عام

الإيمان والحقيقة: الثنائية المفتعلة

  • أوستن إل هيوز*
  • ترجمة: أحمد الجرادي
  • تحرير: عبد الرحمن الجندل

تحتم على عالم الأحياء التطوري “جيري كوين” الدخول في مواجهة جدلية مع زملائه من نفس المجال، ووفقًا لبيانات الاستطلاع، فالكثير من الأمريكيين يحملون أفكارًا تفوح منها رائحة الإيمان بنظرية الخلق.

حتى نشر كتابه (لماذا التطور صحيح) عام 2009م، والذي لاحظ بفخر أنه شق طريقه لفترة وجيزة، على قائمة أكثر الكتب مبيعًا في نيويورك تايمز، إلا أنه فشل في تغيير أرقام الاستطلاع بشكل ملحوظ، فبدلًا من التفكير في احتمال أن الصعوبة تكمن في فشل علماء الأحياء التطورية في تقديم حجة مقنعة لنظرياتهم، أو مع الحالة التي يرثى لها عمومًا للنظام التعليمي الأمريكي، فإن “كوين” مقتنعٌ بأنه حدد مصدر المشكلة؛ إنه الدين ببساطة! لذا فإن أحدث كتاب “لكوين”: (الإيمان مقابل الحقيقة) يهدف إلى القضاء على الدين؛ وبالتالي يصبح العالم آمنًا، ومتقبلا للنظرية التطورية، وأشكال التفكير “الصحيح” الأخرى!

قد يعتقد المرء أنه إذا كان هدف “كوين” هو: زيادة قبول الأفكار التطورية؛ فإنه سيؤكد توافقها مع الدين، وبالتالي طمأنة الأمريكيين المتدينين، بأن التطور لا يشكل أي تهديد لأنظمة معتقداته، ومع ذلك، فإن “كوين” الأستاذ في جامعة شيكاغو، ليس لديه سوى ازدراء لأيّ تكيف بين الدين والعلم من هذا القبيل، وفي الواقع، هو يقرر أنه ليس فقط أن بعض الأفكار الدينية لا تتوافق مع النماذج السائدة في علم الأحياء والجيولوجيا، مثل: “نظرية خلق الأرض الفتية”، بل إن الدين كله لا يتوافق مع كل العلوم! هذا ادعاء غير مألوف إلى حد ما، والحجج التي طورها أساسًا كوين لدعمه، غير مألوفة، وقد طورها فقط لخداعهم.

يستشهد “كوين” بكتابات “الملحدين الجدد” مثل: “ريتشارد دوكينز” و”سام هاريس”، والكثير من كتاباته مُستَلهم من كتاباتهم، المستمدة بالفعل هي أيضًا من مصادر أخرى، ويشارك كوين أيضًا الملحدين الجدد، في جهلٍ -شبه كامل- بثلاثة تخصصات قد تبدو ضرورية لأي مناقشة جادة للموضوع الذي حدده لنفسه، وهي: الدين والتاريخ والفلسفة.

وعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بالتاريخ المفترض للصراع بين العلم والدين، قصر “كوين” اقتباساته على كتابين من أواخر القرن التاسع عشر، لا يأخذهما أي مؤرخ للأفكار على محمل الجد اليوم، متجنبًا تمامًا الأدبيات العلمية الغنية، حول دور الأفكار الفلسفية والدينية في نشأة ما نسميه الآن “العلم”!

يرفض “كوين” مفهوم مدرسة “جيولوجيا الطوفان” في كتابات الخلقويين، لكنه فشل في إدراك أن منهجه الخاص في التاريخ غير علمي تمامًا، مثل غزو الخلقويين للهيدرولوجيا والجغرافيا الحيوية، وتتمثل استراتيجية “كوين” الأساسية، في المقارنة بين كيانين متجانسين يسميهما: “الدين” و “العلم”، لكنه يبني كل واحد من تلك الكيانات بطرق متناقضة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

يتألف “الدين” بالنسبة “لكوين” من كل ما قاله أي شخص ينتمي إلى أي دين مهما كان، بحيث يجمع بين العقيدة الرسمية والتكهنات اللاهوتية والمعتقدات الشعبية، وإن وضع كل هذا تحت مظلة واحدة يمنحه القدرة على تشويه سمعة “الدين” بشكل عام من خلال الاستشهاد ببعض المعتقدات الدخيلة، والممارسات الأكثر غرابة.

