العلم

دعنا نتجنب الحديث عن “اختلال التوازن الكيميائي”: إنها ضائقة الناس ومحنتهم

  • جوزيف إي دافيس
  • ترجمة: خالد تركي آل تركي

بعد أن اكتشفت جينا خيانة صديقها، دخلت في حالة من الانهيار العاطفي, لقد كانت “تبكي باستمرار طوال الوقت”، وتجاهد لحضور فصولها في الجامعة، كانت كثيرة النوم, وتتجنب المواقف التي تستمتع بها في الحالات العادية.

وفي سرد ​​رد فعلها العاطفي، أكّدت لي جينا أنه غير معقول. وبالنظر إليها وإلى صديقها فهما لم يلتقيا منذ فترة طويلة، شعرت جينا أنه ما كان يجب عليها أن تكون مستاءة إلى هذه الدرجة. وبعد مرور شهر، قرّرت أن هناك شيئًا ما كان خاطئ بشكل كبير وخطير, وأنها تحتاج إلى البحث عن مساعدة مهنية. تذكرت معالجها النفسي الذي قام بتشخيص الاكتئاب, وهو من أخبرها أن المشكلة قد تكون ناجمة عن اختلال التوازن الكيميائي داخل دماغها، ووصف لها مضادًا للاكتئاب.

وجدت جينا ردود أفعالها العاطفية متعارضة ومتنافرة. إنهم تحدّوا افتراضاتها الأساسية عن نفسها على أنها واثقة، وناضجة, ومكتفية ذاتيًا. لقد أخبرتني أنها كانت مرحبة بتشخيص اضطراب عصبي بيولوجي، الأمر الذي أكد أن مشكلتها كانت “حقيقية” -ناجمة عن قوة فسيولوجية خارجة عن إرادتها- وأنه أظهر أنها ليست “مجرد كسول غير مبالي”.

وفي الوقت نفسه، كانت جينا تحرص على إبعاد تجربتها عن تجربة الأشخاص “المجانين”, أو “المخابيل” على حد تعبيرها. حيث أن مرضهم يعني فقدان السيطرة وعدم القدرة على العمل و أداء الوظائف. وعلى النقيض من ذلك، فهي ترى أن مشكلتها ما هي إلا خلل شائع وصغير في الكيمياء العصبية. وأصرّت على أنه لا ينبغي لأحد أن يخطئ في مرضها عقليًا.

لقد كانت جينا واحدة من بين 80 متطوعًا متنوعًا قابلتهم أنا وفريقي البحثي في ​​جامعة فيرجينيا في شيكاغو ومدينتي بالتيمور وبوسطن, وهما مدينتين صغيرتين وسط فيرجينيا. لقد أردنا معرفة كيف يتعامل الناس مع الأنماط الشائعة للضيق النفسي والظروف الصعبة، على سبيل المثال: الخجل والعصبية في المواقف الاجتماعية؛ وضعف الأداء في العمل أو المدرسة؛ التعثر والمجاهدة بعد الفشل في علاقة مهمة وفقدانها؛ وخيبة الأمل في كيفية تطور حياتهم التي يعيشونها. تلقى الكثير ممن قابلناهم شكلاً من أشكال العلاج النفسي أو تم تشخيص حالتهم بحالة مثل الاكتئاب أو اضطراب القلق الاجتماعي أو اضطراب نقص الانتباه، ووصف لهم أدوية نفسية.

لقد كان من اللافت للنظر أن الكثير منهم (وإن لم يكن جميعهم) فسّروا محنتهم ومشكلتهم جزئيًا من منظور الأسباب البيولوجية، لاسيما عدم التوازن الكيميائي العصبي. ولكن التفكير في مشاكلهم بهذه الطريقة كان بمثابة عملية محفوفة بالمخاطر. مثل جينا، فقد تميّز العديد من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم بشكل حاد عن المرضى العقليين, ووضعوا المختلين عقليًا في إطار سلبي للغاية. لم يكن تشويه الأشخاص المصابين بمرض عقلي خطير أو وصمهم بذلك قائمًا على أي تجارب مباشرة؛ بل كان مدفوع برغبة في حماية كرامتهم ومكانتهم الاجتماعية. ولتبرير التمييز بين حالتهم الشخصية والمرض العقلي، رفض الأشخاص الذين تمت مقابلتهم فكرة أنهم يعانون من “المرض” في حد ذاته، وفصلوا أنفسهم عن أي تشخيص رسمي باستخدام عبارات على سبيل المثال “هذا ما يسميه الطبيب”, فقد تجنبوا طلب الحصول على مساعدة طبية تمامًا.

وبالنسبة لأشخاص مثل جينا، ممن تبنوا تفسيرًا عصبيًا حيويًا للمشكلة التي يعانون منها، فقد خلق هذا لغزًا، حيث قام الكثير منهم بحل هذا اللغز عن طريق إنشاء تصنيف منفصل لتجربتهم الخاصة -ما أسميته “الحالة الثالثة”-. الأشخاص الذين تحدثنا إليهم لم يقوموا بتسمية هذه “الحالة” أو إعطاء معنًا صريحًا لها. ولكنه ظهر في المساحة الخطابية التي انفتحت عن طريق تأطير صراعهم الشخصي، وتمييزه عن المرض العقلي من جهة، والحالة الطبيعية من جهة أخرى.

ضع في اعتبارك منظور آخر لأحد الاشخاص ممن قابلناهم، وهي امرأة شابة سأطلق عليها اسم بايبر، وقد تم تشخيصها بالاكتئاب. فعندما “تفكر بمرض عقلي”، حسب بايبر، “يتبادر لذهنك الفصام والأشخاص المجانين، وأنا لست مجنونة، فأنا أشعر بالتوتر والعصبية حقًا”. ولجعل هذا الأمر متميزًا، فإن الخاضعين للمقابلة الشخصية مثل بابير وجينا لم يزعموا أنهم أقل إعاقة من المصابين بأمراض عقلية خطيرة، كما أصروا على أن تجربتهم كانت مختلفة بشكل قاطع. وقالت بايبر عن نفسها أن هناك شيئًا ما من الناحية البيولوجية “بعيد قليلاً”. إنها لديها “القليل جدًا أو الكثير جدًا أو أيًّا كان ما يجعلك تواجه هذه المشكلات”. وبتمييزها عن “الأشخاص المصابين بالجنون”، فهي تتحكم في عقلها ودورها. إن كل ما تحتاجه فقط هو حبة دوائية صغيرة. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، تختلف “حالتها” أيضًا عن التحديات العادية التي قد يواجها الأشخاص العاديون. فقد أصرت بايبر أن توترها هذا في المواقف الاجتماعية يختلف عن الخجل العادي. وتناولها الدواء له ما يبرره. كما أنها مصابة بحالة ثالثة نتيجة “خلل”.

وللتوفيق بين وجهة نظرهم وحقيقة أنهم خضعوا لتشخيص نفسي، فقد أرجع العديد من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم الفضل إلى طبيب متخصص أو أحد المقربين لاقتراح شيء مثل فكرة الحالة الثالثة هذه عليهم. وأكد آخرون على اعتيادية تجربتهم, وقاموا بمقارنتها بأنواع من المشاكل الروتينية التي يقوم الأطباء العلاجيين بعلاجها. ووفقًا لرواية أحد الأشخاص الذين خضعوا لهذه المقابلة “كل ما عليك فعله هو تناول حبة”.

وهناك أصداء كثيرة وردت هنا للرسائل المنقولة في الإعلانات المباشرة للمستهلك بشأن الأدوية النفسية. لقد قمت بتحليل محتوى هذه الإعلانات ووجدت أن حالة الضيق، كما هو وراد في الأعراض ويتم تصويره في روايات المرضى، غالبًا ما يتم تقديمه على أنه “حالة طبية حقيقية” على عكس المرض العقلي. ولا تحتوي الإعلانات على إشارات إلى الأطباء النفسيين أو الدليل التشخيصي للاضطرابات العقلية الصادرة عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA)، ولا تستخدم عبارات مثل “المرض العقلي” أو “الاضطراب العقلي”، ولا يوجد بها أي وصف للمصابين غير أنهم مواطنين ناجحين ومنتجين. وعلى لسان من خضعوا للمقابلة وما ورد في الرسائل الإعلانية، فإن “الأشخاص المصابين بالجنون” هم شخصيات غامضة ومسلوبي الشخصية -“الآخر” المتضرر وغير المتحكم فيه والذي يتم إجراء المقارنات الضمنية ضده.

وتتوافق الآراء التي واجهناها أثناء المقابلات التي أجريناها مع الاستطلاعات المحلية للرأي العام حول الصحة النفسية. اليوم، يؤيد عامة الناس بحرية أكبر الأسباب البيولوجية، فيما يتعلق بمشاكل الصحة العقلية، والسعي للحصول على المساعدة الطبية واستخدام الأدوية التي لها تأثير نفسي أكثر من الماضي. وقد تقاربت وجهات نظرهم مع وجهات النظر البيولوجية التي تم الترويج لها لفترة طويلة في الحملات العامة؛ للحد من الوصم بالأمراض العقلية. ووفقًا للمنظمة الأمريكية المناهضة للوصم بالعار، إحداث التغيير إلى العقل، على سبيل المثال: “الحقيقة هي أن المرض العقلي هو اضطراب في الدماغ, والذي يعد أهم عضو في جسمك”. بيّن الباحثين والنشطاء المناهضين للوصمة، فقد تم الاحتفاء في التطور في الأماكن العامة بالمواقف اتجاه الطب النفسي البيولوجي كإشارة إلى أن الجمهور أصبح أخيرًا “متعلمًا و مثقفًا”, مع استيعاب وفهم بشكل “أكثر علمية” و”أكثر فلسفية” للأمراض العقلية.

في إطار الترويج لنظرية السببية البيولوجية الجينية، فقد كان النشطاء المناهضون للوصم بالعار -وكذلك الأطباء النفسيون ووسائل الإعلام الشعبية وغيرهم- يأملون في إقناع الناس بأن الأمراض العقلية تشبه تمامًا الأمراض الجسدية المزمنة الأخرى، مثل مرض القلب أو داء السكري، اقتبس من الجمعية الأمريكية للطب النفسي APA، ويمكن معالجتها طبيًا. وهذا النهج بدوره يخفّف من حدة وصمة العار بالمرض النفسي ويعزّز التحمل وذلك عن طريق الحد من الميل إلى تحميل المرضى المسؤولية عن حالتهم (الفكر المزعوم والشائع). وكان هناك اعتقاد يعتقد بثقة أن النتيجة سوف تعزّز التفاؤل بالعلاج وتزيد من طلب المساعدة.

لكن حدث مالم يتوقع حدوثه. فلم يؤدّ استيعاب الجمهور لبيولوجيا الأعصاب إلى توجه أكثر أفضلية اتجاه المرضى المصابين بالأمراض العقلية. وبدلاً من ذلك، ووفقًا لمقال افتتاحي في مجلة الطب النفسي وعلم الأعصاب, والذي تم نشره عام 2015، “فقد خلصت الدراسات التي أجريت جيدًا وبشكل موحد تقريبًا” إلى أن استراتيجية الحد من الوصم بالعار في العقود الأخيرة، المستندة إلى “الإسناد الجيني الحيوي لجميع الاضطرابات النفسية”، قد “لم تنجح فقط, بل ربما أدت إلى تفاقم المواقف والسلوك العام أيضًا اتجاه المصابين بأمراض عقلية”. وقد أظهرت مثل هذه الدراسات أن التأييد المتزايد للسببية البيولوجية زاد من تفاقم وصم الأمراض العقلية بين عامة الناس والمرضى والمتخصصين.

ما الذي يفسر هذه النتيجة المتناقضة؟

أعتقد أن المقابلات التي عقدناها تكشف عن سبب حاسم. بينما قبل الناس تفسيرًا عصبيًا حيويًا لمشاكلهم، فقد قاوموا وجاهدوا ضد الفكرة اللاإنسانية بأن أفكارهم أو مشاعرهم أو سلوكهم ناتج ميكانيكي. وبالاعتماد على الأطباء، وإعلانات الأدوية، ووسائل الإعلام الشعبية، فقد كانت الرسوم الكاريكاتيرية للمصابين بأمراض عقلية خطيرة, بمثابة صورة محورية يمكن من خلالها التناقض, وتأكيد سيطرتهم وتقرير مصيرهم. ومن المحتمل أن يجد الملايين من الأمريكيين -وعدد لا يحصى من الآخرين في الدول الغربية- أنفسهم يشاركون هذا المنظور أو يشاركون وجهة نظر مماثلة.

أنني أناقش في كتابي الاختلال الكيميائي (2020)؛ للتغلب على هذا الآخر وتقليل وصمة العار، الاحتياجات للممارسة السريرية بهدف الابتعاد عن اللغة السببية البيولوجية. كما أن الأبحاث النفسية لا تدعم فكرة السبب والنتيجة البسيطة في الصحة العقلية، وبدلاً من ذلك تكشف عن صورة غير محددة وأكثر تعقيدًا لمواطن و نقاط الضعف. لا يوجد دليل ما يبرّر استمرار الترويج للنظريات أحادية البعد, على سبيل المثال “الاختلال الكيميائي”. ولا يتطلب هذا الأمر الاستخدام المفيد للأدوية النفسية. ففي الواقع، تظل آلية عملهم الدقيقة وعلاقتها بالتجربة المزعجة بمثابة لغز. سيكون من المصداقية أن يقر اختصاصي الصحة العقلية وحملات الصحة العامة بهذا الأمر.

ويعتبر الأمر حقيقيًا وصحيحًا وفقًا لما تم الحصول عليه بوضوح من الأشخاص الذين خضعوا للمقابلات، مثل جينا, أن المرضى غالبًا ما يجدون لغة الجينات الحيوية لغة جذابة. إنه يوفر طريقة لإثبات معاناتهم على أنها ملموسة وصريحة، ويقدم حساب بسيط وتوقعات إيجابية لاجتهاداتهم. ومع ذلك، فإن الفكرة القائلة بأن المعاناة العقلية، لكي تكون “حقيقية”، يجب أن تتساوى مع نوع من الخلل الوظيفي الفسيولوجي تعتبر فكرة مضلّلة للغاية. إن إسقاط وإغفال هذه الفرضية الاختزالية يمكن أن يستعيد الأسئلة الأكثر عمقًا للتجربة الظاهراتية والمعنى. ما الذي يجعل التجربة الصعبة تبدو كما هي عليه؟ كيف تثير التجربة الشعور بالخجل أو القلق أو خيبة الأمل؟ كيف يتم ربط تجارب الناس بعلاقاتهم مع الآخرين والعالم من حولهم؟ وكيف تضطرب وتتعطل هذه العلاقات؟

إن الفكرة القائلة بأن الضائقة التي يعاني منها الشخص تكون بشكل أساسي نتيجة عن نقص كيميائي عصبي يمكن تصحيحه عن طريق تناول عقار, ما هي إلا فكرة خيالية. الفكرة أنها تشرح تجربة الشخص الأول أو أنها تقدم إخلاء مسؤولية هي أيضًا من نسج الخيال. وكما أوضحت المقابلات التي تم عقدها، تبنى الناس حساب الجينات الحيوية لأنهم اعتقدوا أنه قائم على أساس العلم. وتُوضح المقابلات أيضًا كيف يقوض هذا الحساب أنواع الاستبطان وتأمل النفس والفحص الذاتي التي يمكن أن يؤدي إلى معرفة ذاتية ذات مغزى ومدلول.

ويحتاج علاج الصحة النفسية إلى إعادة التعامل مع لغة الأشخاص. وهذا يعني تعليق موقف الشخص الثالث المنفصل اتجاه المرضى، وأيضًا الاهتمام بتجاربهم وظروفهم الفعلية. وهذا يعني تشجيع المرضى أنفسهم على تجنب هذا الموقف والاعتماد على الطرق والوسائل العادية التي يفهم بها الناس عواطفهم وأفعالهم ويستوعبونها. في هذه اللغة العادية المبتذلة، نشير بشكل حدسي إلى النوايا والرغبات وأسباب الشخص للتفكير أو التصرف أو الشعور كما يفعلون. وعند شرح تجربة صعبة، لا نتحدث في العادة عن السببية أو الآليات، ولكننا نفترض أفعالنا وأفعال الآخرين مسبقًا بدرجة معينة من الحرية والتحكم، ونحن نولي اهتمامًا للعلاقات والتاريخ والسياق الاجتماعي، مثل الأحداث السلبية والظروف الداحضة أو أحلام غير محققة. وحتى نوبات علم النفس المرضي فيمكن استكشافها بلغة الأشخاص، كما هو الحال عندما يتحدث علماء النفس عن الهلوسة والأوهام والإكراه وما إلى ذلك. وعلى عكس الصورة الميكانيكية لاختلال الدماغ, فتسمح هذه اللغة بنوع من الفهم يمكّن إدراج حالات عقلية غير عادية وصعبة إلى محادثة مع علاقة الشخص بالعالم.

واستعادة هذه المحادثة التفسيرية تعني تقييد حاد وبشكل كبير, إن لم يكن إسقاط الحديث عن الجينات الحيوية. وهذا يعني السعي إلى الفهم والاستيعاب، وهو ما يتشوق إليه من يتعاملون مع المعاناة العاطفية، مثل أولئك الذين قابلناهم أثناء عقد المقابلة. الفهم والاستيعاب كأشخاص، متجسدين وموجودين في عالم الحياة. وفهم أنه عدو الخوف ولا يتطلب الآخر.

المصدر
psyche

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى