- ترجمة: تقي الدين بن فيفي
- تحرير: ريم الطيار
– وصفت في أعمالك “التحول التدريجي” من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المالية، هل اكتمل هذا التحول؟
– روبرت كاستل: ينطوي الأمر على مغامرة بعض الشيء للتنبؤ بالمستقبل، فعلماء الاجتماع ليسوا بأنبياء إلا أنهم يحاولون فهم التغيرات وربما استقراء الاتجاه الذي تسلكه، إن القول: “ستكون الأمور على هذا النحو” خطير؛ ليس من قبيل الصدفة أن يكون كتابي الأخير تحت مسمى ” تصاعد أشكال القلق الاجتماعي.” هذه طريقة لدراسة وفحص التحول الكبير الذي حدث طيلة الثلاثين عاما الماضية؛ في السابق كانت فكرة أن الغد سيكون أفضل= اعتقادا منتشرا بشكل واسع، أما اليوم فإن أقلية فقط من الناس لديهم هذا النوع من التفاؤل.
يُظهر سبر الآراء بدلا من ذلك أن الشعب الفرنسي يمتلك نظرة تشاؤمية، وبسبب كل هذا فإن الأمور غير يقينية، ولحسن الحظ لا يمكننا أن نقول بشكل يقيني أن “الأمور ستكون أسوأ مما كانت عليه”، إن أسوأ ما في المستقبل يبقى مجهولا.
—
– توصلنا في ظل الرأسمالية الصناعية إلى تسوية العلاقات الاجتماعية داخل ما نسميه “المجتمع الكاسب للأجر” على أساس “الملكية الاجتماعية”.
– روبرت كاستل: وصلنا في الستينيات إلى توازن نسبي، غير أنه لم يكن رائعًا كما يُرَوَّج، لقد كان هنالك أوهام حول سنوات المجد الثلاثين؛ حيث استمر الكثيرون في تمجيدها بالرغم من عدم المساواة، والظلم الشديد، والأحداث الكارثية كالحروب الاستعمارية، ومع ذلك كان هناك نوع من التوازن بين سوق العمل والعمالة؛ ولم يكن ذلك مثاليا لكنه عمل بشكل جيد إلى حد ما. هذه المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت فاتحة مجال تطوير قوانين العمل، وبعض التأمينات الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنه اعتبارا من السبعينيات، كانت هناك أقاويل حول وجود أزمة. في البداية اعتبرت أزمة مؤقتة، لكنها في الحقيقة كانت تنتظر اللحظة المناسبة.
—
– نعاني اليوم من قلة الأمان والتدابير الصحية والحقوق الاجتماعية، ما الذي حدث لتلك التسوية؟
– روبرت كاستل: ينبغي علينا ألا نثق في أي خطاب يهول من الكارثة؛ لقد نشأت الرأسمالية الصناعية لتكون وحشا ضاريًا كما كانت هي حال البروليتاريا في بداية القرن التاسع عشر، ولا تزال التسوية قوية، إننا نشهد فقط تراجعا للحلول، والسؤال هو: إلى أي مدى يمكن لهذا التدهور أن يستمر؟
—
– بالنظر إلى الثورة الفرنسية عام 1789 هل تفضل الحديث عن “تحولات” ؟
– روبرت كاستل: إن ديناميات التغير معقدة جدًا؛ فالتاريخ لا يتطور من جانب واحد، والسوسيولوجيا ليست معادلات رياضية، والكلمات لها أهميتها الخاصة وتعريفاتها المحددة جيدا. التحولات هي تسوية واصطدام، وتوليف بين “الشيء”، و”آخر الشيء”.
ليس من الضرورة أن يكون ذلك محددا بشكل مثالي، أو محددا بدقة بالغة؛ لكنها لحظة يحدث فيها تداخل بعض من “الشيء”، وبعض “الآخر”، والتاريخ -الذي يأتي لاحقا- هو الذي يحدد المراحل الفاصلة، وهذا يؤدي إلى ابتكار مقارنة بالوضع السالف. نحن نبتكر أشياء؛ لكننا لا نبتكر كل شيء، فنحن لا نبدأ من العدم لكن على النقيض من ذلك، نحن نتولى مسؤولية التعامل مع الوضع كما هو.
—
– فكرة “التحولات” تبرر موقف “النقد الاجتماعي”، أو “النقد السوسيولوجي”؛ بأي معنى يمكن أن ينقد المجتمع؟
– روبرت كاستل: يمكننا أن نمتلك وجهة نظر نقدية، لقد ذكرت لتوي بروليتاريا القرن التاسع عشر حين ماتت رأس حربة الإنتاج جراء إدمان الكحول عن عمر 35 سنة، ولم نعد الآن في تلك الوضعية؛ إن أشكال عدم الأمان الحالية تستدعي منا إعادة التفكير في أشكال اللانتماء الاجتماعي فهي ليست مماثلة لتلك التي مضت في القرنين المنصرمين، إلا أنها لها نفس وظيفة تحطيم التضامن وكل ما يشكل المجتمع.
