- د. هشام بن صالح الذكير
كنت في مجلس أنيس، طرح فيه شيخي[1] سؤالاً على الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”[2].
كان السؤال في فهم المقارنة النبوية لفضائل الأعمال في هذه الأيام مع غيرها، وخلاصته:
هل هذه الأفضلية بين نوعي العمل في العشر وغيرها، أو يشمل ذلك المقارنة مع اختلاف أجناس الأعمال؟
توضيح الإشكال:
(1) هل معنى الحديث أن الصدقة في أيام العشر أفضل من الصدقة في غيرها؟
(2) أو أنَّ الحديث يدل على شمولية المقارنة بين الصدقة (أو غيرها) في أيام العشر، مع جنسٍ آخر كالصيام، والعمرة، والجهاد، في غير أيام العشر؟
ففي المعنى (1): كانت المقارنة بين نوعٍ واحد، وهو الصدقة – كما في المثال -.
أما المعنى (2) فهي تشمل المقارنة بين كافة الأعمال الصالحة مع اختلاف أجناسها من صدقة، وصيام، وصلاة، وحج، وجهاد مع أي عمل صالح آخر في غير العشر.
فعلى المعنى الثاني تكون الصدقة في عشر ذي الحجة أفضل من العمرة في شعبان، وقراءة القرآن في عشر ذي الحجة أفضل من الصيام في شهر محرم، وهكذا.
لا أخفيك – أيها القارئ الكريم -: أنني توقفت قليلاً بعد تلقي الإشكال، وكأني لأول مرة أقرأ الحديث! مع كونه مشهوراً مكروراً، إلا أنَّ السؤال أوقعني في حيرة!
انتهى المجلس، والإشكال يجول في فكري، مما دفعني إلى مراسلة ثلاثين – أو يزيدون – من الأصحاب برسالة (واتس أب) بالإشكال نفسه، وجعلت ديباجة الرسالة بطلب الإجابة حسب المعنى المنقدح في الذهن دون مراجعةٍ لكلام أهل العلم.
وغرضي من ذلك: معرفة المعنى المستقر في أذهان أولئك النخب في معنى الحديث، ومنذ راسلتهم وعيناي تسرق النظر إلى الجوال؛ كأني أنتظر خبراً!
وصلت الإجابات تلو الأخرى، وبعد الفرز وجدتها متفاوتة! بين متردد، وثانٍ مستبعدٍ للمعنى الثاني – تماماً – ومرجح للأول، وثالثٍ مرجحٍ للمعنى الثاني.
حجزت مقعداً على أقرب رحلة، وركبت طائرةً من غير طيَّار، كانت محطتها الأولى الوقوف على متن مُجمَّع للحديث برواياته (ضمن خدمات جامع خادم الحرمين الشريفين للسنة النبوية)، ثم تجوَّلت في كلام شراح الحديث، مُعرِّجاً على روض الفقهاء، وبديع كلام المفسرين، وواحات كتب فضائل الأعمال، لعلي أهتدي إلى نصٍّ صريح في المسألة.
وصلني إشعار من قائد الطائرة بضرورة الهبوط الاضطراري، فآثرتُ تدوين فوائد تلك الرحلة الماتعة، حسب التالي:
أولاً/ إن شمول الحديث لمقارنة العمل الصالح بنفسه مع غير العشر ظاهرة جداً، فالصدقة في العشر أفضل من الصدقة في غيرها، ولا أظنها محل إشكال، ولكن هل معنى الحديث يتسع ليشمل المقارنة بين أجناس الأعمال الصالحة؟ هنا الإشكال.
ثانياً/ أوضح النصوص التي وقفت عليها من كلام أهل العلم في المسألة ما يلي:
النص الأول:
ذكره ابن رجب رحمه الله (ت 795) في شرحه على البخاري بقوله: الحديث نصٌّ ” في أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد “[3]. فالمقارنة هنا ظاهرة أنها بين أجناس الأعمال.
النص الثاني:
ذكر ابن رجب في لطائف المعارف: (( فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام” هل يقتضي تفضيل كل عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته أم لا؟ قيل: الظاهر والله أعلم أن المراد أن العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها فكل عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان فيكون تفضيلا للعمل في كل يوم منه على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره )).
النص الثالث:
قال السندي (ت 1138)[4]: ” ثم المتبادر من هذا الكلام عرفاً أنَّ كل عمل صالحٍ إذا وقع في هذه الأيام فهو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها “.
ففسر الحديث بأنَّ المقارنة بين نوعي العمل، ثم استبعد المقارنة بين أجناس الأعمال، وقال: “حتى إنَّ أدنى الأعمال في هذه الأيام أحب من أعظم الأعمال في غيرها لكان الاستبعاد موجَّهاً. لكن كون ذلك مراداً بعيدٌ لفظاً ومعنى “[5].
ولم أجد نصوصاً أخرى في المسألة حسبما وقفت عليه من كلام أهل العلم، وأرجو من القارئ الكريم أن يزودني بما يقف عليه منها.
- خلاصات وتأملات:
1/ ابن رجب يصرِّح بأنَّ المقارنة في الحديث بين أجناس الأعمال. هذا ما أفهمه من الموضعين المشار إليهما آنفاً.
أما الشيخ السندي في حاشيته على ابن ماجه، فوجَّه معنى الحديث إلى مقارنة العمل الصالح مع نفسه في غير العشر.
2/ ظاهر استشكال الصحابة رضي الله عنهم في آخر الحديث بالجهاد يقوي أنهم فهموا من الحديث المقارنة بين أجناس الأعمال؛ حيث قارنوا أفضيلة الأعمال الصالحة مع جنسٍ معين من الأعمال وهو الجهاد؛ حين قالوا: ((ولا الجهاد في سبيل الله)).
وهذا يعني أنهم استشكلوا مقارنة الجهاد مع غيره من الأعمال الصالحة؛ إذْ كيف يكون العمل الصالح هذه الأيام أفضل من الجهاد مع ما فيه من أفضلية ومشقة؟
فكأنَّ الصحابة استشكلوا تقديم الصدقة أو قراءة القرآن في العشر، على الجهاد في غير العشر. وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم باستثناء حالة مخصوصة من الجهاد هي أفضل من العمل الصالح في العشر، وهي: أن يخرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء.
يقول ابن حجر: “ودلَّ سؤالهم هذا على تقرَّر أفضيلة الجهاد عندهم، وكأنهم استفادوه من قوله – صلى الله عليه وسلم – في جواب من سأله عن عمل يعدل الجهاد. فقال: لا أجده”[6].
أما السندي – رحمه الله – فقد وَّجه سؤال الصحابة عن الجهاد بقوله: ” فلعلَّ وجه استبعادهم أن الجهاد في هذه الأيام يخل بالحج، فينبغي أن يكون في غيرها أحب منها فيها”[7]. وقد كررت عبارته هاتِه، وسألت عنها بعض الصَّحب الأفهام، والميل إلى أن السياق لا يحتملها.
3/ أن المقارنة بين أجناس الأعمال الصالحة كانت معهودةً عند الصحابة؛ سيما مع الجهاد. ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر. قال: ومن يستطيع ذلك؟))[8].
كل النقاط الثلاث السابقة تقوي أن المقارنة في الحديث بين أجناس الأعمال الصالحة في العشر مع غيرها. والله أعلم.
يبقى سؤال يثور في الأذهان: كيف لعبادة مثل (الصدقة) في العشر تفضل على (العمرة) في غير العشر، مع التباين بين العبادتين؟
أَسَرتْني عبارة لابن حجر يقول فيها: إنَّ الفضائل ” لا تدرك بالقياس وإنما هي إحسان من الله تعالى لمن شاء “[9].
ومن إحسانه – سبحانه – وبديع لطفه أن جعل مواسم هي محطات يتزود بها العبد ترتقي به إلى منازل الأبرار متى علم الله صدق نِيَّته، وإخلاص قوله وعمله، فالزمن الفاضل مثل اكسير الأعمال، يحوِّل العمل اليسير إلى كبير؛ لأفضلية الزمن الذي وقع فيه، مما يعني أنَّ ” العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره”[10]، وتفاضل الأعمال لا ينحصر بنوع العمل، بل يكون التفاصل بحسب العامل تارةً، وبالزمان تارة، وبالمكان أخرى، وبالكيفية أيضاً[11]، كل ذلك من الظروف المؤثرة في تفاضل الأعمال.
وتقريباً لهذا المعنى – ولله المثل الأعلى – استحضر معي موقفاً لم تنسه لقريب أو صديق، ربما يكون العمل بسيطاً إلا أنَّ توقيته جعله عندك كبيراً. هذا العمل البسيط مازالت تذكره لصاحبك كل حين؛ ذلك أن عامل الوقت كان له الأثر البالغ في قلبك.
هذه الرحلة انطلقت من ذلك المجلس الأنيس، وإن لمجالس النقاش العلمي لحلاوة، يمضي المرء جزءاً من عمره ظانَّاً استيعاب مسألة معينة، فإذا بإشكال يُطرَح يميز دقة الفهم لديه من عدمه؛ وهذا ما جعل بعض العلماء يفرح بالإشكال ولو لم يعرف جوابه.
يقول القرافي: ” ما لا أعرفه فحظِّي منه معرفة إشكاله، فإن معرفة الإشكال علمٌ في نفسه، وفتحٌ من الله تعالى “[12]. ومضى أهل العلم سلفاً وخلفاً بالحث على المدارسة؛ لما فيها من تلاقح العقول، والتنبيه على المنقول.
- خلاصة الخلاصة:
أهل التجارات لهم عناية بمبدأ (20 – 80)، وهي قاعدة (القليل المؤثر)؛ فكل التجار باختلاف تجاراتهم يطبقون هذا المبدأ؛ إذْ لا يمكن أن يفرط في هذا القليل؛ لأنه سيجلب له (الثمانين)!
هذه الأيام هي من القليل المؤثر في رصيدك. وقلِّب طرفك في السير ستجد أن السلف لهم عناية خاصة بالقليل المؤثر.
(سعيد بن جبير) راوي هذا الحديث عن (ابن عباس) كان إذا دخلت عشر ذي الحجة اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يُقدَر عليه[13]. ومما رُوِي عنه أنه قال: لا تطفئوا مصابيحكم في العشر[14]، وأما عمر بن الخطاب فكان يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، ومن خالفه من الصحابة فلباعث تفريغ أيام العشر للتطوع[15].
أرجوك .. فرِّغ نفسك في العشر المقبلة، فهي من موارد إطالة الأعمار، ولتكن أوقات الصلوات الخمس منصات الانطلاق للعبادات بأنواعها: قراءة قرآن، زيارة مريض، صلة رحم، فأقبل على ربِّك بالطاعات كلها، واستوعب يومك بها، وقد نقل الأصحاب عن ابن تيمية أنه قال: ” استيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلاً ونهاراً أفضل من الجهاد الذي لم تذهب فيه نفسه “[16]، فتلك أيامٌ لا كالأيام.
[1] شيخي المبارك: هشام بن يوسف اليوسف.
[2] أخرجه الترمذي (757)، وأحمد (6154) مع زيادة: ” فأكثروا فيهنَّ من التهليل التكبير والتحميد “.
[3] فتح الباري لابن رجب (9/12).
[4] حاشيته على سنن ابن ماجه (1/526).
[5] حاشيته على سنن ابن ماجه (1/526).
[6] فتح الباري (2/533).
[7] حاشيته على سنن ابن ماجه (1/526).
[8] أخرجه البخاري (2785)، والنسائي (3128).
[9] فتح الباري (6/5).
[10] لطائف المعارف ص(216)، وينظر: (فتح الباري لابن رجب 9/12).
[11] تفسير الفاتحة لابن عثيمين (3/269).
[12] أنوار البروق في أنواء الفروق (1/120).
[13] فتح الباري لابن رجب (9/15).
[14] فتح الباري لابن رجب (9/15).
[15] فتح الباري لابن رجب (9/16).
[16] الإنصاف للمرداوي (4/119).