 كان كل من: جوزيف سميث، وتوما الاكويني، وماري بيكر إيدي، والام تيريزا، شخصيات دينية؛ لذلك هم جميعًا كشيءٍ واحد ويعاملون نفس المعاملة.

إن طريقة “كوين” لوصف العلم مختلفة تمامًا؛ فهيكلته الخاصة للعلم، تقوم على أساس تقديم أفضل ما في العلم، فقط تلك النظريات المدعومة بقوة بالأدلة والتي صمدت في وجه المحاولات القاسية للدحض العلمي، على الرغم من أنه يتحدث بأسلوب جذاب عن النقد المستمر، وفحص الفرضيات التي تعد شرطًا أساسيًا للتقدم في العلوم، إلا أنه يتجاهل الإشارة إلى أن هذه العملية، يمكن أن تكون فوضوية في الممارسة العملية، وبصرف النظر عن حالات التلفيق الصريحة، فإن الأدبيات العلمية السائدة، مليئة بالاستدلالات الخاطئة والنظريات التي لا يمكن اختبارها، لدرجة أنها تستحق تمامًا تصنيفها على أنها “علم زائف”.

أعلم من خلال التجربة المؤلمة، أن الاختلاط المستمر بالمقالات عديمة الفائدة مع العلم الراسخ، هو سمة من سمات مجالي الخاص -والذي بطبيعة الحال مثل كوين يعني الاحتكاك بعلم الأحياء التطوري-، وأنا أذكر هذا ليس لمد يد العون والمساعدة للخلقويين، ولكن لتسليط الضوء على حقيقة يعرفها كل عالم ممارس؛ فليس لدي سببٌ للاعتقاد بأن مسعاي في المجال العلمي، يختلف عن أي مجال آخر في هذا الصدد، فالتمييز بين الغث والسمين هو صراع يومي في كل العلوم! وهي عملية ليست سهلة أبدًا، ونتائجها ليست مضمونة بأي حال، فنحن نعلم -جميعًا- نظريات سخيفة -كالداروينية الاجتماعية، وعلم تحسين النسل، والماركسية، والفرويدية، والليسينكو، وما إلى ذلك- تسترت في الماضي غير البعيد بعباءة العلم، وسيكون من السذاجة افتراض أن نفس الشيء لن يتكرر مجددًا! الكثير مما يسمى بـ “علم النفس التطوري” -الذي أشاد به “كوين” باعتباره تطورًا جديدًا واعدًا- هو علم زائف مثل أسلافه الداروينية الاجتماعية، وفي الواقع، سيكون من الصعب على المرء أن يجد سببًا للقول إن الكثير منه “قائم على الحقائق” أكثر من أفكار ماري بيكر إيدي[1].

كما هو الحال مع الملحدين الجدد، فإن محاولة “كوين” في المقابلة بين الإيمان والحقيقة، تقع تحت العنوان العام للفلسفة؛ لكن تدريبه الفلسفي -على ما يبدو- غير مناسب لهذه المهمة، لأنه فشل في تطوير مصطلحات متسقة، وفي بناء الحجج بأي درجة كانت من الدقة؛ فعلى سبيل المثال، يقول بأن “الحقيقة: هي ببساطة ما هي هي”، وهي عبارة -إذا لم تكن حشوًا- يبدو أنها تمثل نوعًا من التلمس تجاه التعليم المدرسي (adaequatio mentis ad rem)[2] وإقرارًا بوجود شيء مثل الموضوعية الحقيقة[3]؛ ولكن في صفحة تالية لهذه تمامًا، يذكر “كوين” أن: “الاتفاق الواسع النطاق بين العلماء، حول ما هو حقيقي، لا يضمن أن هذه الحقيقة لن تتغير أبدًا.” ما يحاول التعبير عنه هو شيء يتعلق بالطبيعة المؤقتة للنظريات العلمية، والتي يتفق معها تقريبًا جميع العلماء وفلاسفة العلم، لكن عدم قدرة “كوين” على صياغة أفكاره بشكل واضح ومميز؛ يجعل الأمر يبدو كما لو أنه يكتب هراءً محضًا.

وفقًا لملاحظات “كوين”، يحاول بعض أصحاب التكييف بين العلم والدين، التستر على التناقضات الواضحة بين الروايات الدينية والعلمية للطبيعة، ويكون ذلك في الغالب عن طريق إنكار أن الخطاب الديني يتعلق حقًا بأي شيء على الإطلاق.

 ليس “لكوين” نظرة مشابهة لهذا؛ وبدلًا من ذلك، فهو يدرك أن التصريحات الدينية تدعي الحقيقة، مما يُظهر احترامًا أكبر للتفكير الديني، أكثر من أولئك الذين قد يختزلون الدين في أنه مجرد أرجوزة غنائية عاطفية، لكن “كوين” يستمر في التأكيد على أن التصريحات الدينية تدعي أنها تخبرنا بشيء حقيقي عن الواقع، فهي إذن فرضيات علمية وتستحق أن تُعامل مثل أي فرضيات علمية أخرى.

 يوازن “كوين” مرارًا وتكرارًا بين تقديم ادعاءات الحقيقة، وبين ذكر “الفرضيات التجريبية” أو “الادعاءات التجريبية”، وهي عبارة عن إغراء بلاغي احتيالي يعتبر أمرًا محوريًا في نقده للدين.

يمكن استخلاص ما يقصده كوين بـ “الادعاء التجريبي” مما يقوله حول المنهج العلمي؛ ففيما يتعلق بفلسفة العلم، فإن “كوين” هو من أتباع كارل بوبر؛ إذ يعتبر قابلية التزييف/الدحض، سمة مميزة للفرضية التجريبية -بالاتفاق مع معظم العلماء الممارسين- أي أن محاولة دحض الفرضيات، هو نشاط عادي للعلماء التجريبيين، ومع ذلك، فعلى الرغم من أن “كوين” يدعي أن التصريحات الدينية هي فرضيات تجريبية، إلا أنه يحمل الدين على معيار مختلف تمامًا، فبالرغم من أن كوين يتبع مذهب بوبر في قابلية الدحض عندما يتعلق الأمر بالعلوم، إلا أنه يتبع منهج قابلية التحقق عندما يتعلق الأمر بالدين!

يقدم كوين في كتابه نقلاً عن الشاعر شيلي: “الله فرضية، وعلى هذا النحو، فهو بحاجة إلى دليل: ومن ثم فعبء البرهان/الإثبات، يقع على عاتق المؤمن”، وطوال كتابه، يرفض كوين “الفرضيات” الدينية، من وجود الله، إلى قيامة يسوع، والمعجزات وغيرها، لأنه -حسب زعمه- لا يوجد دليل يثبتها.

لكن كشخص بوبري، لا يمكن الدفاع عن فرضية علمية إذا طلبنا إثباتها من أجل قبولها؛ أفضل ما يمكننا قوله عن أي فرضية تجريبية هو أننا نقبلها مؤقتًا طالما لم يكن لدينا دليل لدحضها، وإذا كانت المعتقدات الدينية هي بالفعل فرضيات تجريبية، فلماذا لا تستفيد من نفس المعاملة؟ بالتأكيد لا يمكن لأي شخص عاقل أن يدعي أن لدينا أدلة كافية لدحض حتى حدوث المعجزات، ناهيك عن وجود الله.

في الحقيقة، يمكننا أن نرى بسهولة أن “فرضية الله” لا تشبه الفرضية العلمية القياسية إذا ما وضعنا في عين الاعتبار نوع الأدلة التي قد تؤدي إلى دحضها، الحيلة المفضلة للملحدين القدامى والجدد، -بما في ذلك كوين- هي الادعاء بأن كوننا ليس من نوع الكون الذي نتنبأ به إذا كان الله موجودًا؛ فعلى سبيل المثال، قد “يفترضون” أنه إذا كان الله موجودًا، فستقل المعاناة والآلام في الكون، وبالتالي فإن حقيقة المعاناة هي دليل ضد وجود الله![4] لكن هذا النوع من الحجة، يخطئ تمامًا مغزى “فرضية الله”؛ حيث أن “فرضية الله” لا تنص على أن الكون سيتخذ هذا الشكل أو ذاك إذا لم يكن الله موجودًا، ولكن إذا لم يكن الله موجودًا، فلن يكون الكون كذلك، بل إن الدليل الوحيد الذي يمكن اعتباره دحضاً لـ “فرضية الله” هو: إذا لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق! وفي هذه الحالة لن يكون هناك من يصوغ هذه الفرضية، أو يلاحظ أنه قد تم دحضها!

من خلال المساواة بين “ادعاءات الحقيقة” و “الادعاءات التجريبية”، ينكر “كوين” وجود الافتراضات التي تدعي الحقيقة ولكنها ليست قابلة للاختبار تجريبيًا، ومع ذلك، فمن المفارقات في كتابه، أنه يقدم حججًا تعتمد ضمنيًا على مثل هذه الافتراضات، كتصريحاته حول الأخلاق.

في الفصل الأخير “لماذا هذا مهم؟”، يصف العديد من العواقب العملية للمعتقد الديني، الذي يعتقد أنها خاطئة أخلاقيًا أو غير مرغوب فيها اجتماعيًا، بما في ذلك موت الأطفال الذين ينتمي والداهم إلى فرق أو طوائف تنكر الحاجة إلى الرعاية الطبية، سيتفق معظم القراء بالتأكيد مع كوين على أن مثل هذه الوفيات خطأ فادح؛ ولكن ليس على أسس تجريبية![5]

إن عبارة “إنكار الحاجة إلى رعاية طبية لطفل، أمر خاطئ” تقدم ادعاءً حقيقيًا قويًا، ولكنه ليس ادعاءً تجريبيًا، والأكثر أهمية في حجة كوين هو فئة أخرى من العبارات التي تدعي الحقيقة، ولكنها ليست قابلة للاختبار تجريبيًا: مثل تصريحاته حول الميتافيزيقا.

يؤمن كوين بوضوح بمصداقية المنهج العلمي، ولكن مهما كان السبب الذي يقدمه المرء لاستنتاج أن الطريقة العلمية موثوقة، فإنه يقع حتمًا خارج العلم نفسه، أي في مجال الميتافيزيقا!

يؤكد كوين على أن الشك “مستوطن – وضروري – في العلم.” لكن إذا أطلقنا العنان لشكوكنا، ألن ينتهي بنا الأمر في النهاية إلى الشك حتى في العلم؟ عند تأسيس الثورة العلمية الحديثة، واجه رينيه ديكارت هذا السؤال بالذات، وأجاب عليه بالكوجيتو الشهير -الذي استعاره من القديس أوغسطين-[6]، حتى لو كان كل ما أفعله هو الشك، ما زلت لا أشك في أنني موجود؛ فبدءًا من المعرفة المؤكدة لوجوده، تابع ديكارت الجدل من أجل وجود إله كامل المعرفة، كامل القدرة، وخَيّر، لقد كان العلم مبنيًا على أساس وجود الله[7]، وبدوره، أسس ديكارت موثوقية العلم. وبدون معرفة صلاحية الله، لن نتأكد أبدًا من أن تصوراتنا عن الطبيعة ليست من عمل شيطان خبيث لخداعنا.

