- محمد الشثري
“بالسخرية تقل الخسارات”
عزت القمحاوي
السخرية كمفهوم شامل
من يتأمل المحتوى المنشور في الصحف العلمية المتخصصة في علميْ النفس والاجتماع سيلاحظ أن مواضيع الإنسان قبل كورونا لم تكن هي ذاتها بعد الفايروس. فما صنعته الجائحة في البشرية أجمع، جعل للعلماء وجبة ضخمة ربما لن يدركوا دسامتها إلا بعد سنوات طويلة. فكل شيء تغير. أو في طريقه للتغير. فالجائحة بجانبها النفسي -تحديداً- لم تنتهِ بعد.. وربما تطول لا قدر الله.
تلك التجربة الفريدة للبشرية؛ ما قبل وأثناء وبعد كورونا، جعلتني أتأمل حالي قبل الآخرين، وطرحت سؤالاً واحداً لذاتي: ما الدرس الأعظم بالنسبة لك؟
الحياة باعتقادي صراعات دائمة مع النفس والعائلة، والوظيفة والمجتمع، والآخر.. صراعات لا تتوقف. ما إن يخف غبار معركتك الحالية حتى حميَ الوطيس لمعركة أخرى لم تكن تتوقعها. وهكذا دواليك.. في عراكٍ دائمٍ مع الحياة.
كنت في خضم أشد معاركي المصيرية قبل كورونا.. أو كنت أظن أنها مصيرية. أثناء الحجر، وفي ظل مواجهة الذات وبعده بقليل، كان الزمن كفيلاً بتغيير كل شيء تقريباً. كنت أبحث عمّن كنت معهم في صراعات ذلك القرار المصيري قبل الحجر فلم أجدهم! لم ينسحبوا.. فالمعركة -باعتقادي- ما زالت قائمة. ما حصل، أن كورونا وضعت الإنسان في مواجهة نفسه بعد أن كان يهرب منها طويلاً. هذه المواجهة أعادت ضبط مفاهيم كثيرة، وولّدت أخرى، ووضعت كل تُرسٍ في مكانه الصحيح. ربما كان مكانه على رفوف المكتبة؛ زينة بعد أن كان أداة حرب.!
ليس هذا فقط. في تلك المرحلة تغيرت المسميات كذلك. فبعد أن كنت أسمي صراعاتي بالمعارك، صار اسمها الأقرب إلى حقيقتها “جَوْلات/تجارب”.. ولحظة بعد لحظة اكتشفت ما هو واضح.. هذه هي الحياة! بمعناها البسيط/العميق. وأعادت تلك المرحلة سقف الطموحات إلى وضعه الطبيعي.. ومن كنت معهم في جدالات وصراعات تركوا لي الساحة وحيداً وقالوا؛ اصنع ما شئت فالحياة “والله” لا تستحق كل هذا.!
نفس عميق بعد حجرٍ طويل..
ما الذي حصل؟ ما الذي تغير؟ تلك المرحلة حقّرت في عيني الحياة بكل اختصار. وأعادت لي مفاهيمها الحقيقية، من الوحيين، ومن التأمل الطويل. ” فمن يتأمل (الحياة) في القرآن الكريم يجد أنها تتجلى بصورة حقيقية في الآخرة، حتى لكأن ما دون الآخرة ليس بحياة! (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي “الحيوان” لو كانوا يعلمون). فلفظ “الحيوان” صيغة دالة على الامتلاء، كقولك (فيضان) بدل (فيض)؛ إذا كان قد بلغ السيل الزبى، والتقى الماء على أمر قد قدر، فجرف كل شيء، فيقال حينئذ:(فيضان). فلفظ “حيوان” هو بمعنى امتلاء حياة، بل هو (فيضان الحياة)..! تلك هي طبيعة الحياة الآخرة تفيض بالحيوية والحياة، وتمتد نعمها التي لا تنفد على عرض الكون، فلا يعرف لها نهاية، خلودًا مؤبدًا، إلى ما شاء الله. ” أو كما قال فريد الأنصاري رحمه الله.
في السابق، كنت آخذ هذه الآية بحمولتها الثقافية لدينا؛ ففي السنوات الماضية كانت تُرَدَّد بدعوى تحقير الحياة من باب الوعظ وإظهار حقيقتها. وفيها رسالة غير مباشرة بالزهد المبالغ فيه. لكن هنا، من يتأمل قليلاً، يجد أن الله “وصف” الحياة. فهي لهو ولعب. فقط. ليس زهداً فيها، لكن هذا عنوان المرحلة المؤقتة التي نعيش فيها، وأقصد “الحياة الدنيا”. فهي في موضعٍ آخر “متاع”. والمتاع ما يُتمتع به وينتفع منه. وقد كثر وصف الدنيا بذلك. وتُذَم عندما يدخل فيها “الغرور”. ففي الحديث أيضاً أن الدنيا مجرد متاع.! وللمتاع خير! وخير هذا المتاع زوجة صالحة.
هذا المفهوم يعطي للحياة مكانتها في نفوس المؤمنين. متاع ولعب ولهو وزينة وأنها حتى جناح بعوضة لا تساويها! ليس من باب التحقير فقط، بل من باب الوصف. هي هكذا. من أخذها بحجمها الذي وصفها الله لنا عاش غنيًّا بالحياة. ومن أعطاها أكبر من حجمها غص في ضخامتها المادية/الفيزيائية وغرق في اللهو واللعب.
كيف تواجه الحياة بالسخرية؟
ما علاقة هذه المقدمة الطويلة بعنوان المقال؟ وما علاقة السخرية بالحياة؟
الحياة تحب أن نلعب معها. وتحب أيضاً ألَّا تُعطى أكبر من حجمها. وتحب من يفهمها ليعيشها، لا ليتوهم أنه عاشها. والأهم، تحب أن يضع الإنسان مفاهيم الحياة في مكانها الصحيح. على الرف، في الدرج، في الهواء الطلق. لا يهم. المهم أن تقتنع بمفهومك وتعيشه، لا أن يصنعه آخرون لك وتعيش مفهومهم. فالسخرية بالنسبة لي أسلوب حياة. وبالسخرية أواجه هذه الحياة.. لأنها بكل اختصار لا تستحق منا كل هذه الجدية.
والجدية عكسها الهزل لا السخرية. ومن اتخذ السخرية في مواجهة الواقع لا يعني أنه كسول! مهمل! أو لا يأخذ الأمور الهامة على محمل الجد. لا. الساخر الذي أدعو له هو من يدرك معنى الحياة الحقيقي.
لأن لحظة الإدراك = السخرية منها.
إدراك المفاهيم الكبرى الإلهية للحياة يحجّم من هوّة الفارق بينك وبين حجم الحياة؛ هي كبيرة فيزيائياً، نعم. لكنها بحجم رؤيتك لها إن أنت أدركت كَنَهَها.
الموت كمثال
أتأمل حال الموت. المعنى الأكثر استعصاءً على النفس، وربما على الحياة. فهو نهاية الحياة! وهو بداية حياة أخرى! ولكنها حياةً مجهولة، وهنا المخيف. يذهب الميت إلى ربه ويبكي عليه ذووه ومن يحبه. يعتقد المحب حينها أنه لن يعيش بعد موت قريبه. يموت القريب، ونبكي، ونعيش.. ثم ينساه الآخرون! وهنا ما يخيفني أكثر. أن تُنسى كأنك لم تكن.
بل ستُنسى.. فهل أدركت معنى السخرية من هذه الحياة الآن؟ لا شيء يستحق إن كانت عائلتنا ذاتها ستمر عليها السنون والأيام والساعات الكثيرة وهم يخوضون غمار الحياة ونحن منسيون! خارج اللعبة. هذه الحقيقة المؤلمة هي ساخرة وموجعة إن تأملتها.
السخرية والخسارات
“بالسخرية تقل الخسارات”. أو كما قال الكاتب المصري عزت القمحاوي في أحد حلقات بودكاست جَوَلان. وأضيف: بالسخرية نواجه الحياة. فالسخرية هنا وما أقصده ليس في مفهومها من الاستهزاء والتعالي وذم العلماء لها؛ ألّا تسخر بأخيك.. لا. السخرية هنا ذاتية، مرتبطة بالمفاهيم العميقة لرؤيتك للحياة. السخرية كأسلوب تواجه به الحياة. فالموت، معضلة الإنسان، ستواجه ساخراً إن أنت أدركت أبعاده الذي لن تدركه إلا بالمفاهيم الربانية؛ هو ليس نهاية، هو بداية.. والحياة، هذه الحياة التي تعيشها هي مؤقته، وما دون الآخرة ليس بحياة.
السخرية في مواجهة العالم الحديث
لنأخذ السخرية لجانب آخر، فالآلة الرأسمالية اليوم تعمل بإخلاص لتكريس مفاهيم مادية مقيتة تقتل الروابط الإنسانية وتغير كثير من المفاهيم الفطرية لتعيدنا إلى الغرائزية وتجعلنا عالقين في دوامتها. والغريزة إن لم تهذبها الفطرة -العهد الرباني الذي وضعه الله في بني آدم يوم أن أشهدهم على أنفسهم- فهي أقرب إلى الحيوانية، إن لم تكن هي الحيوانية. أحد أشكال مواجهة هذا التيار الكبير يكون بـ”السخرية” منه. أن تتفرد بنظرتك دون أن تتعالى عليهم. لأن السخرية بالأساس هي أسلوب تعبير قد يهدف إلى الإضحاك. وفي هذا الموضع نحن نرفعه ليكون أسلوب حياة مع مفاهيم الحياة لا مع الأشخاص.
السخرية والتراجيديا
في إحدى المقولات المنسوبة للممثل الكوميدي الإنجليزي تشارلز سبنسر تشابلن، والشهير باسم “تشارلي تشابلن”، إذ قال: “الحياة هي تراجيديا (مأساة) عندما يُنظر إليها عن قرب، لكنها كوميديا في لقطة طويلة”.
يأتي مفهوم التراجيديا على شكل (مأساة) ساخرة بنكتة سوداء وحقيقية، وتأتي السخرية لتكون التعبير عن المضمر الذي لا يجد شكلاً أنسب للخروج إلا عن طريق السخرية. ما علاقة المفهومين؟ كلاهما لهم نتيجة واحدة وهي “الكوميديا”. ربما. ولطالما لجأ الناس للأسلوب الكوميدي في طرح القضايا المحورية في حياتهم اليومية وقت الأزمات والكوارث، وهذا الأمر أكده عالم النفس الشهير سيغموند فرويد، عندما بيَّن الأثر العميق الذي تحدثه النكتة في النفس كوسيلة للتخفيف من التوتّر النفسي والتقليل من الخوف.
فالسخرية.. وسيلة للتخفيف من التوتر النفسي والتقليل من الخوف. أو هكذا أراد أن يقول.
ماذا بعد؟
هناك الكثير من المفاهيم حول السخرية، كأن تزيد من نسبة الإبداع كما أثبتتها أحد الدراسات عام 2015! ولكنا لسنا في صدد ذكر كل مفاهيمها وتشعباتها، وآراء الخبراء والعلماء في ذلك. بل هي تجربة شخصية محضة حاولت أن ألخصها دون أن أختزلها، خاصة أن للسخرية حمولة ثقافية لا أستطيع تبديد المفاهيم التي ستشوب المعنى الذي حاولت إيصاله.
ختاماً:
كان الدرس الأعظم لي بعد تجربة كورونا والحجر، ألا تأخذ الحياة بمطلقها على محمل الجد.. دائماً هناك مساحة للسخرية.
اقرأ ايضًا: ماذا تعرف عن “الإيجابية السامة”؟