- شون كو
- ترجمة: حصة السنان
- تحرير: رنا داوود
قد يكون الوسط الأكاديمي بيئة عملٍ مريعةٍ لمن يعملون فيها. يُظهِر استبيان صدر مؤخرًا أن أكثر من 40% من الباحثين قد تعرضوا لتنمر أو مضايقات وأن أكثر من 20% قد شعروا بضغط من المشرفين؛ من أجل الوصول إلى نتائج بحثية معينة، وأن ثمة أزمة صحّة نفسية في الوسط الأكاديمي، لا سيما عند طلبة الدراسات العليا والمبتدئين من الباحثين، كثيرًا ما يلقى اللوم على الرأسمالية باعتبارها سبب هذه الحالة المضطربة.
وعلى الرغم من أن الوسط الأكاديمي قطاعٌ غير ربحي، فالباحث ليس ببائعٍ شيئاً، فإن إملاءات الرأسمالية، مثل: “المنافسة، والتراكم، وتحقيق أعلى قدر من الربحية، وزيادة إنتاجية الأيدي العاملة”، هي ذاتها سمات بيئة العمل الأكاديمي، ولذلك فإن الرأسمالية تتحمل مسؤولية توظيف العلم والاستغلال، أو “الاستغلال المُفرِط” للعاملين في الوسط الأكاديمي.
المُنافسَة المُفرِطَة:
يمكن، قطعًا، أن نلوم الرأسمالية على بعض مشكلات الوسط الأكاديمي؛ فالتنافس المُفرِط، على عدد محدودٍ من الوظائف والدعمِ المالي، قد تسبب في ظروف عمل “سيئة ومُؤذية” حتى أن أقل من ثلث الباحثين يشعرون بالأمان في وظائفهم حسب استبيان لـ UK’s Wellcome Trust. هذا يجعل الباحثين تحت الضغط، وقد يدفع بهم إلى سوء الأداء البحثي، مثل: التزوير في البحث، أو تلفيق بياناته، إذ يحاول الأكاديميون، في سعيهم الحثيث على هذه الوظائف، التقدُّم على منافسيهم فيها.
كما عُدّ استخدام قطاع الجامعات لهيئات تدريس مساندة، والاستعاضة عن الوظائف الدائمة بوظائف مؤقتة [مثل نظام العمل بالعقود] في قطاع التعليم العالي= يُلحق اللّوم بالجامعات لنُزُوعِها إلى تغليب الربح على الإنسان.
وكحال كثير من حملة الدكتوراه من الباحثين، فإني، ومنذ حصولي على الدكتوراه، لم أحصل على عقد عمل مدته أكثر من عامين، ولذا فإني متعاطف ومتفهم، من واقع تجربتي، مع الشكاوى حول عدم الأمان الوظيفي طويل الأمد، والمنافسة المُفرِطة.
ولكن الإملاءات الرأسمالية ليست كل ما هنالك، ففي أحيان كثيرة، تكون قيادات المؤسسة الأكاديمية هم من اختار تجاهل نصائح الخبراء، ورفضوا تنفيذ السياسات التي من شأنها أن تجعل المهنة الأكاديمية أقل استغلالًا لمن يعمل فيها.
تجاهل نصائح الخبراء:
التنافس الشرس في المؤسسة الأكاديمية ناتج -أساسًا- عن الزيادة المفرطة في أعداد الخريجين الباحثين عن عمل، فمع وجود عدد كبير من الخريجين من حملة الدكتوراه، فإن عدد الوظائف الأكاديمية ذات الطبيعة المستدامة ليس كافيًا.
ولكن، وعلى الرغم من أن المختصين في قطاع العمل من خبراء الاقتصاد كانوا قد نبهوا مرارًا على أن زيادة أعداد حملة الدكتوراه عن حاجات سوق العمل منذ السبعينيات، لم تستجب المؤسسات الأكاديمية لهذه الدعوات، حيث لم تقلل من أعداد المقبولين فيها.
وتلك إشكالية تقليدية منشؤها طبيعة العمل في الوسط الأكاديمي الجماعية؛ فطلبة الدراسات العليا يقومون بكثير من الأبحاث المُطوَّلة، التي تعتمد عليها الجامعات في المحافظة على سمعتها، واستجلاب الدعم المالي للبحث العلمي، وجذب الطلبة إليها. إن قررت أي من الجامعات أن تقلل من عدد المقبولين من طلبة الدراسات العليا، فإن هذا سيؤدي إلى إنتاج عدد أقل من الأبحاث، والحصول على دعم مالي أقل. وسيهبط هذا بمرتبة الجامعة في سُلّم تقييم الجامعات، وبالتالي جذب عدد أقل من الطلبة إليها.
ولكن الجامعات إنما تعمل وتبني قراراتها وتتخذ مواقفها مجتمعةً. على سبيل المثال، من خلال الرابطات المهنية للشركات، مثل Association of American Universities (رابطة الجامعات الأمريكية)، وU 15 في كندا، و Group of Eight (مجموعة الثمانية) في أستراليا. في أوروبا، نجح برنامج (بولونيا)[1] إلى حد كبير في مواءمة متطلبات شهادات التعليم العالي في 48 دولة منذ 1998، غير أن المؤسسة الأكاديمية طالما تجاهلت نصح الخبراء، وقاومت تنفيذ إصلاحات جوهرية من شأنها أن تقلل من الخريجين من حملة الدكتوراه، وتغيّر من توزيعهم على التخصصات على مدى أربعة عقود.
ما يوفره القطاع الخاص لسوق العمل:
إذا كانت الرأسمالية هي حقًا السبب الوحيد وراء سوء ظروف العمل في الوسط الأكاديمي، فإن هذا يجعلنا نتوقع لحملة الدكتوراه من الخريجين أن يكونوا أسوأ حالًا إذ تواجههم الرأسمالية الحقيقية في سوق العمل، غير أن ما يحدث في الواقع هو العكس. حملة الدكتوراه ممن يعملون في القطاع الخاص يكسبون دخلًا سنويًا يفوق بعدة آلاف ما يحققه نظرائهم من العاملين في القطاعين الأكاديمي والحكومي.
كيف يمكن أن تدعم الرأسمالية رفع أجر العاملين في القطاع الخاص من حملة الدكتوراه، وهم خاضعون تحت تقلبات السوق عن أجورهم وهم مُحاطون بقدر من الحماية في ظل المؤسسة الأكاديمية، تمولهم المنح الحكومية المُمتدَّة لسنوات، والأوقاف.
في الواقع، قد يكون القطاع الخاص الآن يوفر أمانًا وظيفيًا أفضل، في مجمله، عما توفره المؤسسة الأكاديمية. تهيئ شهادة الدكتوراه خريجيها للعمل في وظيفة أكاديمية، بالدرجة الأولى، وهذا هو المسار الوظيفي الذي يرغب فيه معظم طلبة الدكتوراه. ومع ذلك، ومنذ 1969، نسبة العاملين في الوظائف طويلة الأمد أو المُثبتة من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات قد انخفضت إلى النصف. فخُمْس حملة الدكتوراه الآن حاصلون على وظائف أكاديمية آمنة ذات طبيعة مستدامة ، ولكن، وبدلًا عن إهمال هذا الفائض من الخريجين، أخذ القطاع الخاص بتحسين الوضع، ووظف عددًا يضاهي ما هو موجود في الجامعات من حملة الدكتوراه، وظائفًا تحقق لهم قدرًا لائقًا من الأمان الوظيفي.
في الفترة ما بين 2003 و 2017، كانت نسبة العاطلين عن العمل من حملة الدكتوراه في العلوم والهندسة لا تتجاوز 1.6% – 2.6% ، مقارنةً مع 2.9% – 4.9% من العاطلين عن العمل من حملة البكالوريوس -في هذه التخصصات نفسها. وبينما تفشل المؤسسة الأكاديمية مرارًا في تأمين وظائف لخريجيها من حملة الدكتوراه،بينما يوفر القطاع الخاص لهؤلاء الخريجين مصادرًا لرزقهم.
