدق هو شكلٌ من أشكال الجدارة بالثقة، وهو ما يرتبط بطريقةٍ معيّنةٍ بالحديث”.
بالطبع، يمكن أن تكون هناك مناسباتٌ يكون فيها التبرير الأخلاقي أكثر تدنّيًا، كما عرض “إدموند بيرك” في رسالتَيْن حول “مقترحات السلام مع دليل قتل الملك” في عام 1796: “التزوير والوهم لا يُسمَح بهما بأيّ حالٍ من الأحوال”. “لكن، كما هو الحال في مُمارسة جميع الفضائل، هناك اقتصادٌ في قول الحقيقة”.
وقد شدَّد “بيرك” على أنّ “الاقتصاد في قول الحقيقة” له ما يبرِّره فقط في ظروفٍ خاصةٍ. وقد يشمل ذلك حجب حقيقةٍ غير مهمةٍ من أجل عدم التسبّب في إهانةٍ لا داعي لها؛ خلال المُفاوضات السياسية أو الدولية؛ أو في الحالات التي يؤدِّي فيها حجب الحقيقة إلى إنقاذ الأرواح. كمبدأٍ عامٍّ، الصدق يعني عدم التمسّك بالمُستمع. لهذا السبب يُطلَب من الشهود أن يُقسِموا ليس على قول الحقيقة فحسبُ، بل على الحقيقة الكاملة (على الأقلّ الحقيقة الكاملة ذات الصلة بالسؤال المطروح).
إنّ فضيلتَي الصدق -الدقة والأمانة- أثمن بين أولئك الذين يَشغَلون مؤسسات البحث والتعليم والاتصال. كما يلاحظ “ويليامز”، فإنّ سلطة الأكاديميّين متجذِّرةٌ في صدقهم في كلا الجانبين: “إنهم يهتمّون، ولا يكذبون”. يمكن (أو على الأقل ينبغي) قول الشيء نفسه عن الصحفيين والقضاة.
الهدف ليس دحض ادّعاءٍ وإثبات آخر. إنه لإلقاء الشكّ على جميع الادعاءات.
تقع هذه المِهَن في صميم ما يصفه الكاتب “جوناثان راخ” بـ”دستور المعرفة”. يعمل هذا الدستور وفقًا لقواعد معينة، على وجه الخصوص، حرية الافتراض ومسؤولية الخضوع للمراجعة والتدقيق. كما يكتب “راخ”:
“فالمجتمع الذي يتبع هذه القواعد يتمّ تعريفه من خلال قِيَمه وممارساته، وليس من خلال حدوده، كما أنه لا يقتصر بأيّ حالٍ من الأحوال على العلماء. بل يشمل ذلك أيضًا الصحافة والمحاكم وإنفاذ القانون ومجتمع الاستخبارات، جميع المِهَن القائمة على الأدلة التي تتطلّب فرضياتٍ متنافسةٍ ليتمّ اختبارها وتبريرها. ويُحاسِب أعضاؤها بعضهم بعضًا على أخطائهم”.
العمل ضدّ هذا الدستور هو “القوى” الذي يُطلِق عليها راوخ “نظرية تقزيم المعرفة”. فالمتصيِّدون لا يبحثون عن الحقيقة، بل يَسعَون إلى تدمير عدوٍّ أيديولوجيٍّ أو شخصيٍّ. المتصيّدون لا يفشلون في إظهار فضائل الصدق والدقة فحسبُ، بل إنهم يعملون في الاتجاه المعاكس تمامًا، ويقدِّمون عن عمدٍ رُؤًى مُشوَّهةً للواقع، بناءً على معلوماتٍ مُنتقاةٍ بعنايةٍ. كانت انتخابات الولايات المتحدة لعام 2020 بمثابة درسٍ رئيسيٍّ في “نظرية تقزيم المعرفة”. فقد قام ترامب ومحاموه وجيشه من مؤيِّدِيه بأخذ حوادث صغيرةٍ ومعزولةٍ من الأخطاء أو حتى حالاتٍ قليلةٍ من الاحتيال الحقيقيّ لرسم صورةٍ شاملةٍ “لانتخاباتٍ مسروقةٍ”. شكَّك ترامب نفسُه في آلات التصويت، مُشيرًا إلى خطأٍ في العدّ في مقاطعة “أنتريم” بولاية “ميشيغان”. واتّضح أنّ هناك خطأٌ في الواقع، ولكنه كان خطأً ارتكبه أحد المسؤولين عند إنشاء مُعِدّات الجدولة، وقد تمّ تصحيحه بسرعةٍ، لكن لم يكن له أيّ علاقةٍ بآلات التصويت.
قام ترامب وأتباعه بترويج قصصٍ مماثلةٍ حول تصويت الموتى، أو تصويت الأشخاص مرتين، أو “العثور” على أصواتٍ، لمنع مُراقبي الاقتراع، وما إلى ذلك. وفي كل حالةٍ، ربما كانت هناك جُرثومةٌ مجهريّةٌ من الحقيقة، لكنه بالغَ فيها بشدةٍ، وبالتالي تمّ تجاهل جميع الأدلة المضادّة بشكلٍ منهجيٍّ. قد يبدو من الغريب الإشارة إلى العديد من الطرق المختلفة التي سُرِقَت بها الانتخابات، بدلًا من إثبات حقيقةٍ واحدةٍ، لكن هذا يُخطئ الهدف. فالهدف ليس دحض ادّعاءٍ وإثبات آخر. إنه كان للتشكيك في جميع الادّعاءات، لجعل فكرة الحقيقة نفسها غير مستقرةٍ، من خلال -كما قال “ستيف بانون”- “إغراق المنطقة بالبذاءة”.
كان هناك تآكلٌ كارثيٌّ في فضيلة الصدق، وبالطبع يجب على العديد من القادة والحركات الشعبوية في السنوات الأخيرة تحمُّل الكثير من اللوم. لكن هناك قوًى أخرى فاعلةٌ، ساعدَ الكثير منها في تأجيج الشعبوية في المقام الأول.
فقد عملت منصات وسائل التواصل الاجتماعي كمُسرِّعاتٍ ومُضخِّماتٍ للأكاذيب، وخلقت بيئاتٍ خاليةً من الاحتكاك للمعلومات والمعلومات المُضلِّلة للانتشار بسرعةٍ. وبدلًا من تشجيع المزيد من المشاركة مع مصادر موثوقةٍ، سهلت منصات مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها إنشاء فقاعاتٍ معرفيةٍ مليئةٍ بالأشخاص الذين يؤكِّدون بشكلٍ مُتبادلٍ تحيُّزاتهم الحالية. تتصارع شركات وسائل التواصل الاجتماعي مع هذه المُعضلة، نظرًا لأنّ العملاء يريدون استخدام عناوين خاطفة للانتباه (فنحن مجرد بشرٍ في النهاية)، واستخدام تلك العناوين يؤدِّي إلى زيادة الإيرادات (لذلك يرغب مقدمو الخدمة في ذلك أكثر من العملاء). وفي الوقت الحالي، يبدو أنّ الأمانة والدقة تصنعان طعمًا غير جذابٍ، ومن ثَمّ يمكن أن يكونا غير مرتبطَيْن. تعتمد نماذج الأعمال الخاصة بهذه الشركات على المشاركة، ونوع المحتوى الذي يزيد من المشاركة هو نوعٌ من التخفيف للحقيقة وليس تعزيز الحقيقة، كما ذكر “توفكجي” وآخرون. تعمل هذه الشركات الآن بشكلٍ أكثر قوةً على الإبلاغ عن المحتوى الخاطئ أو المُضلِّل وتقليله، وتتحكّم بشكلٍ أكبر في خطاب الكراهية. لكن المشكلة هيكلية. هل يجب أن يُحاولوا كسب المال أم يُحاولوا صُنع الحقيقة؟ لا يمكنهم فعل كلا الأمرين معًا.
فضائل الصدق تتعرّض أيضًا للضغط في أقسام الجامعات ومراكز الفكر وغُرَف الأخبار، ربما بطرقٍ أقلّ دراماتيكيةً، ولكن على المدى الطويل، بنفس الدرجة من الخُطورة. فالاستقطاب السياسيّ يحفِّز حتى الأشخاص الطيبين ليس فقط لاختيار جانبٍ، ولكن للبدء في انتقاء بياناتهم لدعمه.
يمكن للعلماء ذوي الأجندات الأيديولوجية تقديم البيانات بسهولةٍ بطريقةٍ تؤكِّد مقدماتهم، حتى لو لم يكن هذا الشكل من العرض هو الأقوى، أو على الأقل، هو واحدٌ فقط من عدّة طرقٍ يمكن تقديمها من خلالها. اسمحوا لي أن أعطي مثالًا واضحًا: إنّ الوضع الاقتصادي للطبقة الوسطى في الولايات المتحدة هو سؤالٌ مهمٌّ. ماذا حدث لمتوسط الدخل في الولايات المتحدة بين 1979 و 2014 على سبيل المثال؟ حسنًا، لقد زاد بنسبة 51 %، أو ربما 37 %، أو 33 %، أو 30 %، أو 7 %، أو ربما انخفض بنسبة 8 %، كل هذه الإجابات صحيحةٌ. يعتمد الأمر فقط على الدراسة التي تقرؤها، والمنهجيات التي اختار مختلف العلماء استخدامها.
العالَم مكانٌ مُعقّدٌ، والبحث عن البساطة غالبًا ما يُوقِعنا في المشاكل
لنفترضْ أنك فعلت ما دعا إليه “برنارد ويليامز” واستثمرت بعضًا من وقتك الثمين في هذا السؤال فقط للتوصّل إلى كل هذه الإجابات المتنافسة. سيكون ذلك مُحبطًا، وربما قد تسأل: “حسنًا، ما هو الصحيح؟” النقطة المهمة هي أنه لا أحد منهم مُخطئٌ، بمعنى أنه كاذبٌ. فقد تمّ التوصّل إلى هذه النتائج ببساطةٍ من خلال منهجياتٍ مختلفةٍ.
يكمُن الخطر في أنّ العلماء اليساريين يتبنَّون مناهج لتحقيق نتيجةٍ معينةٍ، والعلماء اليمينيون يفعلون العكس، ويقدِّم كل منهم نتائجهم على أنها “حقائق”. يمكن لوسائل الإعلام الحزبية بعد ذلك تضخيم واحدةٍ من هذه “الحقائق” لتناسب مقدّماتها. وقبل أن تعرف ذلك، لدى الناس وجهات نظرٍ مختلفةٌ تمامًا حول هذه المسألة، وتستند وجهات نظرهم إلى بحثٍ قويٍّ تمامًا. النقطة هنا ليست أننا لا نستطيع معرفة أيّ شيءٍ، إنه ببساطةٍ أنّ العالم مكانٌ معقّدٌ، وأنّ البحث عن البساطة غالبًا ما يتسبّب في وقوعنا في المشاكل. بالنسبة للباحثين، فإنّ الشيء الأكثر أهميةً هو السعي لتقديم عملهم بطريقةٍ موضوعيةٍ قدر الإمكان (الدقة)، وتقديم مجموعةٍ من النتائج المعقولة حيثما أمكن، مع إعطاء الصورة الكاملة الممكنة (الأمانة).
المصداقية العلمية مهمةٌ بشكلٍ خاصٍّ عندما يتعلق الأمر بتقييمات السياسة العامة. ومن السهل جدًّا إنشاء دراسات التقييم بطرقٍ تؤدي إلى نتائج إيجابية. هذا أمرٌ مفهومٌ. قلةٌ من الممولين -من القطاع العام أو الخيري- يُسعدهم معرفة أنّ مبادرتهم التي تبلغ قيمتها مليار دولار قد فشلت في تحقيق أيٍّ من أهدافها. الضغط إذن، حتى عندما يتعلّق الأمر بالدراسات التي أُجرِيت بشكلٍ جيدٍ، هو دائمًا إبراز أيّ نتائج إيجابيةٍ والتقليل من النتائج المخيِّبة للآمال. بدلًا من صُنع السياسات القائمة على الأدلة، ينتهي بنا الأمر إلى صُنع الأدلة المستندة إلى السياسات. في كل هذه الحالات، هناك حاجةٌ إلى المسؤولية المؤسسية والفردية. يتعيّن على الشركات الإعلامية والجامعات ومراكز الفكر والأحزاب السياسية أن تعمل بجهدٍ أكبر للحفاظ على معايير الانفتاح والخطأ والتبادل التي تسهِّل إنتاج المعرفة ونشرها. لكن لا يمكننا التنازل عن المسؤولية للمؤسسات فقط. هذه مسألةٌ تتعلّق بأخلاقياتنا الشخصية أيضًا، والتزامنا بالعيش والتصرّف بطريقةٍ صادقةٍ.
“وليامز” كان ليبراليًّا حتى النخاع، وكان شديد الحساسية للمخاطر التي صاحبت الثورة العقلانية للتنوير، وقبل كل شيءٍ أيّ محاولةٍ لترتيب المجتمع حول “حقيقةٍ” تستند إلى أسسٍ علميةٍ حول العدالة أو الطبيعة البشرية. ففي هذه الطريقة يكمُن الاستبداد؛ لكن المنحة التي قدمتها لنا ليبرالية التنوير هي السعي الفردي والجماعي للتعلّم ومعرفة المزيد عن أنفسنا وعن بعضنا البعض وعن العالم. ومما كتبه “وليامز”:
“لدينا ما نخشاه من برامج التنوير من أجل تقدّم وتطبيق الحقيقة، لكن هناك الكثير لنعتزّ به في حرصها على الصدق”.[1]
تمّ إلقاء اللوم على أزمتنا المعرفية على عاتق السياسيين والعلماء والصحفيين والمنظمات التي يعيشون فيها. وهناك الكثير من اللوم في هذا الاتجاه. لكن إذا كان “ويليامز” على حقٍّ، وأعتقد أنه كذلك، فإنّ جذر مشكلتنا أخلاقيٌّ. الحل هو أن نفعل ما هو أفضل، أن نكون أفضل. من المؤكَّد أنّ الصدق هو مهمةٌ صعبةٌ. لكن بدونها، لا يمكن للمجتمعات الحرة أن تعمل. ولم يقل أحدٌ أنّ الحرية سهلةٌ.
[1] – هنا المؤلف يتحدث عن أوروبا المسيحية على وجه الخصوص، وإلا ففي الوقت الذي كانت الكنيسة تجثم على صدر المسيحيين، وتحرق العلماء والكتب؛ كان المسلمون يحلقون في سماء العلم والمعرفة دون أي عائق من الدين. لذلك، هذه المنح التي يتحدث عنها المؤلف هي منح هبطت على أوروبا إذا ما قورنت بما كان قبلها فقط. -الإشراف.