علَّق الرئيس الأمريكي جو بايدن على الجريمة النكراء التي حدثتْ في مدرسة ابتدائية بولاية تكساس الأمريكية يوم الثلاثاء 24 مايو 2022، وراح ضحيتها 21 بريئاً من الأطفال وغيرهم[1]، بالقول: (ما أدهشني هو أن هذه الأنواع من إطلاق النار الجماعي نادرًا ما تحدث في أي مكان آخر في العالم، لماذا نحن على استعداد للعيش مع هذه المذبحة، لماذا نستمر في ترك هذا يحدث ؟… وأعرب الرئيس الأمريكي عن أسفه لعدم إحراز أي تقدم في مجال السيطرة على الأسلحة منذ أن كان نائبا للرئيس، وقال بايدن: “لقد سئمت وتعبت من ذلك، علينا أن نتحرك. ولا تقل لي أنه لا يمكننا التأثير على هذه المذبحة”)[2].
الرئيس الأمريكي وأكثر الشعب معه لا يعلمون سبب حدوث مثل هذه الجرائم البشعة في مجتمعهم “المتقدم” “المتحضر”، فضلاً عن كونهم يقفون عاجزين تماماً حيال معالجتها ومكافحتها. لماذا يقتل شاب أمريكي (عمره 18 عاماً) بدم بارد مجموعة من الأطفال الأبرياء دون أي سبب واضح؟[3] ليس الرئيس الهرِم وعوّام شعبه هم الذين يجهلون أسباب مثل هذه الجرائم المُنكرة، بل إن علم الاجتماع الغربي ذاته – كما يبدو لنا- قد فشل هو الآخر في التشخيص والتنظير المعمقين لهذه المسألة المركبة الغامضة.
هذه القضية لا يمكن فهمها دون التوسل بنموذج تفسيري جيد، وهذا ما فعله بكل الاقتدار الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله (1938-2008)، الذي يستحق بكل الجدارة وصف “أبو النماذج التفسيرية“[4]. وفي هذا النص المختصر، أقف عدة وقفات خاطفة مع جوانب من نموذجه التفسيري المدهش للعلمانية، إذ يمكن أن يعيننا على فهم حيثيات وقوع مثل هذه الجرائم، كما في كتابه الشهير: “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة”، مع السعي لتقريب مفاهيمه المعمقة، حتى تكون مفهومة لمن ليس له إطلاع عليها، أو ليس له دربة كافية للتعامل معها في قالب منهجي تفسيري.
ضمن تقعيده وتوصيفه الدقيقين لـ العلمانية الشاملة التي يعني بها: الإبعاد التام للقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الحياة العامة والخاصة على حد سواء؛ في متتالية زمانية تحدث ببطء وخفاء شديدين، تحدث المسيري عما أسماه بـ علمنة الجريمة؛ ضمن سياق يصفه بأنه علمنة شاملة للسلوك والتفكير والأحلام النابعة من المرجعية الكامنة المادية النهائية.
وفكرة “المرجعية الكامنة” هذه تقابلها “المرجعية المتجاوزة”، وهي أساسية في نموذجه التفسيري، وملخصها أن الإنسان إما أن تكون مرجعيته متجاوزة له، عبر قبوله بمرجعية الدين أو مرجعية أي إطار أخلاقي أو فلسفي، بحيث تحدد له هذه المرجعيةُ المتجاوزة ما هو مقبول وما هو غير مقبول. أو يكون الإنسانُ في الخيار الثاني الذي لا ثالث له محكوماً بمرجعية كامنة فيه، وعندها يصبح الإنسانُ مرجعَ ذاته، فهو الذي يحدد الحلال والحرام، والحسن والقبيح، وما يُعد جريمةً وما لا يُعد.
وفي مطلع حديثه عن علمنة الجريمة، يبادر المسيري بالقول (ونحن لسنا من الغباء والبلاهة بحيث ندّعي أن الجريمة التقليدية “أفضل” من الجريمة العلمانية، وأن هناك جريمة علمانية وأخرى إيمانية، فالجريمة هي الجريمة، ومن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. ولكننا نتحدث هنا عن نموذج معرفي وعن مقدرته التفسيرية والتصنيفية)[5]. إذن، هو يقول لنا، سأقدم لكم نموذجاً تتبينون عبرَه التطورَ في تضاريس الجريمة في المجتمع الغربي الحديث. حسناً، سنرى كيف يكون ذلك، وهل يفي نموذجه فعلاً بوعده؟
أتذكرون جريمة قتل بطل رواية الجريمة والعقاب للعجوز البخيلة المرابية؟ هو قَتلَها لأنه يرى فيها تجسيداً بشعاً لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، مما جعله يسوّغ لنفسه قتلَها بضربة فأس قاسية على رأسها، وصادف أن دخلت أختُها المسكينة في هذا الوقت البئيس، فاضطر إلى قتلها هي الأخرى. هذه الجريمة[6] على بشاعتها هي مصنفة عند المسيري ضمن ما يسميه بـ الجرائم ذات الدوافع الإنسانية، فالقتل بدافع التخلص من الشر هو دافع إنساني، ويدخل في ذلك القتل -مثلاً- بدافع الحصول على المال أو الانتقام لسبب أو لآخر مثل الدفاع عن الشرف أو الثأر، فهو دافع إنساني هو الآخر، ولكنه دافع شرير، حيث يقرر بأن (الإنسان وحده دون كل الكائنات هو القادر على الدفاع عن شرفه، وهو القادر على الطمع والشراهة)[7].
ثم يقرر بأن العلمنة تشرع في تجريد الجريمة من عواملها الإنسانية شيئاً فشيئاً (=متتالية نماذجية، تتحقق عبر الزمن، ببطء وخفاء)، حيث يجري استبعاد تجريدي للعنصر الإنساني فيها، (وابتعاد عن الإبهام للوصول إلى مستويات أعلى من الضبط والتحكم عن طريق تنظيم العواطف “الشريرة أو الخيرة”، ثم عن طريق استبعاد مشاعر الحب أو الكره أو الطمع منها)، مشيراً إلى أنه يدخل في ذلك قتل النازيين لمنْ رأوهم عبئاً اقتصادياً أو ما أسموه بـ الأفواه غير المنتجة Useless Eaters من اليهود والسلاف والغجر والقَعَدَة، حيث تصبح الدولة التنين في حالات كهذه هي “المطلق” (=المرجعية النهائية للإنسان، الذي يتحول في الغالب إلى إنسان وظيفي)، مع التلبس بأكبر قدر ممكن من الترشيد Rationalization أو العقلنة، بما يقود إلى تحقيق الكفاءة والفعالية والضبط التام لكل الإجراءات الخاصة بالجريمة، ومن ذلك ما حدث من الضبط المقنن لجريمة النازيين السابقة، حيث لم يكن مسموحاً البتة للجنود الألمان ركلُ الضحايا أو حتى الإساءة اللفظية لهم، لأن ذلك السلوك يعبّر عن “عواطف إنسانية سلبية”، والعلمنة الشاملة كما قلنا تستلزم إقصاء تام أو شبه تام لكل ما هو إنساني. ومثلها تماماً الجرائم التي تقوم بها العصابات كالمافيا، حيث تُدار بأعلى مستويات الإدارة والضبط أو ما يُسمى بالترشيد [8].
أدرك بأن ذلك غيرُ كافٍ لتوضيح كل دلالات علمنة الجريمة، وما يحصل في أمريكا كما هو في مثالنا السابق. وهذا ما يدفعنا إلى الاستمرار في توضيح جوانب أخرى في أطروحة المسيري، على أنني دائماً ما أقول بأن أفضل طريقة لفهم النصوص التفسيرية المعمقة كنص المسيري، هو أن نتعاطاها كما لو كانت فيلماً مشفراً. القراءة بوصفها فيلماً، تعمد إلى صناعة العديد من اللقطات التي تكشف النقاب عن جانب أو آخر في الفيلم (=النص)، مع صعوبة الفهم دون إكمال الفيلم أو مشاهدته عدة مرات! وهذا ما يجرنا إلى وضع عدة لقطات كاشفة، ويكون القارئ مُطالب ربما بإعادة قراءة هذا النص أكثر من مرة لفهمه، بقالب تكاملي معمق.
يصف المسيري الجرائم العلمانية بأنها بأنها “جرائم نيتشوية“، (فالقاتل يرى بأن العالَم لا معنى له، وأن المعنى شيء يفرضه الإنسان (السوبرمان)، من خلال إرادة القوة التي تتجلى في مهاراته ومقدرته على التخطيط والتغلب بذكائه على الآخرين. ومن أهم أشكال الجرائم العلمانية ما يُسمى الجريمة الكاملة (بالإنجليزية Perfect Crime)، وهي جريمة يتم تنفيذها بطريقة ممتازة (كاملة)، بحيث لا تستطيع الشرطة أن تعرف مرتكبها مهما حاولت)[9]. ألا يذكّركم هذا الوصفُ بما قام به بطلُ الجريمة والعقاب، مع كونها جريمة كانت بدافع إنساني كما بينا (=دافع إنساني شرير أو غير مقبول)؟!
وينقلنا المسيري إلى لقطة أخرى في “فيلم الجريمة العلمانية“، حيث يقول: (يأتي بعد ذلك الجريمة التي لا دافع لها (بالإنجليزية Unmotivated Crime)، وهي جريمة يرتكبها المجرم بدون دافع، وكأن عقله صفحة بيضاء[10]، وهو مجرم محايد تماماً لا يعرف الخير أو الشر أو الحب أو الكره، ولا يلتزم إلا بشيء واحد: تنفيذ الجريمة وإثبات مهارته المطلقة)، ثم يستدرك المسيري على توصيفه السابق بقالب ساخر مُرِّ، حيث يقول بأنه قد يكون ثمة غاية معينة، مثل كونها من باب (تسلية المجرم وقتل إحساسه بالملل، فالشابان اليهوديان من شيكاغو اللذان قاما باختطاف طفل وقتله دون سبب واضح، لا بد أنهما فعلا ذلك من قبيل إثبات المهارة وحب التجربة وتزجية أوقات الفراغ. والشيء نفسه ينطبق على طلبة علم الأنثربولوجي في جامعة هارفارد الذين قضوا ليلة ساخنة في احتساء الخمر، وفي نهاية الليلة قرروا أن يطبقوا إحدى شعائر تقديم القرابين البشرية القديمة على إحدى الطالبات من زملائهم فقيدوها (ويبدو أنها كانت موافقة تماماً على ذلك)، ثم خنقوها بطريقة شعائرية بالغة الدقة (حتى إن الجريمة لم تكتشف إلا بالصدفة من خلال أحد علماء الأنثربولوجيا))[11]، ويذكر قصصاً لجرائم أخرى تتشابه في حبكتها وعدميتها.
يواصل المسيري التحليل، فيضعنا عند هذه اللقطة: (ولعلنا نجد بغيتنا، أي الجريمة العلمانية الشاملة الكاملة، التي تتسم بالحياد الكامل في “أرقى” أنواع الجرائم وأكثرها ترشيداً، وهي الجرائم التي تأخذ سلسلة من الجرائم يرتكبها قاتل يلتزم بقتل عدد معين من الأشخاص لا يعرفهم ولا تربطهم أي علاقة به، ولكن هولاء الأشخاص لهم سمات معينة)[12]. ويقوم القاتل بتنفيذ جريمته عبر طريقة مبتكرة هو يحددها لنفسه، مثل كونه (ملتزماً بمنطق رياضي صارم. ومثل هذا الشخص يسمى بالإنجليزية Serial Killer .. فقد لوحظ أن أحد القتلة من هذا النوع كان يقتل أفراداً مولودين في برج معين)[13]، وهكذا، (وعادة ما يُقدّم مرتكبُ هذه الجريمة للشرطة لمحةً عن جريمته التالية، حتى يكون هناك صراع متكافئ ورشيد بين عقله وعقلهم، الأمر الذي يدل على مدى رشده والتزامه بقوانين اللعبة .. كما يدل على أن ما يسيطر على وجدانه هو عملية الحساب، دون أي مضمون أخلاقي أو إنساني)[14].
وها هنا نعود مجدداً إلى فكرة العلمنة الشاملة التي هي في جوهرها: إقصاء المرجعية الدينية أو الأخلاقية أو الإنسانية عن الحياة العامة والحياة الخاصة أيضاً. وتحدث العلمنة الشاملة عبر عدة أفكار وآليات في قوالب صريحة ومضمرة في الغالب، ومن أهمها القضاء على المؤسسات الدينية والاجتماعية والتربوية أو تهميشها تهميشاً كبيراً، ومن بينها العائلة، مما يعيّش المجتمعات حالات من اللامعيارية (=الأنومي) واللاتوازن في كثير من المجالات والمسارات. وفي هذا الاتجاه، يشير المسيري إلى أن تهميش تلك المؤسسات أدى إلى عدم سيطرة الدول على ما يُسميه بـ “الجرائم العلمانية الصغيرة“، (وهي جرائم ليس بإمكان الدولة أن تكافحها، لأنها تتطلب عملية ضبط اجتماعي من خلال جماعات وسيطة تقضي عليها الدولة العلمانية القوية، فجرائم الأطفال، على سبيل المثل، وشرب المخدرات[15] على هذا النطاق الذي لم يعرفه الجنسُ البشري من قبل، وسرقات المنازل، والتخريب المتعمد في المدارس والأسواق .. هي جرائم كان من الممكن مكافحتها بكفاءة أعلى وتكلفة أقل، لو أن هناك رقابة اجتماعية ذاتية “الأسرة – الجيرة – الأقارب”. أما محاولة القضاء عليها من خلال جهاز الدولة فهو أمر مكلف جداً، وبدأ يثبت استحالته رغم الاعتمادات المالية الباهظة)[16].
طال بنا المقامُ، وقد تكون اللقطات السابقة كافية أو غير كافية في فهم أبعادٍ من الجريمة الحديثة أو الجريمة العلمانية في الغرب. وهذا النص المكثف لا يغني قطعاً عن قراءة السفر العظيم للمسيري رحمه الله، الذي أعده أهم نص كُتب عن العلمانية في الأدبيات الإنسانية قاطبة، ومن يشكك في هذا فعليه القراءة المتأنية في هذا النص.
بقيتْ مسألةُ واحدة، وهي عنوان هذا النص (الجاهليون يأكلون أصنامَهم والغربَ تأكلهم أصنامُهم!)، ما شأنه؟. هل أتركه لفهمك أيها القارئ الكريم وتفسيرك وفق نموذج تفسيري أو تحليلي؟ أم أقدم لقطة واحدة من لقطاته؟ لعل الثاني أوفق، حيث يكون العنوان بيننا في قالب من الشراكة التثميرية له. مما يشي به هذا العنوانُ، الإشارة إلى الفكرة الهاجعة في حقيقة أن بعض الجاهليين العرب –قبل الإسلام- كانوا يصنعون أصناماً من تمر، فإذا جاعوا أكلوها، بخلاف الغربيين، حيث صنعوا لهم أصناماً من “تمر آخر”، والمفاجأة أنهم لا يأكلونها حين يجوعون، بل هي التي تلتهمهم، وبدم بارد وحيادية تامة أيضاً! ولعله من المفيد استدعاء فكرة “وحش فرانكنشاين”، لتقريب بعض أجزاء الصورة/المعنى، وإعادة التفكير في قضايا مثل: مستقبل العلم الحديث، ومستقبل التقنية الحديثة .. هل خرجتْ عفاريتُها من القُمقم؟ وهل ثمة طريقة لإرجاعها أو كبتها أو إضعافها؟! يا له من سؤال ضخم، وواجب كبير، والله المستعان.
[1] عدد الضحايا المثبت هنا (21) هو العدد الذي أعلن حتى تاريخ كتابة هذا النص، والعدد لا يعني لنا شيئاً، وللتوضيح جرت هذه الإشارة.
[2] سي إن إن بالعربية، بايدن معلقا على إطلاق النار في تكساس: متى سنقف بوجه لوبي السلاح؟ 25-5-2022 .
[3] هذه الجريمة لا تعنينا بذاتها وهي للتمثيل فقط، ونحن لا نعرف بعدُ على وجه الدقة السبب وراءها. إذن هي مجرد مثال على الجرائم التي هي بدون بسبب واضح أو هي أقرب إلى أن تكون كذلك.
[4] عبدالله البريدي، كينونة ناقصة – أحد عشر سؤالاً في قراءة الفلسفة، الرياض: أدب، ط1، ص 199-204.
[5] عبدالوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، القاهرة: دار الشروق، ج2، ط2، 2005، ص 176. وما بين القوسين الصغيرين ” ” للمسيري نفسه في كل النصوص المقتبسة له.
[6] لم يشر المسيري لهذه الجريمة في كتابه السابق، وقد أرتأيت التوسل بها لكونها تجسد مثالاً جيداً، بالذات لمن قرأ تلك الرواية المتفردة لـ دوستوفيسكي، وعاش معانيها وأنفاسها وأحداثها وحبكتها.
[7] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 176.
[8] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 176-177.
[9] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 178.
[10] هنا إشارة مقصودة إلى فكرة جون لوك، التي يزعم فيها أن العقل مجرد صفحة بيضاء، منكراً الفطرة أو القبليات.
[11] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 178-179.
[12] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 179.
[13] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 179.
[14] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 180.
[15] يقصد تعاطيها.
[16] المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ص 143.
مقال يكتب بماء الذهب وهذا ليس بغريب على الكتور عبدالله البريدي