التواطؤ الأكاديمي:
نُظُمٌ استغلالية أخرى في المؤسسة الأكاديمية تنطوي على تأثير جهات تجارية فاعلة ومُتنفِّذة، غير أن من يتولى إدارة هذه النظم ويرعاها -ولدواعٍ مقصودة ومتعمدة- هي المؤسسات الأكاديمية.
يُعرف عن النشر الأكاديمي صبغته الاستغلالية الغريبة، في نظام النشر هذا، يدفع غير الأكاديميين للأكاديميين في الجامعات أمولًا ليقوموا بأبحاث، ويؤلفوا أوراقًا علمية، هذه الأوراق تُقدم إلى الناشرين، الذين -بدورهم- يطلبون من أكاديميين آخرين أن يقرأوا هذه الأوراق ويقيّموها، ولا يدفع الناشرون لهؤلاء المراجعين شيئًا، إلا في حالات نادرة، فإذا قُبلت هذه الأوراق، فإن الناشر يبيع حق الاطلاع عليها على الجامعات، أو، وإذا كان الاطلاع على هذه الأوراق متاحًا للجميع، يُرسَل لمؤلفيها إيصالٌ لدفع قيمةٍ تتراوح بين ألفي وخمسة آلاف دولار.
يُرَى كثير من الأكاديميين الناشرين يقدمون مبالغ متدنية، وخدمات لا ترقى إلى المستوى المطلوب، ومعايير بحثية مُضَعضِعة، حتى إن بعض الأكاديميين قد تلقوا تهديدات عبر خطابات قانونية بعد أن أتاحوا بأنفسهم تبادل وتداول أبحاثهم.
إنني ناقد شرس لدوائر النشر التجارية، ولكن نظام الاستغلال هذا، يدار ويُرعى من قِبَل الأكاديميين لا الناشرين التجاريين. يعمل الناشرون التجاريون على تشكيل جماعات ضغط من أجل أن يحموا مصالحهم، وأن يحققوا بقوتهم في السوق أكبرَ قدر من الربح، ولكن المؤسسة الأكاديمية قد اختارت أن ترعى وتنمّي نظام نشرٍ مُستغِل مع وجود نماذج بديلة.
إن التحول الحاصل الآن نحو نشر مفتوح –يتيح إمكانية الاطلاع- يجسد التواطؤ الأكاديمي. في النشر المفتوح، تعتمد الإيرادات على تعيين رسوم على نشر المقال، رسوم تحصَّل من الكُتّاب والجامعات على مقالاتهم المقبولة للنشر. وليس يخفى أن هذا مما يشجع على الزيف في النشر، وقد نتج عن هذا النظام أضرار هائلة، ولكنّ مُمَوِّلي الأبحاث ما زالوا على مُناصرتهم وتأييدهم لفكرة دفع رسوم على نشر المقالات للناشرين التجاريين.
أستاذ اللسانيات الفرنسية، والمناصر للنشر المفتوح، يوهان روريك Johan Rooryck، كان قد أقرّ بأن نظام أمريكا اللاتينية “الذي تقوده جهات أكاديمية، غير الهادف للربح، وذو الكفاءة الفنية، الذي يعتبر من، الجهة العلمية، نشرًا مفتوحًا، أن هذا النظام هو الطريقة الصحيحة والمُثلى”، غير أنه، وفي استدراك، يبدو متناقضًا كمن يتراجع عن قوله، يقول يوهان أنه: “ليس يمكننا أن نأمل استبعاد الناشرين التجاريين”، وعلينا أن نواصل توقيع العقود المُربحة معهم.
وإنها لمفارقة، أن الرأسمالية، وبدلًا من أن تحكم على الأكاديميين باستغلال لا نهائي من الناشرين التجاريين، فإنها تزودهم –الأكاديميين- بالوسائل التي تمكّنهم من شراء أو وبناء منتجات أو خدمات بديلة أفضلَ جودةً. يمثل رورياك ائتلافًا من ممولي أبحاث أوروبيين وغير أوروبيين (من دول عدّة)، ممن اختاروا، عمدًا، أن يتّبعوا مسارًا يزيد من حالة عدم المساواة في التواصل البحثي بين الباحثين في المجتمع الأكاديمي، ومع المؤسسات المهتمة بهذا النتاج، وليس هذا استغلالًا مِن قِبَل إملاءات الرأسمالية، وإنما هو افتقار إلى الشجاعة، ومحدودية في الأفكار عند من يسمَّون بالقيادات في المؤسسات الأكاديمية.
الأداء، والمقياس، والسياسة:
كثيرًا ما يشار إلى مقاييس الأداء الأكاديمي على أنها سبب للاستغلال وسوء الممارسات العلمية، ويعزى إليها على أنها من إملاءات الرأسمالية، ولكن -ونكرر ما أسلفناه، الأكاديميين- هم الذين اختاروا أن يستخدموا مقاييس مملوكة لكيانات تجارية، بدلًا من أن يصمموا مقاييس ومعايير تقييم أكثر عدلًا. مثلًا، من أجل الحدّ من التدني في مستوى العلوم، والتغوّل أو التوحّش عند شركات النشر، اقترح كبير علماء استراليا اعتمادًا أكبر على مقاييس من (Clarivate Analytics). ليس ثمة من إملاءات رأسمالية تُعيّن على الأكاديميين استخدام النشر التجاري، وخدمات التحليل التجارية، غير أن الأكاديميين والعلماء يختارون، مرارًا، أن يستخدموها (أو أن يفعلوا هذا).
في الصين، تغيرات أساسية تجري الآن لجعل نظام التحفير الأكاديمي أكثر عدلًا. يجري التقليل من أهمية وأوزان بعض المقاييس الأكاديمية المَمقوتة، على سبيل المثال، معيار أثر المجلة العلمية، والذي يحسب استنادًا إلى عدد الاقتباسات من/ الإحالات إلى ما نشر في المجلة العلمية، قد صار الآن مجرد معيار ضمن معايير عدة تستخدم في التقييم.
المتطلبات التي تشترط أن ينشر طلبة الدكتوراه أبحاثًا قبل التخرج، قد تُوُسِّع فيها، ووضع وزن أكثر، في التقييم، على رأي باحث دكتوراه متخصص في الموضوع، وعلى تقييم خبير. يُظهر هذا أن قدرًا قليلًا من قرارات التحسين في السياسات تتخذها قيادات المؤسسة الأكاديمية يمكن أن تُحدِث تغييرًا حقيقيًا للباحثين الأكاديميين.
كثيرًا ما يكون العمل الأكاديمي استغلاليًا، والإملاءات الرأسمالية، مثل: المنافسة، الدفع بالإنتاجية إلى الحد الأقصى، والبحث عن الربح، هذه الإملاءات كثيرًا ما يلقى عليها اللوم، في المجلات العلمية، والصحافة العامة على حد سواء، على هذا الاستغلال الحاصل في العمل الأكاديمي. لكن هذه العوامل ليست هي المسؤولة وحدها على عقود العمل قصيرة الأمد في الوظائف الأكاديمية، والانخفاض في الأجور، وأنظمة التحفيز الأعوج.
قطاعات العمل الخاص الرأسمالية قد وفرت مسارات توظيف كاملة، لآلافٍ من طلبة الدكتوراه وخريجيها، وذلك بتزويدهم بفرص لوظائف في القطاع الخاص برواتب جيدة، ويتحقق بها أمان وظيفي. ومع الكيانات التجارية الحريصة على أن تنتفع من الاستغلال المُمَنهج الحاصل في الوسط الأكاديمي، إلا أنها -الكيانات التجارية- ليست هي من تخلق هذه الأنظمة أو ترعاها، وإنما من يتولى هذا العمل حاذقًا فيه هم الأكاديميون أنفسهم.
اقرأ ايضًا: لماذا تجعلنا الرأسمالية نشعر بالخواء؟
[1] -“برنامج (بولونيا) (Bologna process) : هو برنامج يهدف إلى ضمان إمكانية المعادلة في معايير وجودة شهادات التعليم العالي، وقد افتتح في 19 يونيو1999، عندما اجتمع وزراء من 29 دولة أوروبية في (بولونيا) ليوقعوا اتفاقية مهمة: (إعلان بولونيا) والذي كان الإيذان الرسمي ببداية هذا البرنامح”.unibo.it -المترجمة.