على الرغم من أن ديكارت كان كاثوليكيًا متدينًا، إلا أنه لم ينظر إلى الحجة المذكورة أعلاه على أنها دينية في حد ذاتها؛ أو بالأحرى، اعتبرها نتيجة للتفكير الميتافيزيقي المتاحة لأتباع أي دين، أو للذين لا يتبعون الأديان.

إن وجهة نظري هنا ليست إقناع أي شخص بصحة تفكير ديكارت، ولكن فقط لإظهار أن مؤسسي العلم الحديث أدركوا أن الثقة بالعلم، يجب أن ترتكز على شيء خارج العلم نفسه، وكما عبر عن ذلك ديكارت، فإن معرفتنا مثل الشجرة، فروعها هي العلوم الطبيعية والأخلاق، ولكن جذورها الميتافيزيقيا.

لا يشرح “كوين” لنفسه سبب اعتقاده أن الطريقة العلمية يمكن أن تصل إلى الحقيقة، على الرغم من أنني أعتقد أنه يمكنني الاطمئنان إلى القول بأن إجابته على السؤال، ستكون مختلفة إلى حد ما عن إجابة ديكارت، إذا كنت ستسأله، فأنا أتخيل أن كوين قد يشير إلى النجاحات العملية للعلم، طائراتنا -في الغالب- لا تسقط من السماء؛ تقتل المضادات الحيوية -في الغالب- الميكروبات المستهدفة..؛ لكن حتى عبارة “يمكننا الوثوق بالعلم لأنه يؤدي إلى حلول عملية تعمل بشكل عام” ليست في حد ذاتها بيانًا علميًا، لأنها لا تخضع لقابلية الدحض العلمي!

 أعلن “كوين” كذلك عن التزامه بالمذهب الطبيعي الفلسفي والحتمية، على الرغم من أن تعريفه لـ “المذهب الطبيعي” بعيد كل البعد عن الوضوح، ومن الواضح أنه يعني شيئًا مثل ما يُقصد به عادةً “المادية”، لكنه اختار تجنب المصطلح الأخير، لأنه يجادل في أننا قد نكتشف يومًا ما في الكون بعض “الأشياء” التي ليست مادة ولا طاقة كما نفهمها حاليًا[8]؛ ومع ذلك، لا مكان يعترف فيه “كوين” بأن كلًا من المذهب الطبيعي، والحتمية، هما التزامان ميتافيزيقيان لا يوجد دليل عليهما، ولا يمكن اختبارهما تجريبيًا، ينتقد “كوين” الدين لفعله الشيء ذاته الذي يفعله بنفسه، التشبث بنظام معتقد في غياب أي دليل على صحته.

أحد الأقسام المثيرة للفضول في كتاب “كوين” هو القسم الذي يجادل بأن مصطلح “العلموية” معرّف بشكل سيئ ويجب التخلي عنه، ويبدو أنه يفكر في “العلموية” كمصطلح ازدرائي بحت، من الواضح أنه غير مدرك أن المصطلح قد صاغه في الأصل أحد دعاة العلموية “إرنست رينان” كعلامة فخر.

يمكن تعريف العلموية على أنها: الاعتقاد بأن العلوم الطبيعية تشكل الطريقة الوحيدة المتاحة لنا للوصول إلى الحقيقة، وهو ادعاء يقدمه الكيميائي: “بيتر أتكينز”، من بين آخرين، دون أن يضرب حساباً للاعتذار[9]، وبالتأكيد، بما أن الاعتقاد الأساسي للعلموية ليس بحد ذاته جزءًا من العلم، فإن العلموية غير متماسكة منطقيًا! لكن من الصعب أن نرى سبب مقاومة “كوين” لهذا المصطلح، لأنه من الواضح أنه يتشارك في المفهوم الجوهري للعلموية؛ ففي الحقيقة، العلموية هي ببساطة اسم آخر للنظرة العالمية المتمثلة في الإيمان مقابل الحقيقة.

 خصص “كوين” جزءًا كبيرًا من كتابه، للسخرية من المعتقدات الدينية؛ ليعطي المرء انطباعًا بأنه قضى الكثير من الوقت في مخاطبة الجماهير الذين يضمن لهم مجرد ذكر الثالوث أو الولادة العذراء سيثير ضحكهم، في الغالب إن سخرياته تفشل في إيصال المقصود على الصفحة المطبوعة، بالمقارنة مع الطرائف الكلاسيكية لمؤلفين مثل بايل وفولتير، وفشل كوين ليس فقط في افتقاره التام لخفة الدم ولكن في عدم اهتمامه بالعقائد الدينية التي يسخر منها، وما يجعل سخرية “بايل” و”فولتير” قابلة للقراءة حتى اليوم، هو أن هؤلاء المؤلفين بذلوا جهدًا بضمير تام لفهم معتقدات خصومهم.

تم تخصيص فصل طويل بعنوان: “الإيمان يضرب من جديد”، لردود كوين على انتقادات مختلفة للإلحاد الجديد تم انتقاؤها من كتابات اللاهوتيين المسيحيين والفلاسفة والشخصيات العلمية، مثل “فرانسيس كولينز”، وهذا الفصل يجعل القراءة مملة لأنها تفتقر إلى بنية متماسكة، وفيه كثيرًا ما يتناقض “كوين” مع نفسه؛ فعلى سبيل المثال، يعترف بأن الإيمان الديني ربما كان عاملًا محفزًا مهمًا للعلماء المعاصرين الأوائل مثل نيوتن، لكنه يعارض بأن المذهب الطبيعي الفلسفي، كان بمثابة مصدر إلهام لعلماء أكثر حداثة، مثل “واتسون وكريك” وهذا عدل بما فيه الكفاية، ولكن إذا كان هذا صحيحًا، ألا يعني ذلك أن النشاط العلمي مستقل فعليًا عن المعتقد الديني؟ بحيث يمكن أن يكون العلم مستوحى من منظور عالمي أو غير ديني؟ ألا يعني ذلك أن “أصحاب التكيف بين الدين والعلم” -الذين كرس “كوين” الكثير من طاقته لتوبيخهم- على حق في النهاية؟

يُصدّر “كوين” التحدي التالي لقرّائه: “على مر السنين، تحدّيت الناس مرارًا وتكرارًا لإعطائي حقيقة واحدة مؤكدة عن الواقع جاءت من الكتاب المقدس أو الوحي وحده، ثم تم تأكيدها لاحقًا فقط من خلال العلم أو الملاحظة التجريبية.”

أستطيع أن أفكر في مثال واحد، من أعمال القديس “توما الأكويني” -الذي تشوه صورة “كوين” كتاباته بشكل سيء من مكان لآخر في كتابه-. استنادًا إلى تعريضه لأرسطو والعرب المعبرين عن أرسطو، جادل “الأكويني” بأنه من المستحيل أن يعرف بالعقل ما إذا كان للكون بداية أم لا؛ لكنه جادل بأن المسيحيين يمكن أن يستنتجوا أن الكون له بداية على أساس الوحي في سفر التكوين.

 في بدايات فترة العلم الحديث، كان الافتراض القائل بأن الكون أبدي، مقبولًا بهدوء من قبل جميع الفيزيائيين وعلماء الفلك تقريبًا، إلى أن اقترح الكاهن والفيزيائي الكاثوليكي البلجيكي “جورج لوميتر” نظرية الانفجار العظيم في عشرينيات القرن الماضي، لم يذكر “كوين” “لومتر”، على الرغم من أنه يذكر البيانات التي أكدت أخيرًا الانفجار العظيم في الستينيات؛ ولكن، إذا كانت نظرية الانفجار العظيم صحيحة، فإن كوننا بالفعل له بداية، كما جادل الأكويني على أساس الوحي.

 يقرن كوين التحدي السابق أعلاه مع تحدٍ سابق من الكاتب الملحد الجديد، كريستوفر هيتشنز: “سمِّني بيانًا أخلاقيًا، أو عملًا قام به مؤمن لا يمكن أن يقوم به غير مؤمن أو يفعله”. أوافق على أنه لا يوجد سبب مسبق لعدم تمكن الملحدين من أداء أنواع الأعمال البطولية للتضحية بالنفس نيابة عن الفقراء والمهمشين التي اشتهرَ بها القديس “فنسنت دي بول” أو القديس “داميان أوف مولوكاي” إن الملحدين فقط هم أندر من يفعل ذلك لديهم القليل لمقارنته بحياة القديسين الذين هم كمستودع لأمثلة العظمة الأخلاقية.

على الرغم من ازدرائهم الذاتي تجاه الإخفاقات البشرية للغاية للمؤمنين الدينيين، فإن الأخلاق تظل كعب أخيل[10] لمدرسة الملحدين الجديدة، بما في ذلك “كوين”؛ إذ لا يكتفي هؤلاء الكتاب أبدًا بمجرد انتقاد الأفعال الشريرة التي قام بها المؤمنون، لكن يبدو أنهم مجبرون على انتقاد الخير أيضًا، وفي حالة “دوكينز”، لا يمكنه مقاومة شجب المعارضة المسيحية الشديد للإجهاض، والتي من المؤكد أنها سينظر إليها يومًا ما على أنها إحدى أعظم الاستيقاظات الأخلاقية في كل العصور في نفس المستوى مع الحملة التي يقودها المسيحيون لإلغاء العبودية! وفي حالة “كوين”، لن أتفاجأ عندما أعلم أن بعض القراء، يتابعون حججه بطريقة عاطفية حتى القسم (قريب جدًا من النهاية)، حيث يخضع لإغراء وضع حشو غير مبرر لما يسميه: “الموت بالمساعدة الطبية” للمرضى الميؤوس من شفائهم، والذي هو بطبيعة الحال لا يميزه عن القتل الرحيم، وفي الواقع، يشير ضمنيًا إلى أننا يجب أن نعالج المرضى الميؤوس من شفائهم تمامًا مثل الحيوانات التي “تعطى أدوية لتموت بدون ألم”! من الواضح أن إحساسه الأخلاقي ضعيف للغاية لدرجة أنه أخفق في معرفة السبب في أن أي شخص قد يجد ذلك مستقبحًا.

مع خصوم مثل “جيري كوين”، لا يحتاج الدين إلى أي أصدقاء مساندين.

اقرأ ايضًا: الإله والتطور والداروينية


  • أوستن إل. هيوز هو أستاذ العلوم البيولوجية المعروف في كارولينا الجنوبية.

[1] امرأة مؤسسة لجماعة العلم المسيحي. من أمثلة أفكارهم: رفض المساعدة الطبية في الشفاء من الأمراض. [المترجم]

[2] استجابة العقل الصحيحة لما هو حقيقي. [المترجم]

[3] موقف جريء ومثير للجدل إلى حد ما في بعض الأوساط الأكاديمية هذه الأيام، للأسف. [الكاتب]

[4] قفزة في الاستنتاج! [المحرر]

[5] هكذا يتهافت العلمويون حين الحديث عن المعاني وما وراء الأشياء [المحرر]

[6] الباحثة لورانس دوفيلار ترد الفلسفة الديكارتية إلى أصول أوغسطينية، في حين أن هنري غويبه، وجلسون يرون أنها مجرد مقاربات فكرية. للمزيد: الدليل القبلي في فلسفة ديكارت، فؤاد مليت. [المترجم]

[7] الضمان الإلهي [المحرر]

[8] وهذه دعوى ليس عليها دليل تجريبي يثبت ذلك! [المحرر]

[9] لمزيد من المعلومات الأساسية عن العلموية، راجع مقال سابق لي في هذه الصفحات: “حماقة العلمانية،” خريف 2012 [الكاتب]

[10] كعب أخيل هو مصطلح يشير إلى نقطة ضعف مميتة على الرغم من كل القوة التي يمتلكها الشخص، والتي إن أصيبت تؤدي إلى سقوطه بالكامل. [المترجم]

المصدر
thenewatlantis

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى