بسم الله الرحمن الرحيم
“الرؤيا من عجائب صنع الله،
وهي من أوضح الأدلة على عالم الملكوت”
(أبو حامد الغزالي ت505هـ)
“سدُّ طريق الحواس شرط لفتح حواس القلب،
ألا ترى أنك لا ترى شيئا في اليقظة،
فإذا نمت رأيت أشياء كثيرة؟
كذلك إذا سددت عليك في اليقظة طرق الحواس
انفتحت عليك حواس القلب”
(نجم الدين الكبرى ت618هـ)
رأت امرأة شابة في منامها أن رجلًا ملثمًا واقف عن طرف سريرها، يحملق فيها صامتًا، فاجتاحها الخوف والذعر، وسحبت الفراش بأصابع مرتجفة لتغطي بدنها، وصرخت به: “ما الذي تنوي فعله بي؟”، فأجابها الرجل دون أن يتحرك: “لا أدري يا سيدتي؛ فأنت التي تحلمين!”.
هذه الحكاية الرمزية تصلح أن تكون افتتاحًا أورده بين يدي هذه الملاحظات التي جمعتها في أثناء مطالعتي لبعض التصانيف في تأويل المنامات، وكان قد انقدح في ذهني تعجّب وتساؤل عن سرّ رموز المرائي المنامية، وكيفيات تشكّلها في باطن النفس ابتداء، ومصدر هذه الارتباطات العجيبة بين دلالات الرؤى وصورها وعلاماتها، وكثير من ذلك لم أتبيّن جوابه بعد، إلا أني رأيت أن أنقل لك بعض ما هنالك مما ينفع، أو يمتع إن شاء الله.
(1)
اتفق أكثر الناس من أهل الديانات وغيرهم على أن في المنامات حقيقة ثابتة، وقد جاءت الشريعة بإقرار ذلك، وجعلت المنامات على أقسام: الأول الرؤيا، وهي من الله تعالى، والثاني الحلم وهو من الشيطان، والثالث أحاديث النفس وخلجاتها، وقد روى ابن ماجه -بسند حسّنه ابن حجر في الفتح- أنه صلى الله عليه وسلم قال: “الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهمّ به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة”، وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الرؤيا الحسنة، من الرجل الصالح، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة”، ونقل ابن بطال الاتفاق على أن رؤيا المرأة الصالحة داخلة في معنى الحديث.
وقد ورد معنى هذا الحديث الأخير من طرق كثيرة تبلغ حدّ التواتر المعنوي، كما يقرر المناوي (ت1031هـ) رحمه الله، ومعنى العلاقة بين الرؤيا والنبوة أنه “لما كانت النبوة تتضمن اطلاعًا على أمور يظهر تحقيقها فيما بعد؛ وقع تشبيه رؤيا المؤمن بها”، كما يقول ابن الجوزي (ت597هـ).
وقد اضطربت الأقاويل في حقيقة الرؤيا (والمقصود الرؤيا الصالحة التي هي من الله، وهو اصطلاح شرعي، وهو أخصّ من استعمال العرب)، ومردّ ذلك كونها من المغيَّبات، فيكاد يتعذّر الوقوف على حقيقتها، ولم يصرّح بذلك وحي ولا سبيل إلى دركه بغير ذلك، وغاية ما يقال أنها إدراكات أو معارف يخلقها الله في قلب العبد، إما بحقيقة، وإما بإشارة، كما سيأتي.
وذكر بعضهم أن للرؤيا الصادقة علامات، منها سرعة استيقاظ الرائي، وثبوتها في حفظه، قال ابن خلدون: “إذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر والوجهة إليها، وينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها؛ فليست الرؤيا بصادقة، وإنما هي من أضغاث الأحلام“؛ وذهب غيره إلى أن المرء قد يرى رؤيا صالحة لكنه ينساها؛ “لضعف نيته وكثرة ذنوبه”؛ كما يذكر نصر بن يعقوب الدينوري (ت410هـ).
(2)
فإن قلت أي هذه الأقسام المذكورة وقوعًا؟، قيل الرؤى الصادقة قليلة، بل هي الأقل فيما يرى الناس، كما أشار الراغب (ت502هـ) في الذريعة وغيره، وأغلب منامات الناس من قبيل أحاديث النفس، وأضغاث الأحلام. ويجعل الغزالي رحمه الله سبب ذلك كثرة الخطايا؛ لأن “من كثر فساده ومعاصيه أظلم قلبه؛ فكان ما يراه أضغاث أحلام”.
ومن الفروق المذكورة بين الرؤى والأضغاث أن الرؤى تتعلق بالمستقبل غالبًا، أما الأضغاث فتتعلق بالأمور اليومية الحاضرة، فمن نام خائفًا أو جائعًا أو حزينًا أو مسرورًا أو عطشانًا فرأى ما يطابق حاله كأن رأى الجائع أنه يأكل فذلك من الأضغاث، وجاء في سفر إشعياء (الإصحاح 29 :8): “يكون كما يحلم الجائع أنه يأكل، وكما يحلم العطشان أنه يشرب”، ويقول ارتبانوس –وهو من قدماء المعبّرين الفرس- :”إن صور الأحلام لا تضم -في معظم الأحايين- سوى ما يفكر فيه المرء من قبل وهو مستيقظ”، ويذكر الطبيب الألماني كارل بينز (ت1913م) أن “من بين كل عشرة أحلام تسعة –على الأقل- لا معنى لها“.
وكذا من نام مشتاقًا مغرمًا فإنه لا يعدم أن يرى طيف من يحب، أو يزوره أو يعانقه، وقد كتب الشعراء في هذا فأكثروا، وجمع بعض ما قيل في ذلك الشريف المرتضى (ت436هـ) في كتاب حسن “طيف الخيال”، وهو محقق ومطبوع قديمًا.
وفي الستينات من القرن العشرين أجرى الباحث الأمريكي فريدريك سنيدر مقارنة بين مجموعة كبيرة من الأحلام ووقائع معايشات الفرد الرائي في النهار، وتوصل إلى أن 90% من تلك الأحلام في عينة الدراسة كانت “وصفًا موثوقًا لمعايشات في الحياة اليومية”.
وتأكيدًا لهذا الارتباط بين معايشات اليقظة وصور المنامات، ذكرت بعض الأبحاث المختصة أن محتوى الأحلام عند الأمريكيات يكثر فيها رؤيا البقاء في المنزل في ظروف مألوفة، وبصحبة أشخاص مألوفين، وتركز أحلامهن على ملابس ووجوه الناس ومناظرهم الخارجية مقارنة بالرجال، كما أن العدوانية تظهر عندهن في صيغ لفظية غالبًا، وتنزع أحلام الرجال لإبراز الحركة والنشاط المهني وثيمات النجاح والفشل، والعنف عندهم يظهر في صيغ جسدية، كل هذا ليس مستغربًا، بل هو متوقع، بيد أن بعض هذه الأبحاث أضافت أن “محتوى أحلام الرجال والنساء في الولايات المتحدة يتجه نحو التماثل خلال السنوات القليلة الماضية، بالقدر الذي يكشف حجم التحولات التي يتعرض لها المجتمع الأمريكي حاليًا”.
وقد يحرص بعض الناس على تدوين مناماتهم حتى في الأزمنة السابقة، وقد لاحظ محقق الأوراق التي كان يكتبها ابن البناء الحنبلي (ت471هـ) لنفسه، والتي نشرت على أنها “يوميات”، لاحظ كثرة المنامات التي يوردها المؤلف، لنفسه أو لغيره، وهي تتجاوز العشرين رؤيًا.
وقد كثر تدوين المنامات في العصر الحاضر، بل أصبح إجراءً علاجيًا هامًا عند بعض المحللين النفسيين، وكانت امرأة أمريكية (يطلق عليه اسما مستعارا هو بارب) قد واظبت على كتابة ما تراه في منامها طوال الفترة الواقعة ما بين 1976م و1997م، وقد بلغت مناماتها 3082 حلمًا، فانتهز الفرصة الباحث الأمريكي جورج ويليام دومهوف وأجرى مع رفاقه دراسة فاحصة لمحتويات هذه الأحلام، (نشر نتائجها ضمن كتابه المعنون The Scientific Study of Dreams المنشور عام 2002م)، وكان مهتمًا بعلاقة هذه المنامات بصاحبتها التي لم يكن يعرف عنها شيئًا، وتوصل إلى نتائج كثيرة عن سمات شخصية بارب، ومخاوفها، وأمنياتها، وعلاقاتها بأولادها، ورغباتها المختلفة، وتأكد من دقة كل ذلك بعد استجواب صديقاتها وبعض قرابتها ومقارنة نتائجه بمصادر أخرى، ثم أخيرًا تأكد من ذلك بسؤال بارب نفسها، وهذه الدراسة الفريدة تؤكد الارتباط الوثيق بين حياة النهار ومنامات الليل.
وهذه الأضغاث قد تتبع أنماطًا شائعة بين سائر الناس، فكثير من الناس سبق له أن رأى نفسه وهو يسقط، أو يطير، كما يذكر كارل يونج (ت1961م)، وتشير بعض الدراسات التي أجريت في أمريكا وألمانيا واليابان إلى أن أكثر الأحلام شيوعًا تدور حول أربعة أمور وهي على الترتيب:
1- المطاردات والملاحقات.
2- الجنس.
3- السقوط.
4- المحاولات المتكررة لتحقيق شيء ما.
وعادةً ما تكون مصحوبة بمشاعر قوية، وقد صرّح بذلك قرابة 80% من البالغين في البلدان المذكورة.
وتوصلت دراسة ألمانية إلى أن 70% من الألمان رأوا في منامهم حلمًا أنهم يفوتهم موعد وسيلة مواصلات، أو موعد هام كرحلة طائرة.
ومن شواهد الصلة الوثيقة بين معاشات اليقظة والمنامات أيضًا أن الطبيب النفسي النمساوي إرنست هارتمان (ت2013م) جمع آلاف المنامات التي تنتاب من تعرّضوا لصدمات قوية، كحوادث اغتصاب أو ناجين من حرب أو حريق أو نحو ذلك، وكانت نتائج تحليله لتلك المنامات متوقعة للغاية، فهي تمرّ –كما يقول- بثلاث خطوات؛ في البداية تظهر المنامات مفزعة وتشبه الواقع إلى حد كبير، ثم تكتسب بمرور الوقت طابعًا خياليًا، ويصحبها عادة مشاعر ذعر وفزع أو خجل، ثم أخيرًا تختفي وتصبح من الماضي.
وهذه الخطوات تتفق تمامًا مع التصرف الإنساني المعتاد مع الصدمات، حتى ولو كانوا المتعرض للاعتداء أو المصيبة طفلًا، وذلك خلافًا لبعض التصورات الشائعة (فيما يتعلق بالاعتداء الجنسي على الأطفال -مثلًا-؛ أثبتت دراسات نفسية واجتماعية كثيرة جدًا أن “ردّ الفعل المعتاد على حادثة الاعتداء الجنسي هو اكتساب الفرد المعتدى عليه قدرة على تجاوز الأزمات، لا الإصابة بالأمراض النفسية” كما يظن، وأشارت دراسات أخرى إلى أن الغالبية العظمى من الأطفال يتجاوزون ظروف طلاق والديهم دون أضرار نفسية طويلة المدى أو دون أي أضرار على الإطلاق).
ومع كل ما سبق من غلبة أحاديث النفس في منامات الناس إلا أن الغزالي (ت505هـ) يقرر أنه “قلّما يخلو الإنسان عن منامات دلّت على أمور فوجدها صحيحة“، لا سيما إذا كان صادقًا في نفسه، لحديث “أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا”، ولأجل هذا المعنى ذكر ابن النفيس (ت687هـ) في كتابه الشامل أن “الشعراء يندر صحة أحلامهم؛ لأن الشاعر من عادته التخييل بما لا حقيقة له، وأكثر فكره إنما هو في وضع الصور والمعاني الكاذبة”.
(3)
في عام 1965م نشر الشاعر الهندي ساردار جعفري (ت2000م) ديوانه “وما تزال هناك بضعة أحلام”، وكتب في مقدمته: “إنه لحق إنساني أن يحظى المرء برؤى في المنام؛ وهو حق لا يمكن لقوة في العالم أن تسلبه إياه”، وأكثر فرح المعتقلين في حبوس الظلمة بالرؤى، فإنها آخر ما يبقى لهم من دنيا الناس، كما قال الأول:
خَرَجنا مِنَ الدُنيا وَنَحنُ مِنَ اَهلِها
فَلَسنا مِنَ الأَمواتِ فيها وَلا الأَحيا
إِذا دَخَلَ السَجّانُ يَومًا لِحاجَةٍ
عَجِبنا وَقُلنا: جاءَ هَذا مِنَ الدُنيا
وَنَفرَحُ بِالرُؤيا فَجُلُّ حَديثِنا
إِذا نَحنُ أَصبَحنا الحَديثُ عَنِ الرُؤيا
وهذه النعمة تشمل حتى من حرم البصر في اليقظة، وقد اختلفوا قديمًا منذ عصر اليونان؛ هل الأعمى له حظ من المنامات أو لا؟، وذهب الصفدي (ت764هـ) في “نكت الهميان” إلى أن من طرأ عليه العمى فهو يرى رؤى وأحلامًا، وأما الأكمه (وهو من ولد أعمى) فيرى ما يلابسه من الأحوال دون غيره، فلا يرى شمسًا ولا قمرًا ولا نجومًا، وإنما ربما يرى أنه يؤكل أو يشرب، وهذا في ذلك متابع لرأي أرسطو، كما تابعه كثيرون، وهذا يشبه رأي كثير من الباحثين المعاصرين.
على أن الباحث البرتغالي هيلدر بيرتولو -المختص بطب النوم- نشر دراسة هامة عام 2003م أثبتت أنه حتى من ولدوا فاقدي البصر يرون أحلامًا مرئية، ويمكن تفسير ذلك بمعرفة تصور إجمالي عن نظام الإدراك البصري في الدماغ، والذي يتكوّن -باختزال شديد- من القشرة البصرية الأولية، ووظيفتها استقبال الإشارات من العين وتنقيتها وتحليل الواردات من الشبكية، ويتكوّن أيضًا من ما يمكن تسميته بـ”المناطق الدماغية العليا”، وهي شبكة معقدة من الأنظمة الإدراكية تعتمد على عدة مصادر للمعلومات لإنتاج (صورة) داخلية، فتعتمد على الإدراك اللحظي والتذكر البصري، وكذلك جميع معارف الرائي عن العالم، وكما يلخّص الأمر أحد الباحثين بقوله: “ما تراه في اللحظة الآنية إنما هو نتاج ما يقوم الدماغ بتركيبه من انعكاس الضوء على شبكية العين أولًا، ومما رأيته قبل ذلك ثانيًا، ومما تعرفه ثالثًا”، ولذا فقد ينعدم الإدراك والتذكر البصري كما هو حال الأكمه، إلا أنه يمكنه إنشاء تصورات مرئية اعتمادًا على معارفه الأخرى، فتلك المناطق الدماغية تترجم ما يتحسسه فاقد البصر أو ما يسمعه إلى نوع من “الصور الداخلية”؛ فالخلاصة أن “التصور يمكن أن ينفصل عن الإدراك بشكل مدهش، فيمكن أن تتكون عند المرء تصورات مرئية عن الأشياء من حوله؛ حتى وإن لم يكن قد رأى بعينيه شيئًا من قبل”.
(4)
نفى ابن خلدون (ت808هـ) في المقدمة وصول كتب تفسير الأحلام القديمة إلى أهل الإسلام، ورأى أن المسلمين اكتفوا بكلام أئمتهم من المعبّرين أصحاب الشأن، وهذا غير دقيق، وهو مستغرب بالنظر لسعة اطلاعه، وقد صنّف الأديب نصر بن يعقوب الدينوري (ت410هـ) مصنفًا معروفًا في علم التعبير، وسماه (القادري في التعبير)، لأنه صنّفه للخليفة القادر بالله، وقال في أوله: “ونقلتُ إليه مقالات المعبرين.. [ثم ذكر منهم] البصراء من أهل الكتاب والمؤولين، من حبر ماهر، وأسقف وراهب، وقس عالم، وحكماء يونان والروم، ونسّاك الهند والبراهمة…الخ”، وهذا نموذج واحد، ونظائره لا تخفى.
بل ترجم حنين بن إسحاق (ت260هـ) أشهر كتب اليونان في التعبير على الإطلاق، وهو كتاب أرطاميدورس (توفي في القرن الثاني للميلاد)، وهو محقق ومطبوع، ويظهر -بأدنى مقارنة- تأثر جملة من التصانيف التراثية بأرطاميدورس، فقد بنى كتابه على طريقة أصبحت معهودة، فبدأه بجملة مقدمات عن الرؤى والأضغاث، ثم شرع في ذكر رموز المنامات في أبواب، وينص فيها على ما تحتمله من التفسير، فيقول مثلًا: “الباب السابع في النظر في المرآة”، وذكر فيه أن من رأى في منامه أنه ينظر في مرآة ويرى هيئته بمنظر حسن؛ فتفسيره أنه يتزوّج، ويسوق بابًا آخر عن رؤيا الشعر، والآذان، وسائر الأعضاء، وثالث في رؤيا الطعام، ورؤيا التيجان، والحرب، والزلازل..الخ، وفيها يقول من رآى كذا وكذا فتفسيره كذا أو كذا مما يحمد أو يسوء.
وهذا الترتيب الإجمالي تجده بنحوه في كثير من المصنفات التراثية في علم التعبير، بل تجده من كلامه بنصه عند أمثال صاحب القادري، وربما تفنن بعضهم في ترتيب المعاني على حروف الهجاء، وتجد عناية عامة من صنّف في هذا الباب من المتأخرين منصبة على جمع الرموز ومعانيها، من غير عناية بأصول هذا الفن، وقواعده الكليّة، مع وفرة التخرّصات، وضعف التحرير، زيادة على المادة التي دخلت عليه من الكتب القديمة لليونانيين والسريان وأضرابهم، وفحص ذلك وتتبعه بحاجة لبحث واستقصاء وتتبّع، وقد أشار المناوي في كتابه “الفيوض الإلهية بشرح الألفية الوردية” الذي شرح فيه ألفية ابن الوردي في علم التعبير إلى علة الضعف الملاحظ في كتب تفسير المنامات في التراث، فقال: “أكثر من ألّف في التعبير إنما هم من العوام“.
واستمر هذا التقليد التصنيفي حتى العصر الحاضر، ومن لطيف ما رأيت أن بعض الأتراك المحدَثين صنّف كتابًا على شاكلة كتب التعبير التي وصفتُ لك، وأورد فيه صورًا معاصرة، فمن ذلك قال أن رؤية الهاتف في المنام تدلّ على أن من يراه قد يزعجه من يكره، ومن رأى أنه يقرأ “رواية” فتفسيره أنه يعمل عملًا يتنغص بسببه ولا فائدة منه!، ومن رأى شيكولاته؛ فإن يومه ذاك سعيد، وإذا رآها المريض فإنه يشفى!
وأشار بعض الباحثين إلى أن كتب تعبير الرؤى تكشف عن عادات البلد وأحواله أكثر مما تكشفه كتابات أهل البلد أنفسهم، وهذا ملحظ جيد، ويمكنك أن تختبر ذلك بنفسك، وانظر في كتاب “الإشارات في علم العبارات” لابن شاهين (ت873هـ) تجده مادة وافرة في الاجتماع والتاريخ والألبسة والأطعمة والأشربة وكثير من أحوال الناس وعوائدهم حينها، وهذا الذي نقلت لك آنفًا شاهد لذلك.
(5)
ولو تأملت الصور الأخيرة الطريفة لربما لاح لك سرّ الصلة بينها وبين معانيها المنامية، فمدار التعبير –المظنون- على المناسبة والتشابه، وهذا يقودنا إلى الحديث عن مصادر تعبير المنامات، وهي كثيرة، وأصولها المشهورة القرآن والسنة، واللغة، وقد أوصلها المناوي إلى ثلاثين وجهًا، فذكر التعبير بالأمثال وبالاشتقاق، وبالعدد، وبالشعر، وبالعادة والتجربة، وغير ذلك، وكثير مما ذكره لا دليل عليه، وبعضه خطأ محض.
ومن أمثلة التعبير بالوحي تعبير الحبل بالعهد، والخشب بالنفاق، والقوارير بالنساء، والنظر في الاشتقاق والتجنيس في التعبير أصله مشهور في الأحاديث، ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” رأيت ذات ليلة، فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب”.
وقد ذكروا أن النظر في الاشتقاق اللغوي أصل من أصول هذا العلم، وذلك يتعلق في كل لغة بحسبها، وأشار لهذا ابن سينا، والقصد بالاشتقاق المعنى العام لا الاصطلاحي فحسب، كما قال الشيخ ابن سعدي (ت1376هـ) رحمه الله: “أغلب ما تبنى عليه [تعابير الرؤى] المناسبة والمشابهة في الاسم والصفة“.
ويرى جملة من الباحثين ومنهم المحلل النفسي تشارلز ريكروفت (ت1998م) أن “عملية صناعة الرمز في الأحلام تتوافق أكثر مما تختلف مع عملية صناعة الرمز في مجالات الإبداع كالفنون”؛ ويتفق مع هذا الباحث الفرنسي جان نويل (و1931م) الذي يذهب إلى أن الآليات التي تشتغل بها المنامات تتطابق مع الآليات البلاغية التقليدية، كالاستعارة والمجاز ونحوها، فالصيغ الذائعة للأحلام هي رموز قائمة على الإبدال عن طريق المماثلة أو المجاورة أو الانتماء.
ولأجل هذا التشابه الواضح يبدو أن تعبير المعبّرين لا يكاد يخلو من ضرب من ضروب التحليل البلاغي لـ”نصوص” المنامات، وقد درس ذلك الدكتور جاسم الفهيد في بحث لطيف بعنوان “بلاغة الأحلام”، وأوضح طبيعة التشابه بين نصوص تعبير الرؤى وآليات التحليل البلاغي المعروفة، كما في باب الاستعارة، فالمعبّر يبحث عن شبيه واقعي للمثل المتخيّل في الرؤيا المنامية، فالمطلوب كشف الطرف المحذوف من التشبيه الرمزي، وكذلك يطبّق المعبّر الأدوات البلاغية في باب المجاز المرسل، وفي باب الكناية، وفي فنون البديع؛ ويستعملها –وإن لم يشعر- في تأويل المنام، وفكّ رموزه، وقد ساق في البحث المذكور جملة من الشواهد على ذلك من كتب علم التعبير المعروفة.
فإن قلت فلم تكون الرؤى مرموزة وتحتاج إلى فراسة خاصة ونظر لتأويلها؟ فيقال الرؤى يكون منها نوع لا يحتاج إلى تأويل، بل يقع كما رؤى، ومنه نوع خفي، قال بعضهم وخفاء الرؤيا من عدمه يقدّره الله تعالى بحسب مصلحة العبد، ونقل صاحب “القادري في التعبير” عن بعض قدامى الحكماء أن الرؤى الصريحة تكون من الله بلا واسطة، وأما الرؤى المرموزة فمن الملَك المكلف بالرؤى (زعم بعضهم أن اسمه صديقون)، قال “لأن الملائكة يحبون أن نكون نحن أصحاب بحث وفهم وفحص عن الأشياء”، ولا أعرف برهانًا على ذلك.
(6)
لم تعد المنامات جزءًا من واقع الحياة بالنسبة لمعظم من الغربيين لاسيما الأوروبيين ومن تبعهم من المعاصرين، ويعود ذلك إلى التحوّل الواسع في منظومة المعرفة الحداثية، وطغيان النزعة “العلموية“، وسيادة الاعتقاد التجريبي، وكما يقول عالم الإناسة الفرنسي روجر باستيد (ت1974م): “لقد تقطّعت الجسور بين شطري الإنسان الليلي والنهاري في الحضارة الغربية”، وينعى على الغربيين حالهم: “لقد قللنا من شأن الشطر الليلي في حياتنا”.
وكان الاعتقاد الأشهر عند معظم الناس في سائر الأديان والمذاهب أن للرؤى تعلّق بعالم الغيب، وأن دلالة المنامات الكبرى تكون في كشف المستقبل، أو التكهن به، ومع بدايات التحول نحو العلموية الوضعية منذ أواسط القرن التاسع عشر انتشر الاعتقاد في البحث العلمي والطبي بتفاهة الأحلام، وانتفاء قيمتها، لخروج حقيقتها عن حدّ التجريب والاختبار، ثم جاء طبيب الأعصاب النمساوي والمحلل النفسي الأشهر سيغومند فرويد (ت1939م) وحاول أن يبتكر طريقة “علمية” في فهم الأحلام وتفسيرها، وكان له تأثير كبير في هذا الحقل، والاعتقاد الفرويدي الأساس يقوم على فرضية مفادها أن “الحلم نتاج لنشاط الفرد النفسي”، وأنه “الطريق الملكي المؤدي إلى اللاوعي”، فهو الكاشف عن بنى النفس العميقة.
ثم تتابعت الدراسات الحديثة بعد ذلك وتشعّبت، وحين تقارن بين التصور النفسي الحديث وحقيقة الرؤيا في الشريعة سيتبين لك –أولًا- أن المنامات في الشريعة يتضمن بعضها معرفة قبْلية، وتتعلق غالبًا بكشف المستقبل، بالنذارة أو البشارة، أما المنامات في التصور “العلمي” المعاصر فهي معرفة بعدية خالصة، أي أنها تتعلق بالماضي، أو الحاضر المستمر، ولا صلة لها بنبوءات المستقبل، وعلة هذا التباين في النظر هو أن من المنامات في الشريعة ما يكون من خارج الذات (الرؤى من الله)، والله تعالى عالم الغيب، أما عند فرويد وأتباعه فالأحلام تنبع حصرًا من داخل الذات، بل من أعماقها اللاواعية، والإنسان محدود المعرفة فلا يمكنه إدراك المستقبل من قبل نفسه، ومع ذلك ففرويد وأتباعه لا ينفون تعلق المنامات بالمستقبل مطلقًا، بل قد يقبلونه لا على أنه كشف أو تنبؤ أو تكهّن بخفاياه، بل باعتبار أن هذه المعرفة الحلمية المستقبلية هي “نتاج لا شعوري طويل”، فهي إذًا تنبع عن الذات، لكن في مستوى يقبع وراء الوعي المعهود، كما يذكر كارل يونج. (استفدت بعض هذه الخلاصات من بحث أ. محمد الأمراني).
وقد حاول كثير من الباحثين فحص مزاعم فرويد وأتباعه فيما يخص دور الأحلام في كشف
خفايا حياة الذات في اليقظة وأزماتها المكبوتة، على نحو ما يقول يوهان فيشته (ت1814م): “إن الطابع الذي يسم أحلامنا مرآة تصوّر لنا حالتنا النفسية في مجموعها تصويرًا أصدق كثيرًا مما نستطيع تحصيله في يقظتنا بالملاحظة الذاتية“، فأثبت دومهوف في دراسته –التي أشرتُ لها سابقًا- أن الأحلام قد تكشف فعلًا عن خفايا النفس، إلا أن دلالات الأحلام المعبّرة عن دواخل الذات هي الأحلام المتكررة طوال مدة زمنية طويلة نسبيًا، ولا تظهر -كما يزعم- في الأحلام المفردة والعابرة، وأيضًا فإن خبرات الفرد القديمة التي يتجاهلها أو يستخف بها قد تعود للظهور بعد سنوات طويلة مجددًا في منامه، ولكنها –خلافًا لفرويد وأتباعه- لا تحتاج إلى تأويل معقد ولا تحليل مركب، بل تظهر على درجة عالية من الوضوح؛ وهكذا ربما يصحّ قول الشاعر الألماني هانز كاروسا (ت1956م): “إن رؤياك تعرف عنك أكثر من معرفتك أنت لنفسك”.
(7)
كما افتتحت المقالة بعبارة الغزالي في دلالة الرؤى على العالم الباقي، أختم بالإشارة إلى تلك الصلات الخفية بين عوالم الغيب وعالم الشهادة، فمن ذلك ما نقله التوحيدي عن أبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني، وكان صديقًا حميمًا للقاضي ابن سّيار أنه قال عن حالهما: “ربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت أو قبله بقليل، أو بعده بقليل”، وقد صرّح بذلك آخرين، فتقول الألمانية أنّا ماري شيمل (ت2003م) مثلًا: “لقد اعتدت وأنا في سن مبكرة من حياتي أن أرى من حين لآخر رؤى في المنام تتفق مع رؤى منام أمي، التي كانت تربطني بها علاقة حميمة”، وقد تأملت أنّا شيمل هذه الحال، ورأت فيها شاهدًا على أن شدة الاتصال في اليقظة قد تفضي إلى الاتصال في المنام، وكتبت: “بدا لي فيما بعد أن الترابط الروحي بين شخصين هو الذي يمكنهما أن يريا في المنام أحلامًا متطابقة، أو متقاربة“.
وكان ابن حزم (ت 456هـ) رحمه الله يعتقد ذلك، بل يذهب إلى ما هو أعجب، ويقول: “صحبت أقوامًا صحبة الروح للجسد من صدق المودة، فلما ماتوا رأيت بعضهم في النوم، ولم أر بعضهم، وقد كنت عاهدت بعضهم في الحياة على التزاور في المنام بعد الموت -إن أمكن ذلك-؛ فلم أره في النوم بعد أن تقدمني إلى دار الآخرة، فلا أدري أنسي أن شُغل”.
وهذا التقارب بين عالم الموت وعالم المنام معروف، فالنوم موتة صغرى، وقد لاحظ الباحث الأمريكي وأستاذ الطب التلطيفي كريستوفر كير أنه عند اقتراب المريض من الموت تتحول مناماته وأحلامه الليلية إلى التركيز على الأموات، ولأجل توثيق ذلك وتحليله قام بدراسة هامة تعنى بفحص ما يسميه “تجارب نهاية الحياة” وهي المنامات التي تكثر عند المحتضرين، وتوصل إلى أن المرضى قبيل وفاتهم كثيرًا ما يرون أصدقاؤهم وأقاربهم الموتى، وهي تشكل 72% من التجارب المذكورة.
وذكر كير في الدراسة نفسها أن أكثر من 33% من المحتضرين يرون –بصفة متكررة- كأنهم يتحدثون عن رحلة ما، أو يستعدون لسفر ما، وقد سرد الدكتور كير نتائج هذه الدراسة في كتابه: “الموت مجرد حلم!” الصادر عام 2020م؛ ثم علّق بالقول:
“كلما مضت فترة من عملي وتجربتي مع المحتضرين أشعر بعدم الارتياح لتصنيف تجارب نهاية الحياة على أنها مجرد أحلام؛ إنها شكل من أشكال التواصل يوجد على مستوىً مختلف عن أي شيء محدد لتجاربنا اليومية، أو ما نراه في أحلامنا الاعتيادية؛ ضمن سياق ربما يسمى “التسامي”، فهي تتسامى على الجانب المادي من الاحتضار في سبيل خلق انتقال روحاني أكثر معنى وعمقًا. وهذا “التسامي” يتضمن الإشارة إلى وجود عالم أو تجربة تتجاوز المستوى المادي المألوف؛ إنها حالة ترتبط بالإيمان بالحياة الآخرة، ومع أن هذا الإيمان وجهة نظر خاصة، إلا أن هذا المفهوم الإيماني يمثل أفضل تمثيل العمل الذي تؤديه تجارب نهاية الحياة”.
هذا، وأرجو أن يرزقني الله وإياك رؤىً صالحة صادقة تبشّر بخير الحال والمآل، وأن يصرف عني وعنك أهاويل الشيطان وتحزينه.
جميل جدا خصوصا أن الموضوع غير مطروق بحسب ما أرى
أعجبني تناول الرؤى من عدة نواحي، وليته أضاف تعلق الرؤى بالأمراض الروحية فهو عالم واسع وإن خالطه شيء من المبالغة