—
– اللانتماء؟
– روبرت كاستل: اللانتماء هو الشكل النهائي لهذه العملية؛ استعملت هذا المصطلح لتفادي الاستعمال السيء لمصطلح “الإقصاء” بالنظر لوضعيات مختلفة تماما لوصف شخص من غير مأوى؛ كشاب من الضواحي، أو عاطل عن العمل فهؤلاء مستبعدين لكنهم ليسوا في وضع “خارج المجتمع” “Extra-Social”.
إننا بحاجة بدلا من ذلك، إلى فهم العملية التي أدت بهم إلى تلك الوضعية، فالمرء غير محصن، وهذه الوضعيات تحتاج للتحليل، وينتهي المطاف بالأفراد إلى أن يُفصلوا عن علاقات العمل، وشبكة العلاقات الاجتماعية، والأسرية ، والجيرة الحسنة والمنطقة…
—
– ألا يؤدي بنا هذا النقد إلى تحول اجتماعي؟ أغلبية الشعب في فرنسا كانوا متطلعين إلى التغيير، ماهي الإصلاحات التقدمية التي يجب اتخاذها للخروج من حالة اللايقين؟
– روبرت كاستل: يبدو أن الأزمة لا تزال أعمق. في 2008 عندما تعرضنا لظروف قاسية، كان من الممكن التفكير بأن الناس قد أدركوا الحاجة إلى تغيير جذري؛ بالنسبة لي لم يحدث شيء من هذا. يمكن أن يكون لدينا إصلاحات يسارية، ومن الواضح أن هذا يبقى ليُبرهن عليه، ويعتمد على إعادة تموضع اليمينيين؛ لكوني معنيا بالتاريخ الاجتماعي إلى حد كبير، فقد تعلمت أن منح حقوق قوية للعمل جعل ظروف العمال أكثر أمنا، وخلق تطورا إلى حد ما مقارنة بظروف البروليتاريا، فلا يمكننا اليوم الاعتماد على الشروط الصارمة للتسوية التي كانت في السبعينيات.
إن النظام الرأسمالي الجديد يعتمد على تدويرًا أكثر للعمل، فلم يعد العامل مرتبطًا بوظيفة واحدة طيلة حياته، بل يخوض فترات متعاقبة من العمل والبطالة؛ المطلوب هو قبول هذا التنقل والتحكم فيه.
فوق كل ذلك فإن هذه التحولات ينبغي ألا تكون مصاحبة لتصريحه بالبطالة، وإلا فإن الأمر سيؤدي إلى رفض الناس ووضعهم في وضعية مروعة، إن مشكلة أمن العمل تكفل اتحاد العمال، اقترح محامي العمال الآن سيبيوت Alain Supiot إعطاء العمال وضعيا شرعيا، حيث كان هنالك اقتراحات بهذا الاتجاه كان بإمكانها تشكيل إصلاحات يسارية، باستثناء أن محتوياتها تبقى محل نقاش.
الاختلافات بين وضعية الاتحاد العالم للعملGeneral Confederation of Labour ووضعية الاتحاد الديمقراطي الفرنسي للعمل French Democratic Confederation of Labour ليست مسائل أقل أهمية، وبعدُ فإنه مهما كانت الفروقات بين النقابات، فإنني آمل أن تكون الاختلافات أقل مع جمعية الشركات الفرنسية Association of French Enterprises.
—
– بالنسبة لك فإن “اللايقين الاجتماعي” هو مجموع الحقوق التي يتخلى عنها العمال؛ لتعويض منطق الربح الذي يفرضه رأس المال، ومع ذلك، في مواجهة التمويل، ألا يجب أن نتصور شكلا جديدا من أشكال “التخصيص الاجتماعي”؟
– روبرت كاستل: نعم، يمكن أن تكون هذه مقاربة من بين مقاربات أخرى، تعني أن الملكية الاجتماعية للعامل لها حقوق، وهو على قدم المساواة مع أصحاب الممتلكات الخاصة، فهناك عدد من الحقوق محل نزاع؛ مثل: الصحة، والتقاعد وغيرها. ويمكن أن يعلن عن ستة أو سبعة من هذه الحقوق، الأمر الذي يضمن للعامل موارده الأولية حتى يستمر العمل في منحه الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي.
كان برنارد غازر Bernad Gazer قد بدأ ” الأسواق الانتقالية” حيث يتم العمل بتزايد في أشكال انتقالية، وبالنسبة ليفس بارل Yves Barel فقد أوضح أن العمل يبقى أساس التكافل الاجتماعي. إن العمل حتى وإن كان أقل جوهرية، فإنه ليس أقل أهمية في هذا السياق، فإن الحقوق ضرورية للتدريب الفعلي لكل عامل، وهذا عامل أساسي لجعل عالم العمل أكثر أمنا.
—
– ما الدور الذي تعزوه للنقابات في هذه “التحولات الاجتماعية” ؟
– روبرت كاستل: كان دور النقابات والطبقة الثورية العاملة مهما للغاية لكن بعيدا عن الحصر؛ وفّر هنري هارزفيلد Henri Harzfeld تحليلا جيدا لمكونات الحماية الاجتماعية في كتابه من الإملاق إلى الأمن الاجتماعي، وأوضح أنه على مدى قرن من التاريخ لم يكن هنالك اتحاد داخل حركات الطبقة العاملة، ويرجع ذلك أساسا إلى خصومة الإصلاحيين/الثوريين ويعني ذلك موقفا ضبابيا معقدا. وبالتالي فإن بعض العمال التفوا حول بعض الدعوات الإصلاحية لردح من الزمن لزيادة الانتاج.
—
– في العمل الجماعي: تغييرات وآراء عن التغييرات Changes and Thoughts about Change ، قبلت الدخول في نقاش مع زهاء خمسة عشر باحثا آخر، وقد خرجت بمقال باهر مهدى إلى أستاذك في الرياضيات، وهو يجمع العديد من الثنائيات مثل فرويد وماركس، “الموضوعي” و “الذاتي”، والمشاعر الاجتماعية والحتميات، وهذا مجال عمل لا يزال مفتوحا.
– روبرت كاستل: لا أعلم إن كان هذا المقال مبهرا فعلا، إلا أنه يتقاطع مع اقتناع عميق كان لدي منذ بحثي في الفلسفة وبعدها في السوسيولوجيا، وعلى النقيض من المفاهيم الليبيرالية، فإن الفرد فقط هو الذي يتخذ الخيارات ويتحمل المخاطر، أعتقد أن الفرد هو موضوع احتماعي، كلنا قد عبرنا التاريخ، وليست المسألة فقط أنه جزء من خلفياتنا، بل إنه يشير بعمق إلى خياراتنا، وحبنا، وأحزاننا؛ نحن مدينون للتاريخ.
حين كنت فتى صغيرا، لم يكن يتوجب عليّ الذهاب للدراسات العليا، كنت في الكلية التقنية، وكان هناك معلم ملقب بـ “بوشنوالد” « Buchenwald »، مُرحّل سابق، وربما ناشط ومناضل شيوعي، أخذني تحت جناحه وشجعني على دخول الثانوية، والفضل يعود إليه ومن خلاله قد أنجزت شيئا لم يكن عليّ القيام به، أعتقد أنني اتجهت بحياتي ملتزما بقيمي إلى نظام الحياة الذي تَحمله، إن هذا الأمر أيضا هو ما خلق تحولا وتضامنا بين البشر.
هذه هي الصورة التي يمكن أن نصنع بها مجتمعا مختلفا بشكل كلي أفضل من صورة مجتمع المنفعة من أجل المنفعة. لطالما لم يأخذ السياسيون الاجتماعيون الفرد بعين الاعتبار من وجهة النظر هذه، إلا أنهم اهتموا بأعضاء الجماعات فقط في هذه الفترة الأخيرة، وبالأساس تزامنا مع هذه الأزمة، تم وضع عملية تهدف لوضع الأفراد في إطار سياسة فردية، إنه خطاب يجعل الأفراد مسؤولين. ونتيجة لذلك، لم يعودوا يمنحون حقوقا غير مشروطة في المقابل، وهذه المسألة أتناولها في كتاب “تضامن المستقبل” « The Future Solidarity ».
—
– بصفتك مواطنا، وقّعت “نداء الاستئناف”، هل هذا يغطي تساؤلك؟
– روبرت كاستل: نعم، ويؤكد نداء الاستئناف هذا على تضمين الفرد؛ ليس لتلقي الهدايا التي تقع عليه من السماء، ولكن في سياق منطق الحقوق. هذا يستدعي المرجع الأساسي للجمعية التأسيسية لعام 1793م على الوطن واجبات اتجاه المواطنين الأكثر هشاشة، الحق في المساعدة هو جوهر السياسة الجمهورية.
اقرأ ايضاً: لماذا تجعلنا الرأسمالية نشعر بالخواء؟ .. تاريخ موجز للسعادة يبيّن لنا الأسباب