عام

الحرّيّة باعتبارها علاجًا للوحدة

لا شيء أفضل من الفنّ لصدّ أهوال الحجر الصّحّيّ

  • مارك أنطوان بيكوت*
  • ترجمة: محمد  ڭـزّو

بينما نجد أنفسنا وحيدين ومحبوسين في فترة الوباء هذه، فهل نحن بالتّالي أقلّ حرّية؟ وإذا كانت الإجابة تبدو بديهيّة، فإنّ الطّريقة التي نقضي بها وقتنا ونشغل تفكرينا ليست كذلك. إذ في منتصف فصل الشّتاء، يبدو من المستحيل تقريبًا زراعة الأرض؛ تماما مثلما أننا نعجز عن مواساة أرواحنا في هذا الحجر الصّحّيّ الذي يغرقنا أكثر وأكثر في نوع من القلق، ومن ثمّ يصبح استرضاء شعورنا بالوحدة صعبًا أكثر. لهذا السّبب يجب أن ننتقل، أزيد من أيّ وقت مضى، إلى العلوم الإنسانيّة من أجل تخليص أنفسنا من برودة هذا الوباء الذي يبدو أن لا نهاية له.

تشكل النّظريّة النّقديّة لمدرسة فرانكفورت أرضًا خصبة، لإيجاد بعض الهدوء في مواجهة القلق والوحدة التي تغمرنا بشكل عشوائيّ. حيث يقدّم “إريك فروم”، عالِم الاجتماع والمحلِّل النّفسيّ وعضو هذه المدرسة، في كتابه (Escape from Freedom) “الهروب من الحرّيّة” الذي نُشر سنة 1941، نقدًا اجتماعيًّا لما بعد الماركسيّة والإنسانويّة، بالإضافة إلى تحليل علاقتنا بالحرّيّة. واتّضح أنّ الوقت مناسب جدًّا لإعادة التّركيز على الأساسيات، واللّحظة هاته التي سدّ الوباء فيها -عمليًّا- طرق الهروب مثل الامتثال وعبادة المال.

في السياق ذاته، يجادل إريك فروم في كتابه، بأنّنا وُلدنا بسلاسل أصليّة تبقينا في فلك العبوديّة، ولكنّها تمنحنا أيضًا إحساسًا عميقًا بالأمان. وينطبق ذلك بشكل ملموس على الحبل السّري، والحاجة إلى سلطة أبويّة في سنّ مبكّرة. وتتجلّى هذه السّلاسل أيضًا في العصور الوسطى، حتّى فترة الإصلاح الديني، فيما يتعلّق بدور كلّ شخص في المجتمع: كلّ شيء محدّد مسبقًا، ولا يتعيّن على الفرد أن يخضع لعذاب الشّكّ الذي تنطوي عليه الحرّيّة. وفي كلتا الحالتين، تبددت هذه السّلاسل مع ظهور الفردانية. ثمّ انغمس الإنسان في شعور لا يطاق من انعدام الأمن والعجز والعزلة.

منذ البداية، يرى إريك فروم أن الشّعور بالوحدة والعزلة، لا يعني فقط -إن لم يكن بشكلّ خاصّ- أن تكون وحيدًا، بل إنّه انفصال عن العالَم، وقلّة تفاعل الإنسان مع زملائه وكذلك مع الطّبيعة. وهو شعور يخيفه، أكثر من أيّ شعور آخر، لأنّه “يؤدّي به إلى التّفكّك العقليّ كما يؤدّي الجوع إلى الموت”. لذا سيبحث الفرد، خائفًا من هذا الشّعور، عن شخص ما أو شيء ما ليعيد إليه التوازن مرّة أخرى. بهذه الطّريقة، سيعود بشكل مصطنع ومؤقّت إلى إحساسه بالأمان، وبالتّالي يهدّئ من شعوره بالعزلة إلى حين. أبعد من هذا، يؤكّد إريك فروم أنّه في ظلّ هذه الظّروف، سوف يلجأ المرء كثيرًا إلى الثّغرات، للهروب من الآليات، بما في ذلك الامتثال.

من هذا القبيل، يُعرّف الامتثال الاجتماعي على أنّه الآلية التي عبْرها يتوقّف الفرد على أن يكون هو نفسه، لكي يتصرّف وفقًا لتوقّعات الآخرين؛ بعبارة أخرى، هي ممارسة الظّاهرة الحربائيّة. من خلال هذه الآلية، يتخلّى الفرد عن فرديّته لكي يتصرّف مثل الإنسان الآليّ، وبالتّالي يخفّف من شعوره بالوحدة للحظات. هذه الثّغرة أيضًا لها تأثير في دفعنا نحو أفكار ومشاعر ليست لنا، ممّا يجعلنا نشعر بأنّها القاعدة، في حين أن أفكارنا ومشاعرنا الحقيقيّة ستكون الاستثناء. عمومًا، تخلق آلية الهروب هذه، الوهم التّالي لدى الفرد: طالما أنّه غير مجبر على التّصرّف بحُكم قوّة خارجية (مثل صاحب العمل أو الحكومة)، فهو يعتقد أنّ ما يتخذه من قرارات هي في الحقيقة قراراته هو. على الرّغم من أنّ عددًا كبيرًا منها مشروط (بوسائل الإعلام –سواء كانت اجتماعيّة أو تقليديّة- مثلا)، لكن تماهي الفرد مع المتجمع يعزّز رضاه. وفي نهاية المطاف فإنّ إخفاء هوّيته، من خلال التّصرف الآلي، أمر ضار: وهكذا، سوف يغرق البشر أكثر في حالة الوحدة والقلق؛ والنّتيجة حتمًا أن ستتبعه فترات من الاستجواب القويّ، مما سيغرقه في خوف لا يمكن الخروج منه. وهذا مثال توضيحيّ اقترحه إريك فروم: لقد علَّمْنا الفرد أن يكون ناجحًا، وغنيًّا، وأن يغيّر سيّارة كلّ سنة وغيرها، ولكن عندما تتوقّف دوّامة الرّوتين اليوميّ للحظات، فإنّها تقدّم لعقله أسئلة مثل: “إذا كانت لديّ هذه الوظيفة الجديدة، وإذا كانت لديّ أفضل سيّارة، وإذا كان بإمكاني تحمل كلفة هذه الرّحلة…وماذا بعد؟ ما الهدف من كلّ هذا؟ هل أنا حقًّا من يريد هذه الأشياء كلّها؟ ألست أسعى وراء هدف يفترض أن يسعدني ويختفي بمجرّد أن أصل إليه؟”. ناهيك على أنّ هذا الكمّ من الأسئلة يمكن أن يجعل المرء يغرق أكثر. وبشكل خاصّ، يستخدم إريك فروم هذه الصيغة المستساغة كتداعيات على: الإنسان الحديث “الجاهز لأن يتحمّل مخاطرة كبيرة عندما يحاول تحقيق الأهداف التي من المفترض أن تكون “له”، لكنّه خائف بشدّة من المخاطرة والمسؤوليّة لتحديد أهدافه”.

في مواجهة هذه الصّورة الحزينة، التي تعيدنا دائمًا إلى حالة الوحدة هذه، يصف لنا إريك فروم -لجميل الحظّ- التّرياق. فأوّلًا هناك “عمل عفويّ وإبداعيّ” ينطلق من القبول الكامل لشخصيّة الفرد. والمقصود أنّ النّموذج الأصليّ للفرد الذي يقوم بهذا العمل هو الفنّان، وستكون هذه هي الطّريقة للتّغلّب على رعب الوحدة دون التّضحيّة بنزاهة الفردانيّة. ثانيًّا، يجب أن نوطّد العلاقات مع الآخرين ومع الطّبيعة، بمعنى الرّابط الاجتماعيّ الذي ينجح في تدفئة المنزل في أمسيات الشّتاء، تلك الأمسيات عندما نستمتع بتناول وجبة في مجموعة، حيث يتمّ تبادل الكلمات وتناول المشروبات. إنّها اللّحظات التي تبقينا مستيقظين، والتي لا تجعلنا نعوز عندما نشاركها. وبحسب ما قالته النّائبة “كاثرين دوريون” أمام الجمعيّة الوطنيّة: تُظهر العديد من الدّراسات أنّ الشّعور بالوحدة يضرّ بالصّحّة أكثر من قلّة النّشاط البدنيّ أو إدمان الكحول أو السّمنة. وبالتّالي يمكن للمرء أن يعتقد أن العجز العام النّاجم عن الأزمة الحاليّة، ليس سوى غيض من فيض. وترتّب عن ذلك، أن أصبحت اللّامبالاة الجماعيّة لمسألة الوحدة، مقلقة بشكل خاصّ في أوقات الأزمات الصّحّيّة. والاهتمام بالوحدة يكاد لا يكون مربحًا من حيث انتخاب أتباع رأس المال، ولكنّه كان سيجعل من الممكن الحفاظ على مداخننا تحسّبًا للبرد الذي تجلبه مثل هذه الفترات. بالطبع، إنّ الوقاية خير من العلاج، ولكن المشكلة تكمن في أنّه لا يمكنك الشّفاء أثناء الجائحة، ما فشلت في منعه قبلها.

ومع ذلك، فإنّ تعاليم إريك فروم تصف لنا طرقًا لتهدئة مشاعرنا في الوحدة، دون الوقوع في ثغرات. فإذا كان الفنّانون نموذجًا للعمل العفويّ والإبداعيّ، فإنّ الاتّصال بالعالَم يمرّ عبر الفنّ. بهذا المعنى، فالأدب والموسيقى هما الوسيلتان الأساسيّتان للتّواصل مع العالم. أعني أنّ الاستراحة الحاليّة هي فرصة لإعادة اكتشاف الكلاسيكيّات واستطلاع المعاصر؛ وليس غريبًا علينا أن نصبح أكثر تجذّرًا في العالَم، بواسطة قراءة كتاب أو الاستماع إلى الموسيقى، مما كان عليه الحال عندما كان مسموحًا لنا بالالتقاء والتّجوّل واستكشاف ما يحيط بنا مشكِّلا، بطريقتهم الخاصّة، لقاحًا قويًّا.

في حين، وصف إريك فروم في كتبه الطّريقة الخاطئة للتّعامل مع القلق والوحدة، وهي قبول الخضوع الذي وصلنا إليه عن طريق الإفراط في الإنتاج وما جرّاء ذلك كلّه، إنّه خيار قاتل للحرّيّة. بينما في نهاية الوباء، سوف يدافع أتباع السّوق، بأيّ ثمن، إلى العودة لمنطق “المنتج الاستهلاكيّ”، وكم أتمنى في أن نصوغ معارضتنا الجماعيّة كردّ فعل، سيذكّرنا أنّنا كنا في أزمة قبل هذه الأزمة: في أزمة البيئة، في أزمة السّكن، في أزمة احتكار الثّروة الماليّة أو الطّبيعيّة…

وفي الختام وباختصار، إذا كان هذا الوباء قد علّمنا شيئًا ما، فهو أنّه لا الشّبكات الاجتماعيّة ولا الاستهلاك، هما اللّذان سيخرجاننا من إحدى هذه الأزمات؛ بل سيكون لها تأثير معاكس. إنّ الاعتراض الذي يدعونا إليه إريك فروم بشكل غير مباشر، هو الدّواء الشّافي الذي يربطنا بالعالَم مرّة أخرى، إنّه الاعتراض الثّقافيّ الذي من المفترض أن يكون وسيلة لإخراجنا من ورطتنا والآن، بينما تستمرّ قوى السّوق، ونتائجهما في تثبيتنا هناك. فبدون الاجتماع والالتفاف معا، يجب أن نعرف أنّه من المحتمل جدًّا أن يكون من الصّعب تدفئة الموقد هذا الشّتاء؛ فدعونا نحاول تنوير بعضنا البعض، من خلال إعادة اكتشاف فرديّتنا ورفضنا برودة الإنسان الآلي.

اقرأ ايضًا: أكثر من الحب وأكثر من الخمرة


  • مارك أنطوان بيكوت: دكتور في فلسفة القانون جامعة أوتاوا
المصدر
ledevoir

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى