- دانيال ليويتش
- ترجمة: وفاء محمد عبد الرازق
- تحرير: أحمد بن نصر
إذا ما أردت أن تصبح شخصًا صادقًا، فانزل لأرض الواقع ولا تحاول تسلق هرم ماسلو للحاجات.
النقاط الرئيسية:
- الحاجة لتحقيق الذات -أن تدرك قوتك الكامنة- تتربع على قمة هرم ماسلو للحاجات.
- المفهوم بحد ذاته مبهم ويصعب تحقيقه عند بعض الأشخاص.
- تقبل الواقع هو الطريق الأقوم للصدق عند مارتن هايدجر.
ما هو الصدق؟ الصدق لغةً هو الشفافية وهو الوجه الحسن لعدم النفاق. غالبًا ما يشبهون الصادق بالموسيقي المُلهم فالصادق غالبًا ما يسلك طريقًا غير معتاد، و -في العديد من الأماكن- لتصبح موسيقيًا محترفًا قد تتعرض للسخرية في بادئ الأمر، وربما تتعثر ماليًا بسبب قرارك، لكن في نهاية المطاف أغلب الموسيقيين يكافَأون لصبرهم ولإكمالهم الطريق رغم الصعاب. لذلك فـ”الصدق” هو اختيار سلوك الطريق غير المعتاد. اختيار الموسيقي أن يعمل حتى آخر الليل، وأن يتخذ من الراميون طعامه ومن الأرض فراشه بدلًا من وظيفة سهلة لثماني ساعات بدخل ثابت. يرى الكثيرون أن كلمة الصدق مرادف لتحقيق الذات. فمثلًا الموسيقيون المحترفون يمثلون أفضل فهم لذاتهم، من حيث إن وظيفة الثماني ساعات لا ترضِيهم، بمعنى آخر يعرف الموسيقي نفسه حق المعرفة وعلى هذا الأساس فهو حر، وكذلك الصادق يفعل ما يشاء وقتما يشاء، فتعكس أفعالهم ما يكمن في صدورهم. لذا فالصادقون يتربعون على عرش هرم ماسلو للحاجات.
وهذا ينافي رؤية الفلاسفة للصادقين، فالفيلسوف الوجودي مارتن هايدجر يرى أن فكرة الهروب من الواقع فكرة غير واردة. لكن كالموسيقي، نستطيع أن نوجد كونًا فريدًا لنا يتماشى مع مجتمعاتنا. فلا يصح أن يفعل الموسيقي ما يشاء وقتما يشاء، لكن يمكنه أن يتمرد على قيود مجتمعه ويتكسَّب من فنه، لكن رغم ذلك فهو خاضع للقانون وللآداب العامة بين الناس.
الصدق الدرامي لسيد فيشوس
المغالاة في الصدق قد تتسبب في عواقب وخيمة. وأفضل مثال على ذلك هو العازف والمغني سيد فيشوس؛ الذي قال: “ستدركني المنية في سن الخامسة والعشرين، لكني سأكون عشت حياتي كما أهوى” (وقد توفي بعدها بأربع سنوات).
تحرر سيد مما نسميه نحن “المعايير المجتمعية” السائدة في عصره -وعصرنا، من وجهة نظره-. كان صادقًا، وبذل ما في وسعه لتحقيق ذاته، لكن كل ذلك أتى على حساب حياته، عاش كما يحلو له فأدركته المنية. ومن هنا فالتمرد على المجتمع قد يتسبب في الانتحار الاجتماعي، إن لم يتطور للانتحار الحقيقي.
عند هايدجر، فمن المحال وجود صلة بين تحقيق الذات وبين الصدق. فلكي تحقق ذاتك عليك أن تدخل في منطقة رمادية فالبشر حساسون جدًا للتغيرات الجذرية. ولتحقق ذاتك عليك أن تدرك أن إمكانياتنا جميعًا محدودة الآن وللأبد. لكن أهذا صحيح؟ تخيل مثلًا، رياضي ناجح جدًا. ماذا سيحدث له حين يكبر وتنتهي حياته المهنية؟ هل سيستمر نجاحه؟ التغيير شيء حتمي في الحياة، لذا فمفهوم النجاح أو ما يعرف بتحقيق الذات عرضة للتغيُّر في أي وقت.
عش الواقع: تحقيق الذات أمر محال.
عند هايدجر المحرك الرئيسي للناس هو المعايير المجتمعية، وليس تحقيق الذات. في أمريكا، بناءً على تجربة، معظم الناس يستيقظون للذهاب لوظائفهم من التاسعة صباحًا وحتى الخامسة مساءً ونادرًا ما يحيدون عن نمطهم اليومي. نعرف جيدًا أننا لا يمكننا أن نحيد بالكامل عن قواعد مجتمعاتنا لذا ففكرة التحقيق الكامل للذات غير واردة. صراحةً هذه الفكرة غير ممكنة وغير مرغوبة. لأن أيًا منا لا يرغب أن يكون مصيره مثل سيد فيشوس.
إذا لم نفعل كل ما يحلو لنا، فماذا بقي من الصدق؟ وضع هايدجر إجابة يسيرة جدًا: نحن نرفض أن نواجه الواقع. هذا صحيح: القواعد المجتمعية قد تكون تسلطية وحتمية، ولولاها لكان الطريق الذي تختاره يحيد عن الطرق السائدة. أنا عن نفسي، لرغبت أن أكون موسيقيًا محترفًا، لكنني الآن كاتب. لذا فالخطوة الأولى تجاه الصدق هي أن تبدأ في تقبل واقعك.
بالنسبة لهايدجر عيش الواقع هو سبيلك تجاه الراحة ودافعك لتحديد مستقبلك. تقبلك للواقع هو فرصة ثمينة ينعكس تأثيرها على إمكانياتك الفريدة، فتتيح لك اختيار طريقك المستقبلي. وهذا يأتي على حساب الدروب الأخرى بالطبع. لكن تقبل اختيارك يعينك على المضي قُدُمًا بثبات وإشراق واطمئنان، وإذا ما شاب اختيارك أي إحساس بالقلق أو النكران فإن همتك قد تفتر.
لا تبك على اللبن المسكوب، بل تطلع للمستقبل وعلى ما يمكنك فعله في المستقبل. هذا هو مفهوم “الصدق” عند هايدجر.