د. عائض بن سعد الدوسري
في صباح يومٍ جديدٍ، ليست له ميزة خاصة عن بقية الأيام التي اعتادت على أن تمضيها كيفما اتفق، وجدت لينة نفسها كالمعتاد بدون هدفٍ مُحددٍ تواجهه ويثيرها فيها التحدي، ولا خطة عملٍ تنتظرها من أجل إنجازها. ولهذه، قَرَّرَت كعادتها اليوميَّة أن تبقى بصحبة هاتفها، ذلك الصديق الصامت الذي يمنحها ما تريد منه ما دامت تطلب منه وتستخدمه، ولهذا أخذت تتصفح مواقع ووسائل التواصل الاجتماعية، تُقَطِّعُ أوصال يومها كعادتها، لكنَّها في ذلك اليوم لم تدرك بشكلٍ عميقٍ أنَّ يومها الجديد، الذي كان من المفترض أن يمر كبقية الأيام، سيتحول إلى نقطةٍ فاصلةٍ في حياتها، وسوف يرسم بقيَّة مستقبلها، بل ما هو أكثر أهميَّة!
فبعد تنقلها من موقعٍ إلى موقع، ومن حسابٍ إلى حساب آخر، ومن هشتاقٍ إلى آخر، وكانت الصور اللائقة وغير اللائقة تمر بها، فلحظة تتجاهلها ولحظات أخرى تسترق النظر إليها بفضولها المعتاد، فيحرك مشاعرًا متناقضة داخلها، وهكذا تسير في طريقها اليومي تائهةً لا تلوي على شيءٍ، ولا تقصد شيئًا محددًا، بل هو التسكع بين الحسابات هنا وهناك. لكنَّها في إحدى اللحظات في ذلك الصباح، وهي تقلب أحد الهشتاقات، وجدت حسابًا مثيرًا يروي قصة ما!
كانت قصةً شَيِّقَةً!
وبمجرد أن قرأت التغريدة الأولى منها، حتى وجدت نفسها منساقة إلى تتبع بقية القصة. وهكذا وجدت لينة نفسه مستسلمة ومنقادة طواعية لأحرف تلك الكلمات المنسابة. لقد كانت مندمجةً معها إلى درجة أنَّها تخيَّلت نفسها تلك الشخصيَّة الرئيسة في الحكاية، وكأنَّها تُشاهد فيلمًا سينمائيًّا، بل وكأنها تُمارس لعبة بتقنية الواقع الافتراضي (VR). كانت القصة تحكي تجربة شابة جميلة وذكيَّة، واجهت جملة من التحديات الاجتماعيَّة والأسريَّة، في حكايةٍ محبوكة النسيج مصنوعةٍ بعنايةِ أديبٍ خبيرٍ، وقد تضمنت -ولا يُعْرَفُ إن كان ذلك عمدًا كما أراده كاتبها أم كانت غير مقصودة أم حقيقيَّة- شبهاتٍ حول قضايا إيمانيَّة، وكانت الكلمات البليغة في تتابعها المنسجم كأنها مقطوعة موسيقيَّة، كان عزفها العاطفي كضوءٍ خافتٍ يكمل المشهد المؤثر الذي ترسمه أحداث الحكاية المترابطة والمتتابعة بشغف. كانت عاطفة لينة تتموج مع القصة كألوان الطيف، بل كما تتموج النفس مع صوت الموسيقى الخافت والمرتفع، تضحك تارةً، وتسكت -في وجومٍ- تارةً أخرى، وفي مرة تكاد أن تبكي حُزنًا وهي تقاوم بيدها انسكاب دموعها على خديها، وفي أخرى غضبٌ يشتط داخلها، فتتمنى لو كانت هي بطلة تلك القصة، لتقوم بتغيير مجرى الأحداث بقوةٍ وعنفٍ!
وبعد الانتهاء من قراءة التغريدات الطويلة -التي كان مع كل تغريدة فيها صورة مُعبرة ومُنتقاة بعناية- أغلقت الهاتف وهي مجهدة نفسيًّا، وخفقات قلبها تتردد بقوة، ووضعتُه على الطاولة، ثم استرخت وأسندت ظهرها إلى الكرسي ثم تمددت، وأخذت نَفَسًا عميقًا. “يااااه! يا لها من فتاة مدهشة، وحكاية مؤلمة“. قالتها بِنَفَسٍ طويل، ينبع من أعماق قلبها. أغمضت عينيها، وبدأت تظهر في سماء تفكيرها بعض الأفكار التي وردت في تلك الحكاية، وكأنَّ القصة عادت من جديد، لكنَّها هذه المرة مجردة من زوايا الأمكان وتفاصيل الصور، بل الآن تُروى في داخلها بطريقة مختلفة، بصورة الأفكار العالقة المجردة، وأصبحت بطلتها الجديدة إنسانة أخرى، هي الفتاة المرهقة لينة، وهكذا نشأ حوارٌ بينها وبين نفسها حول بعض أفكار الحكاية، ووجدت نفسها -كما انساقت مع القصة لعذوبة تسلسلها- تنساق بل تندمج مع تلك الأفكار الضاجة بالحماسة والتمرد، والتي غُرِسَتْ بذكاء في سياقٍ عاطفيٍ مُدهشٍ، نجح في أن يتجسد كحقيقة في واقعها، وإذا بقوى الوهم تتمثل أمامها حقائق جليَّة. لم يكن في الحكاية أدلة ولا براهين، ولم تكن بحاجة إلى ذلك لتقنع إنسانة حسَّاسة مثل لينة، كان كل الذي يلزم هو ظلال تلك العرائس الجميلة المُنكسرة على خشبة ذلك المسرح الذي يحكي مأساة، مأساة تم أداء أدوارها بنجاح مُبهر يستحق التصفيق، في قصةٍ بديعة التصوير، بليغة الكلمات. ومما زاد في تأثر لينة، أن تلك الحكاية لامست جُرحًا عندها، فأيقظته من نومه، كماردٍ عاد جذعًا، فصار الجرح يثخب دمًا، كأنه جرح طري لم ينكأ إلا الآن، وإذا بلينة -الفتاة الوديعة- تتقمص شخصية آخرى مختلفة عن طبيعتها، لقد أصبحت الآن صوفي، تلك الفتاة المتمردة الشكَّكَة، بطلة تلك القصة!
تلك كانت قصة عابرة، لفتاة مراهقة طيبة، صورها ربما في بيوتٍ كثيرةٍ، وربما نراها في أمكان متعددة، وبأشكالٍ مختلفة، وبتفاصيل متنوعة، لكنَّ التجربة نفسها أو تجربة قريبة منها، تتكرر هنا وهناك، التفاصيل الدقيقة مختلفة، لكنَّ النتيجة غالبًا متشابهة، إن لم تكن واحدة. لينة صورٌ تستنسخ نفسها، قد لا نراها بوضوح إلا في العالم الافتراضي، في عالمٍ يختبئون فيه خلف المعرفات المستعارة، وقد يظهرون أحيانًا في العالم الواقعي. لكنَّ بعضهم حين يُحِسُّ بأمانٍ أو يلمس حنانًا، والأهم من ذلك أن يدرك حاجةً ماسةً ومُلِحَّةً في أعماقه إلى مد العون إليه لمساعدته في استعادة يقينه المفقود، تجده يتسلل إليك في خجلٍ وحياء، بأشكالٍ متعددة وطرقٍ مختلفة، يطلب أن تقف بجواره كي يستعيد ذلك الأمن والاطمئنان الذي فقده، وهنا تبدأ رجلة شاقة وشيِّقة في الوقت نفسه، قد تقصر وقد تطول، قد تفشل وقد تنجح في استعادة الكنـز المفقود، اليقين.
إن كل إنسان في هذا العصر خصوصًا، سيتعرض إلى مزيدٍ من الشبهات والمعلومات المُضَلِّلَة، عمدًا أو عَرَضَاً، من جهاتٍ مؤسسيَّةٍ منظمةٍ أو من أفرادٍ تائهين ينشرون قصص شكوكهم في حساباتهم، ويتداولونها فيما بينهم. ولأنَّ ذلك قد أصبح واسع الانتشار، ومن ثم قد يصادفه الإنسان في فضاء التواصل الاجتماعي، رأيتُ أن أضع بعضًا من الخطوط العريضة العامة في كيفيَّة التعامل مع تلك الأفكار والشبهات التي تعلق ببعض الأسئلة الوجوديَّة الكبرى، لعلها تُقَدِّم فائدة في مواجهة تلك الشكوك.
ومن تلك الخطوط العريضة في التعامل مع الأسئلة الوجوديَّة الكبري:
أولاً: أنَّ الإنسان الواعي الناضج لن يترك يقينه بدينه (وهو رأس ماله في الدنيا والآخرة) الذي يمتلكه؛ لأجل شكٍ عارضٍ يمر به، مهما بلغت درجته، فهو بذلك يكون كمن يترك مبلغًا عظيمًا بيده لأجل مبلغٍ ليس في يده، يظن أنَّه ربما قد يكون في يده. وهذا لا يفعله عاقل يدرك بوعيه الناضج مآلات الأمور وعواقب التفريط.
ثانيًا: أنَّ أخطر ما قد يواجه مَنْ يتعرض إلى الشكوك والشبهات هو الخوف والخجل من أن يتحدث عنها مع شخصٍ عالمٍ متخصصٍ، لأنَّه سيشعر بالخجل من أن يقول عن نفسه إنَّه وقع في شكٍ أو أثَّرَت به شبهة. وهنا يجب أن يعلم الإنسان أنَّه لا يُوجد من هو في منأى أو في عصمة أو في حصنٍ عن التعرض للشبهات، فكل إنسان معرض لها، وأعظم ما عند المرء هو يقينه بدينه، ولهذا فإنَّه لن ينخدع للشيطان بواسطة إشعاره بالخوف والخجل؛ ليصده عن البحث عمن يدحض ويرفع عنه سلطة هذه الشبهة، فالعاقل يُدرك بوعيه أن تركها دون مواجهة مثل ترك السم دون ترياق، فنهايته هي الموت، ولو بعد حين.
ثالثًا: فيما يخص الذين يتهمون الدين بأنَّ لديه فراغات (=غيبيات، مُسَلَّمَات)، يُحيل إليها في إجاباته، فيجب أن يُعلم أنَّ العلم يلزمه ذلك أيضًا، ووجود “الفراغات” أو “المُسَلَّمَات” لازم للمعرفة البشريَّة، وكما أنَّ الدين يحتاج إلى تسليم، فكذلك العلم، تلك حقيقة وإن سُميت بالفرغات أو المُسَلَّمَات، فهي لم تسد ولن تسد إلى يوم القيامة. والسبب في ذلك بسيط، وهو أنَّ معرفة العباد وعلمهم ناقص وقاصر، وسيظل كذلك، فالعلم يكشف اليوم شيئًا ليظهر من ورائه ألف مجهولٍ جديد، وهكذا في كل مرة. بل الإلحاد نفسه يعتمد ويركن إلى تلك “الفراغات” و”المُسَلَّمَات“، بل ويستند إلى “إيمان” لا برهان عليه، يُسميه ملايين السنين، وتخمينات وافتراضات، فالملحد يهرب من الإيمان بالله وقدرته، إلى الإيمان بالطبيعة أو بملايين السنين وقدرتها، دون برهان على ذلك.
رابعًا: قضايا الدين القطعيَّة في ثبوتها ودلالاتها، لا يُمكن أن يأتي العلم بحقائق قطعيَّة تضادها وتنفيها، لأنَّ مُنْـزِل الوحي الصحيح هو خالق العقل الصريح، وكم من أمورٍ علميَّة قيل إنها حقائق ثابتة وقطعيَّة، أو سادت وانتشرت في الأوساط العلمية، وقيل هي تخالف الدين، ثم تبين لاحقًا بواسطة تطور العلم نفسه أنَّها أقل درجة من أن تكون حقائق. ولهذا فإنَّه لا يَحْسُنُ بالعاقل أن يجعل دينه ألعوبة يُقَامَرُ به في كلِ مرةٍ، بين يدي التخمينات والفرضيات و”الحقائق” العلميَّة، التي تعلنها وكالةٌ ما، فيجعل الأصل هو ما تُقَرِّره وكالة ما أو جامعة ما أو فرد ما، ثم يجعل الدين هو الفرع عن ذلك، فما أثبته “العلم” نُثبِتُه للدين، وما ينفيه العلم ننفيه عن الدين، فهذا واقعيًّا حال من جعل قبوله للدين مشروطًا بما يتوافق مع تلك الوكالات، تمنحه التصديق والشرعيَّة!
خامسًا: الإيمان هو مجموعة مترابطة من خبرة وتجربة القلب والعمل بالجوارح، والإخلال بإحدى هذه الجوانب يعود بالإخلال على بقيتها، كالطريق الذي يُمهد إلى انهيار إحدى جبهات ذلك الجيش الحارس للإيمان، يوشك أن يتسبب بانهياره في انهيار الجيش كله. فالإخلال بالأعمال التي هي مغذيات الإيمان ومُنشطاته، والإتيان بما يضعفه ويوهنه من المعاصي والسيئات؛ تمرض الإيمان، وما من شيءٍ قابلٍ للمرض إلا وقد يموت به. فالعمل مثل المقبض المُحرك، الذي بحركته يزيد الطاقة في المولد، وهو القلب. وقد قال بعض السلف: “الشهوات باب الشبهات“. ولهذا، فمن يُكثر من طرق الباب يُوشك أن يُفتح عليه، فيأتيه ما وراءه!
سادسًا: وجود الشك العارض أمر طبيعي، لوجود النفس العاقلة التي تفكر وتتأمل وتتعرض للشبهات والخواطر، ولذا سرعان ما تهتدي تلك النفس المؤمنة إلى إيمانٍ أعظم من الإيمان السابق، حين تدفعه بعلم وبصيرة، وتصبح في حصانةٍ ومناعةٍ في هذه الحيثيَّة بالذات. أما ذلك الذي يقبل ويستسلم مباشرة للشك بلا دليل أو مبرر، فسيكون قابلاً لكل ما يعترضه من شكوك، وستجده في طبعه يقبل الشكوك في الأشخاص الذين حوله، دون ريبة أو مبررات. ولهذا فإنَّ العيب يكمن فيه، وفي طريقة تلقيه وقبوله للشكوك، وليس في الموضوع المشكوك فيه بالضرورة. فالشك والشبهات مرض، والمرض لا يُترك، بل يُعالج بما يُناسبه من الدواء.
سابعًا: حين مواجهة الشبهات والشكوك، لا بد من التعامل معها بحيطة عاقلة ومنهجيَّة علميَّة، فيُتَجنَّب طريقة (السفنجة)، ويُتَّبَع منهجيَّة (الزجاجة المصمتة). فضعيف العلم والإرادة مثل السفنجة، فهي تمتص كل شيءٍ، ولا تُميز بين الأشياء، الطيبة والخبيثة، والحق والباطل، والدليل والشبهة، ولهذا كان من المتوقع أن يقع في الشكوك بسهولة فيمرض، وربما يموت. أما العاقل، فإنَّ عقله ليس سفنجة، بل زجاجة مصقولة وصافية ومصمتة، يرى من خلالها المعلومات فيميزها ويفحصها قبل أن يُدخلها إلى عقله، فيدحضها إن كانت باطلة، ويقبلها إن كانت حقًا، وتلك الزجاجة هي العلم، فالعلم –بمشيئة الله وحفظه- يحول بين المرء وبين نفاذ تلك الشرور إلى عقله وقلبه، وفي الوقت نفسه يُمكِّنه من رؤيتها بصفاء، فيرى عورها وضعفها وهشاشتها من خلال نور ذلك العلم وضيائه، ويُمَكِّنه من هزيمتها وتزييفها.
ثامنًا: كل إنسان مُعرض للشبهات في هذا الزمن، الذي تقارب فيه النَّاس -من مختلف الأجناس والأديان والمشارب- بشدة، وانتشرت فيه وسائل التواصل الحديثة، والمنهجيَّة السليمة لمواجهة الشبهات، هي: أنَّ العاقل لا يُعَرِّضُ نفسه لمواطن الشبهات، إلا إذا كان يقبل أن يُعَرِّضَ نفسه إلى الفيروسات القاتلة والأمراض الفتَّاكة. فإذا تعرض المرء عَرَضَاً لواحدة منها، فلا يتركها وشأنها، ولا يبالي بها، فينطلق في حياته اليوميَّة وكأنَّ شيئًا لم يحدث. فإن تَوَهَمَ أنَّها ماتت، فهو لا شك مخطئ، فهي لم تمت، بل هي في مرحلة كُمُون، تنتظر أخواتها كي تتجمع معها، أو تنتظر أحداثًا نفسيَّة أو اجتماعية تفجرها فجأة، حتى إنَّ أحدهم ليصل إلى حالةٍ من الشكوكِ والريبةِ لا يعرف معها السبب في تفجرها في قلبه في تلك اللحظة بالذات، وذلك لأنَّه نسي تلك الشبهات التي دخلت وتراكمت في عقله وقلبه، وظلت تعمل في الظلام في أعماقه، وهو يعيش حياته اليوميَّة دون أن يُبالي أو ينتبه لها.
والمعالجة السليمة، هي: أن يتوقف تمامًا عند أول شبهة يتعرض لها، فإن كان طالب علم فلديه في الغالب الأدوات لفحصها ودحضها، فلا يغادرها حتى يقف على زيفها وبطلانها. وإن كان عاميًّا في ذلك المجال، فلا بد أن يُراجع أهل العلم والتخصص. وعليه أن ينتبه إلى أنَّه ليس كل متدين من أهل العلم والتخصص، وليس كل طالب علم شرعي من أهل التخصص المحدد في دحض الشبهات. ولهذا، عليه أن يجتهد في البحث عن طالب علم أو عالم متخصص في هذا المجال بالذات، حتى يصل إلى يقينٍ بأنَّ تلك الشبهة قد تم تزييفها ودحضها. وليحذر ألف مرة من التهاون مع الشبهات، وتركها تسرح وتمرح في ميدان قلبه وعقله دون رقابة واعية ومتبصرة ومسئولة. فالعاقل لا يجعل الشبهات تتراكم، فهي في بدايتها ضعيفة، فإذا تجمعت صارت جيشًا يصعب عليه هزيمتها بسهولة.
تاسعًا: يجب أن يكون واعيًا، فيفرق بين مصادر الشك، هل هي معلومة فكريَّة وعقليَّة تستند إلى شبهة بقرينة علميَّة أو منطقيَّة؟ أم هي نوعٌ من الاستجابة لقهرٍ ما، أو اضطهادٍ ما، أو فقدٍ ما، أو مأساةٍ ما، حصلت له بسبب واقعٍ أسري، أو زوجي، أو اجتماعي، أو وظيفي، أو علاقات شخصيَّة. فالظاهرة الإنسانيَّة معقدة ومتشابكة جدًا، ولهذا فهي مُخادِعَة ومُضللة، فقد توحي للمرء بأنَّ شكوكه هذه هي بسبب معلومات من كتابٍ أو حوارتٍ أو روايةٍ أو مشهدٍ، وهي في الحقيقة بسبب تشوهات نفسيَّة نتجت عن واقعٍ مزعجٍ له، بسببه أو بسبب غيره، أو بسبب مشترك بينهما. فيكون طلاقه/طلاقها أو فشله/فشلها في الحياة الزوجيَّة، أو عدم الزواج، أو عدم الانجاب، أو تعرضه/تعرضها في الصغر لحادثٍ مؤلم، أو فشل أو إخفاق أو فَقْد..إلخ، يدفعه إلى التمرد والكراهية والحنق والغيظ، فيتوجه ذلك كله عادة -في البداية- تجاه من ظلمه وآذاه، ثم ينتقل السخط إلى نفسه، ثم يتحول ذلك من نفسه فيتجه إلى ربه ودينه.
ومن أجل هذا، يجب أن يعلم أنَّه في باب مواجهة الشبهات، أمامه مهمة حاسمة، تتمثل في القدرة على الفصل والعزل بين الشبهة الفكريَّة وبين التجربة النفسيَّة، والخلط بينهما يجعل الأمر غاية في التعقيد، يصعب من ثم حله. وكثيرًا ما تتوارى وتختبئ التجارب النفسيَّة القاسية وراء الشبهات الفكرية! ولهذا يجب أن يكون يقظًا واعيًا لخداع النفس وحيل القلب، فإنَّ الإنسان لا يرغب أن يُظْهِرَ لنفسه، فضلاً أن يُظهر لغيره، أن سبب تغيره الفكري أو العقدي هو مشكلة اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو أسريَّة أو نفسيَّة، فهو في العادة يُحاول أن يواري هذه الأشياء بعيدًا عن الأنظار، لانَّه يراها مثل السوءة التي تُطوى ولا تكشف، بل سيقدم ألف سببٍ غير ذلك، وأنَّ مرد تغيره هو بسبب حصيلة قراءات فلسفيَّة، ومطالعات علميَّة، وجدل معرفي، واشتغالٍ أدبي.
عاشرًا: يجب أن يتم التفريق بين الشبهات والوسوسة، فالوسوسة هي أفكار مزعجة ومُنَغِّصَة، لكنها لا تستند إلى أيِّ دليلٍ أو قرينة، وعلاج هذه الوساوس هو في تجاهلها تمامًا، ثم مباشرة الانشغال بغيرها من الأعمال الفكريَّة أو الجسديَّة. لأنَّ عدم تركها وعدم تجاهلها يجعلها –شأنها شأن الأوهام- تنمو وتتغذى من اهتمام الإنسان وانشغاله بها، وقد تتحول إلى مرضٍ مستفحلٍ، سواء كان ذلك في العقائد والدين، أو في حياته الشخصية مع زوجته، أو مع بناته وأولاده وأصحابه. والقاعدة الثابتة هي: كل فكرةٍ مزعجةٍ لا تستند لأيِّ دليلٍ أو قرينةٍ، فمحلها ليس القلب ولا العقل، بل سلة المهملات من دون تردد، ويعقبها المسارعة في الانشغال بما يحبه من الأعمال التي تُساهم في انصرافه عنها. وليثق أنَّه إن سَمَحَ لهذا النوع من الأفكار أن يتحكم به، فسوف تصبح حياته جحيمًا يتلظى بها، وسَيُحْرِقُ بنارها نفسه ومن يعيش معه وبقربه. فتلك الوساوس في حقيقتها عوارض وهميَّة، لا تمثل خطرًا حقيقيًّا عليه، إلا في لحظة واحدة، حينما يمنحها الحياة، بإعطائها الفرصة التي تنبض فيها، حين ينشغل بها ويفكر من خلالها، فتفسد عليه حياته.
قال النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام وآله: “يَأْتي الشَّيْطَانُ أحَدَكُمْ فيَقولُ: مَن خَلَقَ كَذَا، مَن خَلَقَ كَذَا، حتَّى يَقُولَ: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ“. صحيح البخاري
قال ابن تيميَّة: “وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس… بل متى فَكَّرَ العبدُ ونظر؛ ازداد ورودها على قلبه، وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه، كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية”.
اقرأ ايضاً: الطريق إلى “المخرج الوحيد”