عام

المِثلية ومآلاتُ الحُريّة الشّخصية

  • محمد فروانه
  • تحرير: سهام سايح

كلّ إنسان يحمل مرجعيةً أخلاقية يبني عليها أحكامه، وإلاّ أصبحت المسائل الأخلاقية تأخذ حكم الذوقيات لا أكثر. هذه المرجعية الأخلاقية قد تكون الحرية، الدين، العلم، الصحة، النفس، الاقتصاد أو غيره.

لنحدّد ما هو المعيار الأكثر أخلاقية والذي يجب أن نستند عليه في قبول ورفض أي ظاهرة يجب أن نضع هذه المعايير تحت النقد. كي لا يكون الطرح نظريًا فقط ،سنطبق هذه المعايير على أحد المواضيع الجدليّة الدارجة: المثلية الجنسية. فما هو الموقف الأخلاقي من المثلية؟ وهل الإنسان حرّ إذا لم يضر؟

في البداية، لماذا يصبح المرء مثليًاً أو شاذاً؟.

بعد أن كان يوصف بالمرض، أصبح المجتمع العلمي اليوم يميل إلى القول بوجود مكوّن طبيعي يدفع الإنسان إلى هذا الميل، وتوجد اعتراضات على هذه النتيجة. توجد أسباب أخرى:

  • تحرش جنسي أو اغتصاب في الصغر.
  • المشاكل الأسرية التي تدفع إلى التّمرد.
  • حب التجربة الذي يقود إلى الاعتياد.

يختلف السبب باختلاف الحالة، ومهما كان السبب فلا خلاف في أنّ الميل موجود، وإلا لما وُجد الفعل ومن ثَمّ الظاهرة.

 

العلم

يُردّد البعض عبارة “الحيوانات تمارس المثلية وهذا يعني أنّها طبيعية” وكأنها مقولة تحسم الجدل. يوجد خلاف علمي حول دوافع الحيوانات في هذا التصرف لأنّها في كثير من الحالات تبحث عن السيطرة أو ترغب بتمرير الجينات للبقاء أو للمباهاة بين الأقران وأمام الناظرين، ولكن لنفترض صحة هذه المقولة جدلاً. هل هذا المنظور البيولوجي أخلاقي؟. نحن نعلم أنّ الحيوانات تأكل بعضها وتدفن أبناءها، وهذه الأفعال وإن كانت موجودة في التاريخ البشري ولكننا نرفضها ولا نراها أخلاقية، بل نراها جرائم لا تغتفر. هذا يثبت أن التصرف الذي يعده الحيوان طبيعياً لا يجب اعتباره أخلاقياً ومناسباً للمجتمعات البشرية. هذا الدليل يكفي لنقض فكرة أنّ المعيار العلمي البيولوجي يستحق أن يحكم المجتمعات وتُبنى عليه القوانين والأحكام، والباحث عن الحق يكفيه دليل واحد.

المنفعة الاقتصادية

في الجانب الاقتصادي توجد نظرتان، الأولى تؤيد شرعنة المثلية لأنّها تزيد الاستهلاك ولهذا تدعمه الشركات الكبرى، والثانية ترفض شرعنة المثلية لأنّها ستقلل من نسبة الإنجاب وبالتالي يقل عدد السكان وتقل الأيدي العاملة. ولكن هل هذا النقاش أخلاقي؟ هل الأثر الاقتصادي هو معيار الأخلاق؟ .

الإنسان السّويّ لا يقول بأنّه من الأخلاقي أن نقتل العجوز التي لا تساهم في الاقتصاد، ولا يقول إنه من الأخلاقي أن نجري التجارب العلمية القاسية على الفقير الذي لا يعمل ولا يملك قوة شرائية، فهم بشر لهم كرامتهم ولهم حقوقهم وأول حق هو حق الحياة. لهذا السبب، قياس الأخلاق حسب أثرها الاقتصادي لا يعد نقاشاً أخلاقياً، لأننا نناقش مجتمعاً بشرياً لا شركة تجارية.

النفس والضمير

لا يمكن التعويل على خلجات النفس وتأنيبات الضمير لإقامة منهج أخلاقي متماسك لأن الواقع يكذّب هذه الفكرة. المجرمون كثر ولم تمنعهم أنفسهم من خطيئة الظلم، بل لم تأمرهم نفوسهم إلا بسوء. الكثير من المجرمين تعرضوا لظروف شنيعة في الطفولة، وعندما كبروا تغلبت عليهم نزعة الانتقام من البشر وأصبحوا يسفكون الدماء بالتفجير والتعذيب والقتل. ولهذا، لا يمكن أن يعتمد المجتمع على نفوس الناس وحدها إذ أنّها قابلة للتلوث والاضطراب.

الأكثرية

في الجاهلية، كانت بعض القبائل معروفة بوأد البنات. هذه القبائل توافقت في داخلها على عملية الوأد، كما توافقت بعض العوائل الإغريقية على دفن الولد الذكر المولود حديثاً الهزيل بدنيًاً لأنه لن يقدم أي إضافة في الأعمال الشاقة والحروب. هل تَوافق الأكثرية على هذا الفعل يجعله أخلاقياً؟ هذا المثال يظهر تهافت المعيار المجتمعي إذا اعتمدنا عليه وحده، فلو اتفق أغلب الناس على الباطل سيبقى باطلاً، والحق لا يُعرف بأكثرية معتقديه.

الصحة

بالإضافة إلى الأمراض الجسدية مثل الإيدز، نجد أن الأعراض النفسية مرتفعة بين المثليين، وأنّ الانتحار يغزوهم وينتشر بينهم. عندما نقرأ هذه المعلومة سنقول إن السبب البديهي لهذه العواقب السلبية هو أنهم مضطهدون في هذه البقعة من الأرض، ولكن مع البحث نجد أن ارتفاع حالات الانتحار موجود بنسبة ثلاثة أضعاف مقارنةً بالشخص الطبيعي حتى في المجتمعات التي تقبل هذه الفئة وترحب بها. فلماذا نحارب ونقصي من يدرس احتمالية أن يكون هذا الاكتئاب نتيجة للسلوك الجنسي المضطرب أو نتيجة الحرمان من تكوين أسرة بيولوجية طبيعية؟ دراسة آثار الظاهرة على الأفراد والمجتمع حق أصيل وواجب ضروري، ولا يجب التعامل معها بالتشنج والإقصاء.

الذي يتزوج من نفس الجنس لا يمكنه إنجاب طفل بشكل طبيعي ويلجأ للتبني، وهنا سؤال مهم:

هل الطفل الذي ينشأ بين والدين من نفس الجنس يكون في بيئة صحية طبيعية؟ أم أنه يفتقد جانب الأبوة أو الأمومة؟.

الدكتور “روبرت أوسكار لوبيز”، المتخرج من جامعة Yale العريقة والعامل في مجال حقوق الأطفال، نشر تجربته في النشأة بين والدين من نفس الجنس في كتابه (الإصابات البريئة في علاقات الزواج من نفس الجنس) المنشور عام ٢٠١٦ ووصفها بأنها “علاقة عبودية يقوم فيها طرفان من نفس الجنس بشراء طفل وكأنه عبد لإشباع رغباتهم”. الكتاب يوثق تجارب العديد من الذين مروا بنفس التجربة، وشاركت “بيركلي كلين” فيه وكتبت أنّ علماء الاجتماع يحاولون تزيين هذا النوع من العلاقات مع أنّه غير طبيعي. الطبيعي هو أن يولد الإنسان لأبوين من جنسين مختلفين، أب وأم، وهذا حق أساسي لأي طفل.

الحرية الشخصية

بعد سماح الغرب بزواج المثليين ظهرت حملات تطالب بحق الزواج من الأقارب والمحارم، إذ أن زواج الأب من ابنته أو زواج الأم من ابنها ينطبق عليه مبدأ الحرية الشخصية كما يزعم أصحاب الحملة. البعض قد يرد عليهم بأن الاختلاف بين الظاهرتين يكمن في أن زواج الأقارب ينتج عنه أولاد مشوهين، ولكن هذا الرد سهل تفنيده لأن الطب الحديث يضمن للإنسان -بوسائل عديدة- حالة عدم الإنجاب، فهل أصبحت سلوكياتهم أخلاقية ومطالبهم حقوقية الآن؟.

أدرك هذا المأزق الأخلاقي العديد من الناس ومنهم الملحد والفيزيائي المعروف “لورنس كراوس”، وقد اعترف صراحةً بأنّه لا يعارض هذا النوع من العلاقات بل إنه يرحب بها إذا كان طرفاها متحابين ومتراضين، وأنه مستعد لسماع حججهم لأنّها قد تكون منطقية! هذه الفوضى الأخلاقية نتيجة طبيعية للنسبية الأخلاقية.

كل ما سبق هو خطاب موجه إلى الذي يستبعد العامل الديني من المجتمعات، والغرض هو إثبات أن استبعاد الدين يؤدي إلى نسبية أخلاقية كارثية. أما المسلم فلا يمكنه أن يتغاضى عن آيات “قوم لوط” في القرآن الكريم ودلالاتها الواضحة، والله سبحانه وتعالى خالق الإنسان وهو أدرى به من نفسه. بهذا نستنتج أن الدين هو الثابت الأخلاقي الوحيد.

في عالمنا الحالي يتم إقصاء المُعارض للمثلية بحجة أنه مصاب بـ “رهاب المثليين” فيتم منع الكتب وطرد أساتذة الجامعات وموظفي الشركات فقط لأنهم ضد هذه النسبية الأخلاقية وعواقبها، واستنسخ هذا المنهج العديد من التنويريين الليبراليين العرب، وحرضوا الجامعات الغربية على طلبتها العرب الرافضين للمثلية، فأثبتوا أن شعارات مثل “أختلف معك في الرأي لكنني أقاتل من أجل حريتك في التعبير” هي شعارات عاطفية إعلامية لا أكثر. هذا الموقف الإقصائي غير مستغرب من التنويري العربي فهو يأخذ ثقافته من الهيمنة الإعلامية ويتشرب كل الأفكار الغربية من غير بحث أو نقد، ويقلد الموجة الحقوقية -النتفلكسية- من دون تحقيق أو تدقيق. وما أقرب مقولة عالم الاجتماع ابن خلدون رحمه الله إلى واقعنا اليوم “المغلوب مولع بتقليد الغالب”.

الدين الحق هو الثابت الأخلاقي الوحيد، والله سبحانه وتعالى لا يظلم أحدًاً ولا يحاسب الإنسان على الشعور (ميل القلب) بل على السلوك فقط، فالإنسان كائن يحظى بحرية الإرادة وهو حر في سلوكياته. والامتناع عن التصرفات التي تكون نتيجة الرغبة ليس محصورًاً بهذه القضية، فالإنسان البالغ الذي يمتلك رغبة فطرية إلى الجنس الآخر يحكمه إطار أخلاقي وشرعي مثل الزواج، وكذلك المسلم في نهار رمضان وهو ممتنع عن الأكل رغم رغبته الطبيعية لذلك، فكان الدين مهذباً للشّهوات والرغبات.

الله تبارك وتعالى لا يظلم أحدًاً، والظلم الحقيقي هو الذي يمارسه الناس إما بالاعتداء على هذه الفئة بالتحرش والاغتصاب، أو بالتصفيق لها مع معرفة أخطارها وعواقبها. كلاهما ظُلم.

(وَلَو اتّبَعَ الحَقُّ أَهوَاءَهُم لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرضُ ومَن فِيهِن) سورة المؤمنون

اقرأ ايضاً: بالدليل: التحول الجنسي لا يجدي نفعا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى