عام

كيف يفسر مفهوم (الضولة) هوسنا بكرة القدم؟

  • حمود الباهلي

تعمل سلمى في جامعة سعودية، لم تكن تهتم بكرة القدم كثيراً، فقد مضت عشر سنوات على آخر مشاهدة لها لمباريات كرة القدم، تحديداً في عام 2010م عندما أقيمت في جنوب أفريقيا، لكنها تابعت بشغف كأس العالم الحالي، ما سبب متابعتها هذه المرة؟

وضعت الجامعة التي تعمل بها شاشة كبيرة، لعرض مباريات كأس العالم، توقفت سلمى بالصدفة مع زميلة وشاهدت مباراة، استمتعت بالمشاهدة واستمتعت أكثر بمشاركة شعور إيجابي مع زميلاتها، لتقرر فيما بعد أن تشاهد ما تستطيع من مباريات كأس العالم.

ما حصل لسلمى حصل لي أيضاً، يتردد صديقي وليد على شيخ لضبط حفظ القرآن لم يكن صديقي يشاهد مباريات كرة القدم، لما ذهب إلى الحلقة بعد مباراة السعودية ضد الأرجنتين، وجد الشيخ يوزع حلوى الفوز على طلاب الحلقة الصغار، ثم تحدث مع زميلي عن جوانب فنية في المباراة، بعدها بأيام دعاني زميلي وليد مع شيخه لمشاهدة مباراة السعودية ضد بولندا، علما أنني وصديقي وليد لا نشاهد مباريات كرة القدم، لكن وجدنها فرصة لمشاركة أوقات ممتعة مع حافظ للقرآن بالقراءات العشر.

أعتبر حالة سلمي وليد مثالين لفكرة أن الهوس الكبير بمتابعة كأس العالم، لا يعود إلى أن كرة القدم لها جماهير طاغية، إنما لأنها مناسبة للتواجد مع عدد كبير من الناس، يتحول البعض تدريجياً للاهتمام بها، رغبة في مشاركة محيطه الاجتماعي أوقاته السعيدة.

يوجد مصطلح اجتماعي اسمه (الضولة)، قد لا يكون دارجاً، لكن أعتبره أفضل معبر عن هذا السلوك، تعني الضولة اجتماع الناس حول حدث من غير تخطيط، كما حدث مع سلمى ووليد، بغض النظر هل الحدث جميل أو سيئ..

 فالإنسان كائن اجتماعي، يفضل أن يكون جزء ممن حوله، لا يرغب أي واحد منا أن يظل معزولاً عن أحاديث من حوله، حتى لو كانت هذه الأحاديث من النوع الذي يكره، بل الإنسان الانطوائي، يجد متعة في متابعة حدث بجواله، أو التحدث عنه مع صديق.

لاحظت خلال معرض الكتاب الماضي، أن دور النشر التي يجلس عندها البعض ويتحدثون داخل دار النشر، يجذبون أشخاصاً أكثر من دور النشر التي لا يجلس عندها أحد، ولما كنت في مطار الملك خالد الدولي، لاحظت أن المقهى يظل خلواً لا يقف عنده أحد، بمجرد أن يقف عنده زبون أو اثنان، يتكون طابور من الزبائن لا يقل عن ستة أشخاص.

لعل توتير يمثل أبرز منصة لمفهوم الضولة، حيث يوجد حسابات لا تقدم أي محتوى مفيد أو لغة مهذبة، لكنها لأنها تثير جدلاً وتحظى بردود وتعليقات حتى لو كانت شتيمة، نجد الكثير يتفاعل مع محتواها.

الضولة في الأدب الشعبي:

تكاد تختفي كلمة الضولة من الاستعمال الشعبي، خلال بحثي في الانترنت، وقعت على قصة وجدتها، تكون (الضولة) محورها، بل يمكن أن تُعتبر هذه الأبيات، أشهر أبيات شعرية ورد فيها كلمة(الضولة).

خرج محمد بن مهلهل الشعلان الرويلي في أحد الأيام من بيته ذاهبا في طريقه فصادف رجلين يتعاركان فغلب أحدهما الآخر فما كان من المغلوب إلا أن انتخى بمحمد وقال: (تكفى يا ابن شعلان) وهو يعرف محمدًا، فالرجلان من نفس عشيرته، فجرد محمد سيفه وقتل الرجل الآخر وهو لا يقصد قتله، ثم غادر محمد عشيرته خوفاً من القصاص.

ظل محمد الشعلان خارج الديار لمدة طويلة، حتى أتاه الخبر بأن أهل المقتول قبلوا الفدية وأنه يستطيع العودة، فرح محمد كثيرا واتجه على الفور إلى قبيلته.

 وبينما هو على مشارف بيوتهم التي اشتاق إليها كثيرا رأى (ضول) أي جمعًا من الناس، متجمعين على مورد للماء، فقال: لم لا أذهب وأرى ماذا يحدث ؟ وذهب هناك، ووجد رجلين يتقاتلان وأحدهما يطارد الآخر وبيده سيف يريد قتله فما كان من الهارب إلى أن لاذ وراء محمد وقال: (أنا بوجهك يارجل) فأتى ذلك الرجل خلفه يريد قتله وهو من وراء محمد الشعلان فقال له محمد: (بوجهي يارجل ابعد عنه ما تجيه)،ولكن ذلك الرجل لم يكترث بكلام محمد وهو ينوي قتله،وهنا غضب محمد وسل سيفه وقتل ذلك الرجل، ثم غادر الديار مرة أخرى، و أنشد قصيدة، منها هذه الأبيات:

ليا شفت ضول الناس بالك تعسّه
وإن جنّبك شر المخاليق خلّه

لو عندنا من غيب الأيام رسّه
الآدمي مصلوح نفسه يدلّه

لمحمد الشعلان موقف سلبي من الضولة، فقد جلبت له المتاعب، لكن قد يكون لطبيعته المندفعة دور في ذلك، بالمقابل يرى معظم الناس في الضولة وسيلة للانتماء لحركة اجتماعية.

كل يحوش النار لقرصه

يفرق المختصون في التسويق الرقمي بين المحتوى الدائم والمحتوي المؤقت، حيث يحصل المحتوي المؤقت المرتبط بحدث على تفاعل كبير، لكنه سرعان ما يخبو.

توجد شريحة متعلقة بمباريات كأس العالم، سواء كانوا لاعبين أو مشجعين، يستفيد منهم قطاعات معروفة مثل شركات الطيران والفنادق، لكن يوجد شريحة أخرى تستفيد من الوهج الإعلامي للحدث، مثلا مسؤول التواصل الداخلي في شركة، يقرر جلب شاشة عرض لعرض المباريات، كنشاط لتعزيز اللحمة داخل أعضاء الشركة، مصمم فيديوهات، يعرض انتاج فيديو قصير عن المناسبة وتستخدمه جهة كوسيلة تسويق، طبيب ينشر صورته القديمة مع أحد اللاعبين الذين عاجلهم قبل فترة، ليفتخر بأنه شارك في إنجاز الكوري من خلال علاج اللاعب، فتاة ترغب أن تكون مودل، تختار مقعداً مميزاً في مدرجات المشجعين، لتلتقطها عدسات التصوير، شاعر ينظم أبيات شعرية بالمناسبة، رسام يوثق فرحة جمهور برسمه.

أخمن أن الكيانات الكبرى من شركات وجهات حكومية لا تستفيد كثيرًا من التواجد في الضولة، فهي كيانات أكبر من أن يحسن من سمعتها مقطع ترويجي أو فعالية داخلية، لكن يستفيد من الضولة أفراد، فهي أكبر من إمكانياتهم! وتقدم لهم فرصة للحصول على رأس مال اجتماعي.

هل تدوم الضولة؟

من القواعد الاجتماعية أن يأتي بسهولة، يذهب بسهولة، شعور التعلق بمناسبة لا يدوم كثيرًا، لذلك كنت أتعجب ممن يرى أن تعاطف العرب مع فرقهم في المونديال، يمكن أن ينعكس على تعاطفهم مع بعض في قضايا كبرى، الأشخاص الذين حصلوا على تمجيد في مباراة الأرجنتين، حصلوا على تبخيس في مباراة المكسيك.

لذلك إذا كنت في (ضولة) ما، حاول الاستفادة منها بقدر الإمكان، على الأقل مشاركة الشعور مع أصدقاء، فهي تجربة حلوة، كما حصل سلمي ولي، لكن لا تعتمد علي دوامها طويلًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى