د. طارق بن طلال عنقاوي*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.
مدخل
فحقّ لنا نحن المسلمون أن تشرئب أعناقنا في مثل هذه النازلة التي تمرّ بالبشرية إلى معين الشريعة، فلدينا اليقين المبرهن بكمالها الربّاني، والعلم المفصّل بمحاسنها في كل باب، وشهودنا لنظامها الشمولي العميق القائم على المبادئ والكليات والمعايير والأحكام التفصيلية شهوداً متكرّراً متقرّراً لا شكّ فيه ولا ارتياب، فلا عجب أنّ إليها المفزع في كلّ نازلة، وفيها شفاء كلّ حيرة، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: ” فليست تنزل بالمسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالي الدليل على سبيل الهدى فيها “.
هدف هذا المقال هو إيقاف القارئ على الرؤية الشرعية حول قضية برزت على سطح التساؤلات مؤخّراً مع تفشّي فيروس كورونا المستجدّ (COVID-19) في بعض البلدان، وبلوغ أعداد الحالات حدًّا فاق استيعاب الموارد الصحيّة لاحتياجات المرضى، فوقعت ممارسات للحدّ من تقديم التنفّس الصناعي لبعض الحالات لتوفير العلاج لغيرها، على أساس تقدّم السن ووجود الإعاقات وغير ذلك من الأمور التي تلقّاها كثير من الناس بالاستنكار، وأعقب ذلك تساؤلات كثيرة عن الرؤية الشرعية حول هذه القضية، وما العمل إذا وصل الحال في بعض بلاد المسلمين لا قدر الله إلى تزاحم كهذا؟
لا شكّ أنّ الغوص في عمق هذه القضية لا يمكن أن يستوعبه مقال، ولذا فقد كتبت بتوفيق الله في رسالتي للدكتوراة ما زاد عن ألف صفحة في قضية القرارات الطبّية التي تتّخذ تجاه العلاجات المساندة للحياة بالامتناع عن تقديمها أو إيقافها بعد البدء فيها لدوافع مختلفة، من اعتقاد عدم جدوى العلاج لأسباب متنوعة أو من باب توزيع الموارد وغير ذلك، ابتدأت فيها بتأصيل المسألة طبّياً من أكثر من ثلاثمئة مرجع طبّي أكثرها من المراجع المنشورة في المجلات العلمية الإنجليزية المحكّمة، ثمّ استقرأت وحلّلت الأصول الشرعية للمسألة من المراجع الشرعية، واستخرجت ضوابط أُعملت في مختلف تطبيقات القضية محاولاً الجواب عن أهم تساؤلاتها باعتبارات متنوّعة، كما تضمّن البحث دراسة لمواقف الأخلاقيات الطبيّة الحديثة حول هذه القضية، وهو ما يجعلني مستوعباً اتجاهات ما يظهر في الغرب في هذا الوقت من ممارسات وأطروحات.
ولكن أرجو أن لا يقلق القارئ، فلن أدخله في أعماق تخصّصية وتأصيل موسّع، وسأحاول بدلاً من ذلك أن أركّز على الأهمّ على مستوى المبادئ والكليّات، والمعايير والتفصيلات المتعلّقة بترتيب الأولويات، على اعتبار أن ذلك أهمّ ما يدور حوله البحث في سياق جدليات الفيروس المتفشّي(COVID-19) عافانا الله والأمة من شروره.
المحور الأوّل: خلاصات في المبادئ التي تمثّل منطلقات شرعية أساسية في هذه الأزمة
رؤية الوجود الصحيحة التي ينطلق منها المسلمون
إنّ المسلم يعتقد اعتقاداً مبرهناً أنّ هذا الوجود من صنع الله تعالى، وأنّه خلقه لغاية عبادته وحده، وأنّ كل شيء هو ملكه، وأنّنا نتصرف في الأشياء بمسؤولية وأمانة انطلاقاً من هذه المبادئ، وأنّ هذه الحياة هي دار ابتلاء ومعبر لدار أخرى وحياة أبدية هي المقصود الأعظم، وواجبنا في هذه الحياة حمل الأمانة بطاعة الله والتسليم لأمره إيماناً بربوبيته وألوهيته، وقد أمر تعالى بالعدل والإحسان، وحرّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرّماً، وفطرهم على حبّ العدل وبغض الظلم، وأنزل الشرع ليقوم الناس بالعدل تأكيداً له وتفصيلاً لمقتضياته.
مبدأ حفظ النفوس وتحريم الاعتداء عليها
حفظ النفس من ضرورات الشريعة الخمس التي ترجع إلى تحصيلها وحمايتها أحكام الشريعة، وبذلك جعلت الشريعة هذا المبدأ مقصوداً لذاته، أي أنّ الحياة مقصود حفظها بغض النظر عن ما يكون في هذه الحياة من منافع أو متاعب، فالحياة نعمة من الله واجبنا تجاهها الشكر والحفظ، ولا يحقّ لأحد إهدارها من عنده، قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} سورة المائدة-32. وهنا تفارق الشريعة النظرة القاصرة التي تجعل المكاسب المادية الدنيوية هي المحدّد لقيمة الحياة ومدى استحقاقها للحفظ أو لا.
هذا المبدأ مهم جداً لقضيّتنا، فهو يمنع أن تهدر حياة بعض الناس بحجّة قلة منافعهم، ويضمن للكبير والصغير والعاقل والمجنون وغيرهم حقّهم في الحفظ الواجب لنفوسهم. قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنَّ دِماءَكُم وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم ” (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ” (أحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني).
مبدأ العدل
ومن تجليات العدل أن يعامل الناس بالتساوي ما لم يوجد ما يوجب التفريق بينهم، وانطلاقاً من ذلك يجب أن نتعامل مع ما يطرح كمرجحات بين الناس في وقت التزاحم بعين فاحصة، ونبحث عن مرجّحات حقيقية معتبرة شرعاً وإلاّ وقعنا في الظلم، كما أنّ من الظلم أن نتسبّب في وفاة شخص بفعل ضار لأجل إنقاذ شخص أو أشخاص آخرين.
مبدأ الانضباط في المعايير
وأعنى به هنا الانطلاق من معايير للترجيح صالحة لإدراك وجودها بوضوح واتّساق، بحيث لا يؤدي استعمالها لتفاوت واضطراب في التطبيق لعدم وضوح معالم وحدود تلك المرجّحات بطبيعتها، وهنا مثلاً يمكننا التمثيل بمعيار السبق أو الاحتياج الأكثر كمعيار مفهوم وقابل للتطبيق بشكل عملي مطّرد.
في المقابل لو أخذنا مثالاً لما لا يتّفق مع هذا المبدأ، كاعتبار السنّ معياراً لأجل زيادة النفع، نجد أنّ هذا الأمر لا ينضبط ويمكن ادعاء وجود نفع أكثر للمجتمع في كبير أو صغير، كما أنّه يعتمد على توقّعات غير قابلة للتحديد والتأكيد، ففيه نسبية وغموض، ومثل هذا لا تعتبره الشريعة في عموم الأحكام كما هو مقرر في أصول الفقه وظاهر لمن خبر تصرفات الشرع في الأحكام، فمن خصائص الشريعة الواقعية واليسر، وهذا يقتضي الاعتماد على المعايير المنضبطة وإلاّ تعذر التطبيق أو وقع فيه الاضطراب والمشقّة، وهنا في مسألتنا سيؤدي ذلك لغياب العدل وفق المبدأ السابق (مبدأ العدل).
مبدأ تكثير المصالح وتقليل المفاسد، واختيار الأعلى في ذلك عند التعارض
وهو مبدأ تقوم عليه عموم الشريعة، وبالتالي تفعيله هنا أمر جوهري، ويتجلّى في الترجيح بين المتساوين من جهة السبق عند التزاحم، بتقديم من يحتاج أكثر مثلاً، جلباً للنفع ورفعاً للضرر بأعلى قدر ممكن.
مبدأ التيسير وأصل براءة الذمّة
من سمات الشريعة العامة أنّها ميسّرة، ومن أوجه يسر الشريعة أنّ الأصل في ذمّة الإنسان براءتها من التكاليف، ولتحقيق التوازن الذي هو أيضاً من خصائص الشريعة تجعل الشريعة مبدأ براءة الذمّة محل موازنة مع مبدأ حفظ النفس، فتوجب على الإنسان من وسائل حفظ النفس ما تظهر قوة نفعه، ولا توجب عليه الأوهام والظنون الضعيفة حتّى لا تكثر عيه الواجبات ويضطرب فيها، وهو ما يتّفق مع مبدأ انضباط المعايير السابق.
ومن هنا نجد أن للفقهاء مواقف وتفصيلات في تحديد مساحة العلاج الواجب وفقاً للجمع والموازنة بين المبدأين، كتقرير بعضهم أنّ الأصل في التداوي -والمقصود به هنا ما لا ينضبط نفعه في الأصل- عدم الوجوب، وفي المقابل أوجبوا معالجات أخرى نفعها معتاد وموثوق مثل بعض صور إيقاف النزيف وفكّ الاختناق بإساغة اللقمة، ومن هنا يمكن أن يستفاد من هذا التفصيل وغيره مما جاء عنهم في صور دفع الهلاك المتعدّدة في تحديد معايير الامتناع عن العلاج غير الواجب لبعض الحالات، لكي يستثمر ذلك لمعالجة مشكلة التزاحم والتعامل مع ما ينشؤ عنها من مفاسد محقّقة، ومن هنا نجد أن المدخل الأكبر في التعامل مع القضية هو الامتناع وليس الإيقاف المتضمّن الاعتداء على نفس محترمة، جمعاً بين مبدأ حفظ النفس وتحريم الاعتداء عليها وبين هذا المبدأ الذي ينتمي لفضاء التيسير الشرعي. وسيأتي في المحور الخامس إيضاح تمييز العلاجات غير الواجبة.
بعد هذه الجولة مع المبادئ والكليّات، لندخل لبيان مجموعة من الضوابط التي تراعى عند التزاحم في مثل هذه الأزمة، وذلك من خلال المحاور التالية.
المحور الثاني: المرجّحات عند وقوع التزاحم في اختيار أولوية تقديم العلاج مع عدم البدء فيه لأيّ من المتزاحمين.
تنبيه: حالةُ البدء في علاج البعض لسبقه ثمّ مزاحمة لاحقون له هي حالةٌ مستقلة تفصيلها في المحور الثالث.
أولاً: بيان المرجّحاتِ المعتبرة إجمالاً
- الأسبقية: فالسبق له تأثير في التقديم عند التزاحم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ ” (متفق عليه). فالقاعدة عند الفقهاء: أنه لا يقدم أحد على أحد إلا بمرجح، وله أسباب، الأول: السبق -كما قال الزركشي-.
- شدّة الاحتياج: فهناك مرضى حاجتهم للتنفس الصناعي والعلاج أشد من غيرهم، وهناك من ضرره أشد من غيره، فيرجح الأحوج، وهذا من باب ترجيح أعلى المصلحتين ودفع أعلى الضررين.
- زيادة رجاء الحياة بسبب العلاج، فيقدّم من حياته أرجى إذا قُدّم له التدخّل. ولا نعني بهذا المرجّح تقديم من حياته أرجى لكونه أصغر سناً، بل التركيز هنا على أثر التدخّل في حفظ الحياة.
- زيادة رجاء البرء، فيقدّم من يرجى شفاؤه أكثر، لا باعتبار أنّ من لا يرجى برؤه لا جدوى من حياته فيمتنع عن علاجه مطلقاً في هذه الأزمات -كما تقرّر كثير من الأخلاقيات الطبّية العلمانية-، بل من باب أنّ هناك من ساواه في السبق والمرجّحات الأخرى ثم زاد عليه في المصلحة برجاء البرء.
فإذا عدمت المرجّحات: يلجأ للقرعة.
ثانياً: ترتيب المرجّحات إذا تعدّدت.
- إذا استووا في السبق، فتستعمل المرجّحات الأخرى. وقد حاولت الاجتهاد في ترتيبها مع شيء من التردّد، فبدا لي أن يقدّم الأحوج على الأقل احتياجاً، فإذا تساووا في الاحتياج رجّح بينهم بزيادة رجاء الحياة ثمّ زيادة رجاء البرء. ووجه تقديم الأحوج هو أنّ درء المفاسد أولى من جلب زيادة المصلحة، ووجه تقديم رجاء الحياة أنّ حفظ الحياة من باب الضرورات والمقاصد الأصلية في الشرع، ويليها ما تشتمل عليه من برء أو مرض، فشفاء المرض بعد حفظ أصل الحياة من باب الحاجيّات والمقاصد التبعيّة لهذا الأصل.
- إذا وقع التفاوت في السبق، فالأصل أن يقدّم الأسبق، لكن إذا زادت حاجة غيره ولم يترتّب عليه ضرر مباشر مساو أو أشد من ضرر الأحوج، فيقدّم الأحوج عليه على رجاء أن يتوفّر له العلاج لاحقاً إذا زاد احتياجه.
ثالثاً: أمور غير معتبرة في الترجيح:
- ليس من المرجحات تقديم الأصغر سنًا، أو صاحب الجاه والمكانة؛ لأنها أمور غير مؤثرة في باب حفظ النفوس، فالنفوس متكافئة في الحرمة، وهذه الأمور قد تعتبر فيما يقصد به النفع العام كالتقديم عند التزاحم في الولايات، لكنها غير معتبرة في هذا الباب لأنّ المقصود فيه حفظ النفوس، والتقديم بغير مرجح معتبر شرعًا يعتبر ظلمًا، وفيه إيغار للصدور.
- كذلك ليس من المعتبر أن يهدر واجب حفظ حياة نفوس محترمة شرعاً لمجرد أنّ لديهم حالات لا يرجى برؤها، مع كون حفظ حياتهم مرجواً، فهذا الاتّجاه الذي برز في بعض البلدان بأنّ تلك الحالات كقاعدة عامة لا تعالج من الأساس في أوقات الأزمات، يستند لرؤية حول الحياة تجعلها قابلة للتقييم بحسب جودتها ومدى وجود آلام أو إعاقات ومتاعب في حال تم حفظ حياتها، أو بحسب ما تشتمل عليه من نفع للمجتمع، بناء على أنّ الحياة لا تكتسب قيمتها من ذاتها بل من جهة وصفها والمعنى الذي فيها بحسب القيم التي يحملها من سيقيّمها، والحكم – كما في بعض الفتاوى حول عدم الإنعاش- بأنّ هذه الحالات لا يجب علاجها لأنّ علاجها غير مجدٍ، هو في حقيقته استناد لهذه الرؤية في تقييم الحياة والحكم بجدوى العلاج، وإن لم يشعر الشخص بذلك.
- ومثل المرجحات غير المعتبرة في النقطة السابقة الترجيح بالأنفع للمجتمع بإطلاق، لكن ثمّة احتمال يحتاج لدراسة وتدقيق، أذكره في نقطة مستقلة، وهي التالية:
رابعاً: أمر يُحتمل أن يُعتبر في الترجيح (تقديم بعض الأطبّاء)
– مما يحتمل الدراسة والتدقيق والاجتهاد: ترجيح تقديم الأطباء ممن يتصدى لإنقاذ الأرواح من هذا الفيروس، فهنا يعود النفع لحفظ النفوس وليس لمنفعة المجتمع بعيداً عن مقصد حفظ النفوس، وتناقص الكوادر الطبية مع شدة تعرضهم للعدوى هو مفسدة تعود على أصل حفظ النفوس بالخلل، فتختل ممارسة الترجيح كلّها أصلا من جهة اختلال أصل حفظ النفس، وهذا يجعل من الممكن في نظري أن ينظر ويجتهد في اعتبار كون الطبيب ممن يباشر حفظ النفوس من هذا الفايروس أولى بالتقديم عند التساوي في المرجّحات الأخرى المعتبرة التي سبق ذكرها.
المحور الثالث: ممارسة إيقاف التنفّس الصناعي عند التزاحم عليه
- لا يجوز إيقاف أجهزة التنفس عن المريض إذا ترجّح أن ذلك يؤدي إلى وفاته، ولا ينظر في هذه الحالة لأي مرجحات بين المريض السابق واللاحق؛ لأن الإيقاف عن السابق هنا هو فعل محرّم يسبب الوفاة، فلا يقدم عليه لأجل شخص ترجى حياته، أو أصغر سنًا من المريض؛ لأن حفظ النفوس من حفظ الضروريات في الشريعة التي يستوي فيها المسلمون كما ذكرنا في الحديث السابق ” الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ “، فلا يحل الاعتداء على نفس لأجل غيرها.
- يجوز إيقاف التنفس الصناعي إذا ترجّح أنه لا يؤدي إلى وفاة المريض، كأن يكون بقاؤه عليه من باب الاحتياط، ولا يتضرر برفعه، فلأجل مزاحمة مرضى هم أحوج إلى الجهاز، يسوغ إيقاف التنفس الصناعي عنه لغلبة السلامة.
- إذا تساوت الاحتمالات، فلا يعرف هل إيقاف الجهاز يؤدي إلى وفاة المريض أو لا؛ ففي هذه الحالة لا يتم إيقاف التنفس الصناعي؛ لأنه لم يؤمن الضرر، لكن إذا كان التزاحم شديدًا فيمكن إعادة النظر في هذه الصورة وإعادة الاجتهاد في حكمها، على اعتبار أن السببية لم تثبت في الإضرار بالمريض، والضرر العام على غيره كبير، فقد يكون فيها رخصة خاصة مع تطوّر الظروف، مع تردّدي في ترجيح ذلك حالياً.
المحور الرابع: الامتناع في حالة بدء العلاج عن مواصلة علاج المريض السابق لأجل المريض اللاحق الأحوج
يجوز الامتناع في حالة بدء العلاج عن مواصلة علاج المريض السابق لأجل المريض اللاحق الذي هو أحوج منه بشروط يجب أن يتحقق جميعها:
- أن يكون العلاج مما يعطى للمريض السابق بشكل متقطّع زمنياً، كجلسات غسيل الكلى، أما إذا كان العلاج مما يعطى بشكل دائم متواصل، -كالتنفس الصناعي في بعض الحالات-، فغير جائز إيقافه كما تقدّم.
- أن لا يؤدي الامتناع عن مواصلة علاج المريض السابق إلى وفاة المريض أو إحداث ضرر شديد له.
- أن تسمح حالة المريض السابق بإعادة العلاج له إذا احتاجه، ويكفي كون حالته تسمح بذلك نظريًا بغض النظر هل يتوقّع عمليا توفّر الجهاز أو لا، لأنّ القصد هنا ألاّ يكون الامتناع هو المؤثّر في وفاته، فنخلّ بحقّه الثابت له بالسبق للجهاز، فالحالات التي لا يمكن نظريًا إعادة العلاج لها بعد الامتناع عنه هي حالات تستحقّ مواصلة المعالجة لسبقها، بخلاف من يستغني ثم يتجدّد له الاحتياج فيكون هو ومن وصل متأخراً بمنزلة واحدة.
المحور الخامس: ممارسة الامتناع الجائز عن العلاج غير الواجب، كوسيلة لتخفيف التزاحم عموماً
لن نتحدّث هنا عن الامتناع عند تزاحم اثنين وصلا معاً، لأنّ هذا من باب الترجيح الذي تناولناه في المحور الأوّل، لكن يمكن للأطباء العمل على الحالات المختلفة التي يمكن أن تزدحم بها أقسام العناية المركّزة، في جانب الامتناع عن العلاجات التي يمكن تصنيفها بأنّها غير واجبة، عندما يسهم ذلك في تخفيف التزاحم تجاوباً مع حالة الضرورة التي سبّبتها هذه الأزمة.
إنّنا هنا نقوم بمحاولة تخفيف التزاحم بالتركيز على معيار الوجوب وعدم الوجوب، بدلاً من ما تطرحه بعض الأخلاقيات العلمانية من التخفيف بالامتناع عن علاج حالات الإعاقة أو الحالات الميؤوس منها ونحو ذلك من الأسماء التي تدور حول خفض قيمة حياة بعض الحالات لما فيها من انخفاض في جودة حياتها أو في ما تنتجه من منافع للمجتمع حسب المنظور المادي.
وهذه المفارقة بيننا وبين هذه الاتجاهات العلمانية تتطلّب المعرفة بمساحة الوجوب ليمكن تحديد العلاج غير الواجب، وسنتطرق لذلك فيما يلي، لكن تبقى إشارة مهمّة هنا قبل الخوض في التفاصيل، وهي أنّ الفكرة التي ننطلق منها هنا هو تحييد تقييم الحياة، واعتبار حفظها واجباً بغض النظر عن جودتها ومنافعها، والاتّجاه عوضاً عن ذلك إلى معايير تنطلق من الموازنة بين مبدأ حفظ النفس وبين مبدأ التيسير وأصل براءة الذمّة -وسبق الحديث عنهما في مقدّمة المقال-، بحيث يكون المنطلق هو مراعاة المبدأين معاً وفق تفاصيل الأحكام الشرعية التي بنيت أساساً على موازنة هذه المنطلقات جميعاً.
بيان حدود مساحة وجوب العلاج لاستخدامها في المحور الرابع
قد خلصت في رسالتي للدكتوراه إلى جملة من الضوابط التي تكشف عن حدود مساحة الوجوب، وبينت أنّ ثمّة مساحات لعدم الوجوب توجد بسبب اشتراط بعض الشروط للوجوب، وقبل أن أذكر مجموعة من أهمها، أنبّه هنا إلى أمرين مهمّين:
الأمر الأوّل: أنّه وقع في تحديد العلاج الواجب إشكال كبير لدى جملة من الفقهاء المعاصرين، حيث اعتمدوا على ما اشتهر عن جمهور الفقهاء بأنّ الأصل في التداوي عدم الوجوب، فحملوا ممارسات العلاجات المساندة للحياة على هذا الحكم، وفي هذا إشكال من جهة عدم تحرير ما ينطبق عليه قول الفقهاء هذا، وهي العلاجات التي لا يوثق بنفعها أو لا ينضبط نفعها أو لا يعلم نفعها كما يعبّر الفقهاء بعبارات متنوّعة تدور حول نفس المعنى، ومن جهة أنّ الفقهاء لهم أحكام في مسائل أخرى ينضبط نفعها فيحكمون فيها بالوجوب كبعض صور وقف النزيف وفك الاختناق وغير ذلك، ومن جهة أنّ العلاجات المساندة للحياة ليست على نمط واحد في مدى نفعها، بل يختلف ذلك باختلاف العلاج وتفاصيل الحالة.
الأمر الثاني: أنّ بيان مساحات الامتناع الجائز لا يعني تشجيعه، أو أنّه يكون جائزاً بإطلاق دون نظر لاعتبارات أخرى، ولكن الحال الذي نتكلّم فيه هنا هو حال التزاحم وهو حال ضرورة.
أمّا أهم تلك الضوابط التي تكشف عن مساحات الامتناع الجائز فأجملها كما يلي[1]:
– فمن جهة المريض: يجب طلب وتقديم العلاج إذا ترجّح هلاك المريض أو تضرّره ضرراً شديداً يذهب بعضو أو منفعة إذا لم يُعالج به، ويجب تقديم العلاج للغير لا طلبه للنفس دفعاً للآلام والمشاق.
وهنا نلاحظ أنّ الرجحان شرط، مما يسمح بالامتناع عند عدمه.
وكذلك من جهة المريض: لا يجب العلاج إذا وصل المريض إلى حدّ الإشراف على الموت بحيث لا يعيش وإن تعالج، ويجب العلاج إن كان يتسبّب في بقاء المريض حيّاً ولو لمدّة يسيرة.
– ومن جهة المُعالج: يتوقّفُ وجوب العلاج على كون المـُعالِج قادراً على تقديمه، فيجب عليه عندئذ القيام به ما لم يترجّح له أنّ غيره قام به. والقدرة تتحقّق بكون المعالج مؤهلاً لتقديم المعالجة مع توفّر ما تتطلّبه من وسائل. وقد يدخل في هذا الضابط توفّر وسائل حماية المعالج من العدوى بهذا الفيروس كشرط للقدرة، إذا صحّ ما يُذكر عن أنّ مباشرة المعالجة بدون تلك الوسائل يغلب معها الإصابة مع غلبة التضرّر الشديد بالإصابة.
– ومن جهة العلاج نفسه، فالعلاج الذي يكون الأصل فيه الوجوب هو ما توفّرت فيه ثلاثة شروط:
الشرط الأوّل: أن يكون نفعه في دفع الهلاك مترجّحاً بانضباط([2]).
الشرط الثاني: أن يكون ملحّاً([3]).
الشرط الثالث: أن يكون متعيّناً([4]).
ويترتّب على كون الأصل في العلاج الوجوب أنّ الموقف الأصلي الذي يُستصحب ويعمل به هو تقديم ذلك العلاج وجوباً، ولا يترك ذلك العلاج للتردّد في توقّع نجاحه، بل يعتمد على العادة الغالبة في نجاحه، ولا يَتوَقّف وجوبُه على حصول ظنّ النجاح في الحالة المعيّنة. ويُستصحب أصل الوجوب في العلاج الذي يجب من حيث الأصل ويستمرّ الحكم به، حتّى يقوى ترجّح عدم نفع العلاج في دفع الهلاك ويزيد الظنّ بذلك على أصل الرجحان([5])، بحيث يكون النجاح نادراً([6]).
وبما سبق ينكشف أنّ العلاج الذي يكون الأصل فيه عدم الوجوب هو العلاج الذي لا يترجّح نفعه بانضباط، أي لا يوجد رجحان نفعه باعتياد في الحالات الشبيهة. وهذا العلاج لا يحكم بوجوبه بالاحتمال المرجوح أو الشكّ أو حصول أصل رجحان الظنّ بدفع الهلاك دون زيادة فيه، ويحكم بوجوبه إذا قوي ترجّح نفعه في دفع الهلاك وزاد الظنّ بذلك على أصل الرجحان([7]).
وسبب اشتراط زيادة قوة الظنّ على أصل الرجحان هو التيسير عند وجود عدم الانضباط الذي تتّصف به المساحة الأولى من الظنّ، فإذا قوي وانفكّ الإدراك عن هذه المساحة فلا مانع حينها من اقتضاء مقاصد الشرع لجريان الحكم، فنحكم بالوجوب ولو لم نصل لليقين بنفع المعالجة لدفع الهلاك ما دام الظنّ قوي إلى مرحلة تجاوزنا فيها التردّد والاضطراب.
منافذ أخرى للامتناع الجائز:
قد يستفاد من منافذ أخرى للامتناع الجائز لا يسع المقام لتفصيلها هنا كتوقّع الضرر على المريض من المعالجة، وقد فصّلت في أنواع المنافذ في كتاب (أحكام قرارات العلاجات المساندة للحياة).
الخاتمة
أرجو أن أكون قد وفقت في إضاءة كثير من جوانب الموضوع المهمّة في هذا الوقت الحرج، لعلّها تفيد في إدارة الأزمة وتحريك النظر الفقهي المعمّق حول نوازلها، مع حرصي على بيان المبادئ الكليّة الشرعية الحاكمة للنظر في هذه النازلة، لكثرة ما يقع من خلط بين الرؤية الشرعية وبين الاتجاهات الأخلاقية الطبّية من منظور عَلماني بما تتضمّنه من مخالفات قد يدقّ إدراكها على كثير من الناس.
وليسمح لي القارئ بخلاصة موجزة جداً لما سبق بيانه، وهي أنّنا سعينا في هذه المقالة إلى تقديم رؤية مبنية على أحكام وقواعد ومقاصد الشريعة، تباين الاتجاهات العلمانية والمادية، فتحترم حفظ الحياة كضروري عظيم، وترفض أن تخضعه لمقاييس المنفعة أو تقيمه وفق ما يسمّى بجودة الحياة، ثم تبني على قاعدة تقديم الأولى عند التزاحم دون اعتداء على الحرمات، مع ترتيب للأولويات مبني على معايير منضبطة عادلة ترجع إلى تكثير المصالح المعتبرة في ضوء تعظيم حفظ النفوس، ثمّ تحاول أن تلتمس وسائل تخفّف التزاحم دون أن تخلّ بمعايير الشرع للعلاج الواجب، وهي بهذا توازن بين مقصدي حفظ النفس ومقصد التيسير، موازنة تتوخّي الانضباط بتفصيلات الشرع.
أشير ختاماً إلى أنّ كثيراً مما في هذه الورقة مبني على رسالتي (أحكام قرارات العلاجات المساندة للحياة)، وهي دراسة متأنية دقيقة أخذت سنوات من البحث المعمّق، وبعضه مما يتصل بسياق النازلة الجديدة كتبته مؤخراً، وقد روجعت الورقة من الأستاذ الفاضل الشريف/ د. عبد الله بن سرور الجودي، استشاري طب المجتمع والوبائيات وأخصائي الأخلاقيات الصحية.
وفيما يلي رابط لمحاضرتي في ندوة (أخلاقيات طب الطوارئ والعناية المركّزة) بالأحساء، يمكن من خلالها الوقوف على بعض النقاط المهمة حول أحكام قرارات العلاجات المساندة للحياة وإشكالات معالجتها:
وهنا مستخلص لرسالة (قرارات العلاجات المساندة للحياة) يمكن تحميله للاطلاع على الضوابط التفصيلية التي انتهت إليها الرسالة:
البحث الشرعي الطبي تيليجراموصلى الله على نبينا محمد
* أستاذ الفقه المساعد بجامعة أم القرى
[1] يمكن مراجعة هذه الضوابط مختصرة في أحكام قرارات العلاجات المساندة للحياة 2/999 فما بعدها, ومفصّلة معلّلة في 1/526 فما بعدها.
[2] أي يوجد ترجّح نفعه باعتياد في الحالات الشبيهة، بحيث لا يتفاوت وجود ترجّح النفع وعدم وجوده تفاوتاً كبيراً بين الحالات المشابهة، فإنّه إذا ترجّح نفعه أحياناً ولم يترجّح أخرى باختلاف الأشخاص رغم تشابه الحالات، كان غير منضبط.
[3] إلحاحه بأن يكون ضرورياً لا يحتمل التأخير لحفظ حياة المريض وعدم تضرّره.
[4] تعيّنه بأن لا يكون له بديل.
[5] توضيح: أصل الرجحان يكون بمجرد ترجّح النفع في بدايته ترجّحاً يسيراً، والزيادة على ذلك تكون بتزايد الظنّ وقوّته بحيث يرى أنّه زاد عن ذلك الترجّح اليسير وتميّز عنه.
[6] والأحوط أن لا يحكم بعدم الوجوب إلاّ إذا انعدم احتمال النجاح أو كان قريباً جداً من الانعدام، ما لم يسبّب ذلك مشقّة ظاهرة بسبب تكاثر هذه الحالات على الطاقم الطبّي، فيكتفي حينها بقوّة ترجّح عدم النفع وزيادتها على أصل الرجحان، بل يمكن أن يكتفى بمجرد رجحان عدم النفع ليحكم بعدم الوجوب إذا لم تنتف المشقة بتعليق عدم الوجوب بالندرة، بل لا يبعد أن يسقط الوجوب بالشكّ واستواء احتمال النجاح وعدمه إذا بقيت مشقّة ظاهرة لا تندفع إلاّ بذلك.
[7] وينبغي أن يكتفى بحصول أصل رجحان الظنّ ما لم يترتّب على الاكتفاء به دون طلب الظنّ الأعلى مشقّة ظاهرة أو تأثير على توزيع الكوادر والموارد بما يضرّ بكفاءة تغطيتها للحاجات العامة لعموم المرضى.