فكر وثقافة

من التنظيم الجماعي إلى التحكيم الفردي

لقد انتهت فترة تحديث الاستهلاك (أو الاستهلاك الحداثي). ونحن ندخل في عصر الاستهلاك المُتَعيّ والتجريبي، الذي يُسَمَّى أيضا “الإفراط الاستهلاكي hyperconsommation. الاستهلاك لذاته له الأولوية على الاستهلاك المفرط.

 

  • مقابلة مع جيل ليبوفتسكي (1)، الحائز على درجة الأستاذية في الفلسفة، وأستاذ في جامعة جرينوبل1.
  • موضوع من جمع: جون واتين أوجوارد
  • ترجمة: زيد أولاد زيان
  • تحرير: مريم سالم

 

في كتابك «السعادة المتناقضة: دراسة حول مجتمع الإفراط في الاستهلاك» تحلل الإنسان الاستهلاكي(homo consumericus) . فما هي سِماتُه؟

جيل ليبوفتسكي: ليس هناك تعريف بسيط للإنسان الاستهلاكي، أو المستهلك الجديد، أو المستهلك المفرط. إنه نمط نظري، ونموذج مثالي وفقا لماكس فيبر لا وجود له، لكنه يفسر التغير في العالم المعاصر. هذا المستهلك الجديد يمكن تعريفه كشكل للفردانية المفرطة، إنه مستهلك مُقلِع عن ثقافات الطبقة، ويبحث عن المتعة، وعن التجربة، وعن المشاعر، أكثر من بحثه عن المكانة الاجتماعية، لكنه مستهلك قلِق وخائف.

 

ماذا تعني كلمة (إفراط) “hyper”؟

ج. ل.: كلمة (إفراط) “hyper” تعني إزالة الحدود القديمة. إنّه منطق التحرُّر من الضوابط. التحرر من الزمان: نستطيع الاقتناء في أي وقت، لكون التجارة مفتوحة على مدار أربع وعشرين ساعة. التحرر من الفضاءات المكانية: نستطيع الاقتناء في أي مكان. التحرر من الطبقية: الأثرياء يرتدون “الجينز” والفقراء يرتدون العلامات التجارية (الماركات). التحرر من الضوابط : ليس هناك أي توجيه ديني، أو أخلاقي، هذا يؤدي إلى أنماط من الإدمان، والشَّرَه، والسمنة، ومن أشكال الاستهلاك المرَضيّ والقهريّ. هذا يعني نهاية أو انعدام المستهلك المسؤول.

 

كيف تَشكّل نمط المستهلك المفرط؟ بطريقة مُفاجِئة أم عبر تطور بطيء؟

ج. ل.: مجتمع الاستهلاك له تاريخ طويل، يبدأ من حوالي سنوات 1880 ومنذ ظهور العلامة التجارية الحديثة والإشهار والتعليب والإنتاج المتسلسل. نحن في حضور أول شكل لرأسمالية الاستهلاك، التي لا تمسّ مع ذلك سوى الطبقة البورجوازية العليا وتنتهي مع الحرب العالمية الثانية. هذه المرحلة الأولى حوّلت الزّبون التقليدي إلى المستهلك الحديث، مستهلك العلامة التجارية، نحو التعليم والإغواء، خاصّة بواسطة الدِّعاية. لقد خلقت هذه المرحلة ثنائيّات (الاستهلاك-الإغواء) و(الاستهلاك-الإلهاء) عن طريق التخلُّص من السلوكيات التقليدية والمعايير المنضبطة، حيث تشكّل الاستهلاك العالي أو المفرط (en masse). تبدأ المرحلة الثانية عند الانتهاء الحقيقي للخمسينيات -وإن كانت بعض البوادر تلوح منذ الثلاثينيات في الولايات المتحدة-، وتُمثِّل هذه المرحلة العصرَ الذهبيّ ومجتمع الرّخاء. إنّ مجتمع الاستهلاك المفرط لا يؤثر فقط على النُّخَب بل على الناس جميعا، الذين يتم إغراؤهم بمواضيع الاستهلاك الجديدة، مثل العُطَل والهروب والاختيار والرفاهية للجميع. في التسوُّق المفرط تتتابع استراتيجيات التقسيم المُنصَبّة على الفئة العمرية والعوامل السوسيوثقافية.

 

هذه السنوات هي بالتحديد سنوات نقد (مجتمع الاستهلاك)…

ج. ل.: من المفارقات؛ إذا كان هذا المجتمع يشهد ديناميكية التفريد individualisation، فإنه على العكس من ذلك، فالتنميط والتشابُه، هو الذي تُسلَّط عليه الأضواء وأحيانا يُنتَقَد من طرف مدرسة فرانكفورت (ماركوز والإنسان ذو البعد الواحد، غي ديبور ونقد المجتمع الاستعراضي). تُستنكَر سلوكيات القطيع والشمولية الناعمة التي تؤدي إلى خنق روح النقد، مما يضطر الأفرادَ المهووسين بالاستهلاك، إلى الاختباء تحت الضمير غير المُعَرَّف on (هايدغر)، وإخفاء هوياتهم. التجانُس وتماثل السلوكيات والنمطيّة في الأذواق وأساليب الحياة، لا ينبغي أن تُخفي الوجه الآخر للمرحلة الثانية: عالم الاستهلاك هو مؤشر ارتفاع قيم الفردانيّة. إنّ التنعم بالرخاء، والمتعة، و حرية الاختيار، نشأ عنه قدرةٌ لدى الأفراد على النّأي بالنفس عن الكنائس، وعن الأحزاب السياسية، وعن المؤسسات الاجتماعية بشكل عامّ.

” عن طريق التخلُّص من السلوكيات التقليدية و المثل العليا، يبدأ يتشكّل الاستهلاك المفرط (en mass). بدأت المرحلة الثانية مع نهاية الخمسينيات بالضبط…”

 

ماي 68، أم بداية الستينيات؟

ج. ل.: نعم، أحداث ماي 1968 تعبّر في نفس الوقت عن صراع الطّبقات والمعركة الأيديولوجية وإرادة تغيير النظام، ولكن أيضا المنطق الآخر الذي يخُصّ الفردانيّة والتحرّر والحرية الجنسية غير المُجَرَّمَة. إن الأُطُر المُلزِمَة في المجتمع الانضباطيّ الصّارم تتعطّل وتختفي وتترك مكانها لمجتمع متمركز حول الصحراء. السنوات 1970، من جانب العرض، اتّسمت بمنطق بعد-فورديّ وإضفاء للطابع الشخصي على المنتجات وسلاسل إنتاج أقصر. من جانب الطّلَب، الفردانية التي تعمل منذ سنوات عديدة تخرُج من مخبئها. منذ 1980، دخلنا في المرحلة الثالثة، التي تنفرد بتقسيم مُفرط للمُنتجات، وتفرُّد وشخصنة للسلوكيات، واستهلاك يمسّ كلّ الفئات العُمْرية من سبع سنوات إلى سبع وسبعين سنة وأكثر. اليوم، يوجد في نفس الوقت استمرارية وانقطاع. استمرارية لرأسمالية الاستهلاك، ولكن انقطاع يتّسم بديناميكيّة من التفرُّد أكثر حدّةً والتي توصل إلى الإفراط والإغراق في الفردانية.

 

هل تنتمي ثقافات الطبقة إلى الماضي؟

ج. ل.: كان الاستهلاك لفترة طويلة مَحكُوما بقواعد المجموعة: الطبقة العاملة تستهلك بطريقة مختلفة عن الطبقة البورجوازية. الاستهلاك المفرط يُرادِف التحرُّر من الضوابط التنظيمية، الأفراد لم يعُد لهم أيّ ارتباط بسلوكيات الطبقة، لا حدود للممنوع. التّرَف لم يَعُد حكرا على الأثرياء، هذا ليس عالما آخر، ولكنه عالم من الأحلام. ضرورة التفريق الاجتماعي حاضرة دائما، وبصفة خاصة في الدول الناشئة، ولكن بدرجة أقل في الدول الرأسمالية. إن الاستهلاك محكوم بالأغراض والمعايير الفردية وبصورة متزايدة. لأجل ذلك أتحدّث عن (المستهلك التوربو)، لمحةُ بَصَرٍ إلى (الرأسمالية التوربو) تُظهِر بأنّ (الرأسمالية الجديدة التوربو) قد نسفت أقفال الأشكال القديمة من تنظيم وضبط المجتمع الليبرالي. إنّ سلوك شراء المستهلك، متحرر من ثقل القواعد، ولم يعد يستند إلى ضوابط مجتمعية ولكنه يتأسّس على أحكام شخصيّة. ومنه ظاهرة المستهلك المتقلّب، المتحكّم، المتنقّل، اللَّعُوب، الفوضويّ، الذي يمكن أيضا على سبيل المثال أن يرتدي لباسا في Zara أفضل مما يرتدي في Gucci.

 

الاستهلاك لم يعُد إذن يعبّر عن التميُّز؟

ج. ل.: هناك نموذجان من الاستهلاك سوف يتعايشان. النموذج التقليدي الذي يستند إلى منطق التمييز والتفرقة الاجتماعية (الأغنياء الجدد) مع استهلاكٍ يقوم أساسا على الوضع الاجتماعي وباندفاع (نموذج فيبلين، بورديو)، والنموذج الذي يستند إلى استهلاك تجريبي وعاطفي حيث قيمة الاستخدام أَوْلَى من قيمة الوَجَاهَة وحيث أغراض (العيش) مُقدَّمَة على أغراض (التّباهي).  يُضاف إلى منطق لفت الأنظار منطق حيازة الشخص للأغراض من أجل نفسه، والتي تَمنَحُه المتعة الذاتية. إنه منطق مُتَعيًّ وليس شرفيّا. الاستهلاك من أجل الذات حَلَّ مكانَ الاستهلاك من أجل الآخر، (الكائن) أَوْلَى من (الظاهر). الاستهلاك المُفرِط ينبغي أن يُنظر إليه بأنه ظاهرة منفرة و . غير محفزة للذات

 

لماذا هذا الإفراط الاستهلاكي متوتِّر ومتلهِّف؟

ج.ل: إنه يُريد الخُلوّ من العيوب والنقائص. في حالة السّيْل الجارف من المعلومات، تأخذ الصحة بُعدا محوريّا. نشهد إضفاءً للطابع الطبيّ على الاستهلاك وأنماط الحياة. نحن في عصر الوقاية، يتجلى ذلك في تنامي الممارسات الرياضية والغذائية والصحية. الكلمات السائدة لا تنتمي لحقل الاستمتاع، ولكنّها: الصحّة، طول العمر، التوازن، الشكل. كل مجالات العرض التجاري تم إعادة تشكيلها وفق الضرورة الصحيّة. ولكن القلق يأتي أيضا من الفوضى والتمرد الاجتماعي، فلَم يعُد الأفراد خاضعون لأُطُر الدين والسياسة وثقافات الطّبقة. إنهم، في نظر البعض، في طور البحث عن روابط جديدة، ما يفسِّر نموّ الطوائف. الجميع يبحث عن شيء ما لا يمنحُه الاستهلاك: الحبور الجماعي، العاطفة، السرور المشترك، مثل الجو الذي يمنحه لهم (المونديال) وحفلات الموسيقى… إن حفلة اليوم لم تعُد مثل حفلة الأمس، حفلة اليوم هي حفلة القطيعة التي تقلب عَمْدًا وفي زمنٍ محدّد قواعد الحياة في المجتمع، إنها حفلة تمديد القيم الفردانية.

 

كيف يمكن تفسير تعايش الفردانية مع الامتثال الجماعي، ووجود التطلُّع لمزيد من الحرية مع الانتماء؟

ج. ل.: إذا كانت الضوابط المجتمعية قد فقدت قوّتها، فإن الضُّغوط الجماعية مستمرّة. الضغوط لا تأتي من الطبقات الاجتماعية ولكن من معايير مثل الحيويّة والصحّة والشباب، إلخ. في حالة الشباب، المجموعة لا تزال تمارِس تأثيرا يتحدّد في معايير الاستهلاك. الاستهلاك هنا مُتطابِق جدّا، ويجعل نموذج الاستهلاك الفرداني غيرَ صالحٍ فيما يظهر، لأنّ الشباب يتحرّرون من أسَرهم، ويعبّرون بالتالي عن سلوكٍ فرداني من خلال عبادة حقيقيّة للعلامات التجارية (الماركات).

 

المستهلك لم يعد مُجرّد مُستقبِل سلبي، بل أصبح مرسِلا. ما هي الانعكاسات على الماركات؟ أي رسائل ينبغي أن تحملها ماركات المنتِج، حين يُعرف أن المستهلك يسارع إلى استخدام المدونة الإلكترونية لتقييم واستقطاب العلامات التجارية ؟

ج.ل: التقييم والدعاية يتم ممارستهما ونشرُه في كلّ مكان على الشبكة العنكبوتية. الفرد لم يعد يتحمّل أن يكون مُتلقّيا سلبيا، إنه بحاجة إلى التحدُّث. العلامات التجارية لم تعد تحتكر الكلام عن نفسها. بالموازاة مع ذلك، كُلّما ظهر المستهلك أقلّ هَوَسا بالصورة التي يعرضها للآخر، تكون قراراته الشرائية أكثر اعتمادا على الجانب التخيُّلي للعلامات التجارية. إنّها بالمثل مبَرَّرة بواسطة منطق القلق: القلق لدى الشباب من ألّا يكونوا في المستوى ومن ألّا يكون مُعترَفا بهم من قِبَل أقرانهم، القلق الغذائي الذي يتجلى في الحاجة إلى المنتجات الأصيلة والطبيعية والشعبية. أمام تضاعُف المعايير، تُوفِّر الماركة الأمن، وتُصبح مَرجِعا أكثر من ذي قبل.

 

اقرأ ايضاً: ممتلكاتنا: نملكها أم تملكنا؟

 

هوامش:

  • كاتب “عصر الفراغ” (1983)، و”إمبراطورية الزّوال” (1987)، و”أفول الواجب” (1992)، و”المرأة الثالثة” (1997)، و”التّرَف الخالد” (2003)، و”أزمنة الحداثة المُفرطة” (2004)، و”السعادة المتناقضة: دراسة حول مجتمع الإفراط في الاستهلاك” (2006)، “مجتمع خيبة الأمل” (2006)، “الشاشة الشاملة” (2007)، و”الثقافة-العالم” (2008). [الكاتب]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى