د. عائض بن سعد الدوسري
أصل هذه الورقة هو حوارٌ دار في إحدى المجموعات الحواريَّة، قبل أكثر من عقد من الزمان، دار بيني وبين أحد الدكاترة الأكاديميين الفضلاء، وهو أحد أبرز المتخصصين السعوديين الأكاديميين في الدراسات الصوفيَّة، وكتبه وأبحاثه ومقالاته محل اعتبار واهتمام في دائر التخصص، وكان النقاش قد بدأ حول الصوفيَّة، وماهيتها، وأصلها وأنواعها، وقد تجاذبت الآراء حول مسألة: هل لدينا فكرة صوفية واحدة أو صوفيات؟ وكما هو معروف فإنَّ الغرض الجوهري من الحوار أنَّه ينشد النقد والتمحيص، لأنَّ بالمدارسة والحوار تُصقل الآراء وتكمل التصورات، وتلقح الأفكار. وقد رأيتُ من الجيد نشر التعليق الذي علقته ذلك الوقت في ذلك الحوار، في هذه الورقة، تعميمًا للفائدة، دون ذكر أسماء، إذ الغرض الفائدة العلميَّة.
(التعليق النقدي الأول)
المحور الأول: تصوير وعرض رأي أخي الدكتور الفاضل المحاور:
أودُّ –أولاً- أن أنبِّه إلى أنَّي سبق أن اطلعت على رأي أخي الدكتور الفاضل المحاور في أبحاثه ومقالاته العلمية قبل هذا الحوار. وأزعمُ أنَّ لديَّ تصوراً كاملاً لرأيه قبل تلك المجاذبات الأخيرة. وحين أثير الموضوع ضمن هذه المجموعة الحواريَّة، فقد رجوتُ أن يكون ثمة مجالٌ لمناقشة رأيه الذي لا أحسبه وُفِّق فيه للصواب.
وقبل الدخول في التفاصيل نحتاج لتوضيح نقطة الخلاف: فالمشهور بين أهل العلمِ أنَّ التصوف بدأ بين المسلمين بصورة نزوعٍ نحو المبالغة في التقشف، والتزهد، والانصراف عن الدنيا، ثم دخلت فيه صورٌ من البدع التي بدأت صغيرةً، ثم لم تزل تكبر حتى تمادى كثيرٌ من المتصوفة، فوقعوا في (التصوف الفلسفي) الذي هو أخطر مراتب التصوف.
هذا هو المشهور في كلام العلماء. وأما بعض الباحثين فمن رأيهم أنَّ التصوفَ فكرةٌ واحدةٌ لا اعتدال فيها، كانت موجودةً لدى الأمم السابقة، ثم دخلت على المسلمين، فمنهم من أخذ بها كاملةً، ومنهم من أخذ بعضاً وترك بعضاً. فمن وصل إلى التصوف الغالي، فهو الصوفي حقيقيةً، وأما من لم يصل، فلم يفهم التصوف ولم يحقِّقْهُ، ولا يُطلق عليه الاسم إلا مجازًا. وعليه فليس هناك صوفيَّة معتدلة وصوفية غالية، فالصوفيَّة كلها فكرة واحدة متطرفة أجنبية عن البيئة الإسلامية.
وهو الرأي هو الذي تبناه أخونا الدكتور الفاضل المحاور في أبحاثه ومقالاته العلميَّة المنشورة. وحين أقول إنَّه تبنى ذلك القولَ أو تأثر به، فلستُ أرى في ذلك أي مذمةٍ أو لمزاً له ما دامَ أخذ رأي هؤلاء عن قناعةٍ بأدلته، فالأفكار والتصورات تنسب لأول من قال بها، ولا عيبَ بعد ذلك أن يؤيدها المتأخر ويأخذ بها، لكن يبقى الشأن في قيمتها العلميَّة.
يرى أخي الدكتور الفاضل المحاور أنَّ هناك أربع مسائل هي موضع التحرير، وبِفَصلِ القولِ فيها بـ”الأدلة البرهانيَّة“؛ يُفصَل القول في القضيَّة الأساس وهي: “فكرة التصوف: هل فيها اعتدال، أو كلها فكرة فلسفية لا اعتدال فيها”.
وأولى تلك المسائل –في نظر أخي الدكتور الفاضل المحاور– مسألة: “تحقيق نسبة التصوف إلى أيِّ شيءٍ، هل هو إلى الصوف أم إلى كلمة (سوفيا) الفلسفيَّة؟”.
يقول أخي الدكتور الفاضل المحاور: “من قال بالتصوف المعتدل، سواء من المتصوفة أو من غيرهم، فإنه استند إلى نسبة التصوف إلى الصوف.. وأما من قال بأنَّ التصوف فلسفي، ليس فيه اعتدال، فإنه استند إلى إنكار نسبة التصوف إلى الصوف”. ثم قال بلغة واضحة لا لبس فيها: “هذا موضع التحرير، فمن ثبت دليله فقوله هو الحق، لا من بطل دليله“.
ففي رأي أخي الدكتور الفاضل المحاور أنَّ تحرير اشتقاق كلمة (صوفيَّة) هو موضع التحرير. فإن ثبت أن الكلمة مشتقة من لفظ أجنبي، فهي فكرة أجنبية، وإن ثبت أنها مشتقة من لبس (الصوف) فلا.
فما هي الأدلة “البرهانيَّة” التي اعتمد عليها أخي الدكتور الفاضل المحاور في إثبات رأيه؟
شَرَعَ الدكتور الفاضل المحاور في رفض أغلب المعاني التي يُنسَب إليها التصوف، ثم ضيَّقَ الخيارات لتنحصر بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: إما القول بأنَّ التصوف من الصوف، أو من كلمة أجنبيَّة. وانتخب الرأي القائل بعدم “اشتقاق الكلمة“، ومن ثم فإنَّها ترجع للكلمة اليونانية “سوفيا“.
ثم سلكَ أخي الدكتور الفاضل المحاور منهجًا قائمًا على ثنائية “النقض” و”التأسيس“، أي نقض الآراء المخالفة له، فإذا ما سَلِمَ له النقض كما يعتقد، قام بتأسيسِ رأيه الذي يرى أنَّه الصحيح والصواب. فالنقض اشتمل على أربعة أدلة –تقريبًا، ودليل الإثبات اشتمل على ثلاثة عشر دليلاً أو نقطة تقريبًا. ونحن هنا سوف نعرض للنقض أولاً ثم التأسيس، منوعين بين التفصيل والإيجاز بحسب الحاجة.
الطريق الأول [النقض]: يمكن أن نلخصه تحت اسم [البرهان القشيري].
اجتهد أخي الدكتور الفاضل المحاور في نفي أن تكون كلمة (الصوفيَّة) مشتقة من لبس (الصوف)، وقد أسَّسَ برهانه على دعوى أنَّ المتصوفة لم يشتهروا بلبس الصوف، وعمدته نصٌ قاله إمام التصوف عبد الكريم القشيري في كتابه الشهير (الرسالة)، حيث زعم أنَّ الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف لمحاولة تبرير زعمه أنَّ اللفظة غير مشتقة.
ومدار أدلة الدكتور الفاضل المحاور على أربعة، كما يلي:
(1) النص: قال القشيري: “القوم –أي المتصوفة- لم يختصوا بلبس الصوف”.
قال أخي الدكتور الفاضل المحاور: “عدم الاختصاص يعني انتفاء النسبة ما بين التصوف والصوف”. ويقول أيضًا: “إذن النتيجة المهمة هنا: أن القوم لم يختصوا بلبس الصوف”. وقال: “وهذه شهادة خطيرة، فيها نقض لقول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف، شهد بها إمام عارف من أئمة الصوفية المتقدمين”. وقال: “كان علة ذلك، كما ذكر القشيري: أن القوم لم يختصوا ولم يشتهروا به”. وقال فزاد: “فالصوفية لم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديما ولا حديثاً”. وقال عنهم أنهم: “أعرضوا عن لبسه، فلم يتميزوا به”.
كل هذه النتائج ولَّدها الدكتور الفاضل المحاور من ذلك النص الصغير الذي ذكر فيه القشيري أنَّ الصوفيَّة “لم يختصوا بلبس الصوف“.
(2) سلامة الدليل [القشيري] من المعارضة والرد:
بعد أن شيَّد أخي الدكتور الفاضل المحاور بنيان برهانه على ذلك النص العابرِ، واستنبط منه تلك النتائج الكبار، زاد في التأكيد والتثبيت، فذكر أنَّ هذا النص قد سَلِمَ من الرد والمعارضة، ولذا فهو حقيقة مسلم بها ودليلٌ برهانيٌ!
يقول أخي الدكتور الفاضل المحاور: “ومما يعطي الشهادة قيمة أكبر، أنا لم نسمع بإمامٍ صوفيٍّ انبرى للرد عليه وإبطال زعمه هذا، فسكوتهم دليل موافقتهم له، ويبعد أن يكونوا غير مطلعين على كتابه، بل يستحيل، فكتابه (الرسالة) من أشهر كتب التصوف، فمن الذي لا يعرفه من الصوفية؟!”. وقال :”وهذه شهادة مهمة كونها صادرةً من إمامٍ متفقٍ عليه. وكونه لم يرد أحد كلامه هذا، ولم يعارضه أحد، لا من معاصريه، ولا من أتى بعده، فهل يعقل أن يكذب في شهادته، أو يخطئ، ثم يسكت عنه جميعهم، من أولهم إلى آخرهم، مع ظهور المسألة، وعدم خفائها؟”. وزاد، فقال: “لم يعترض أحد من المتصوفة بإنكار على هذا التقرير، لا من المعاصرين لهما، ولا من اللاحقين. أفلا يدل هذا على إقرارهم وتسليمهم بهذا التقرير؟”.
(3) الدليل [العاضد] من كلام إمام الصوفية الهجويري:
بعد أن أقام أخي الدكتور الفاضل المحاور أساس برهانه على نص القشيري، وَجَدَ ما يَشُدُ من أزره ويعضده، وهو كلام الهجويري في كتابه (كشف المحجوب).
قال الدكتور الفاضل المحاور: “بل سايره على هذا الرأي، ووافقه: إمام آخر معاصر له هو الهجويري“. وقال: “الهجويري كذلك أنكر النسبة إلى الصوف”.
(4) دليل خلو تعريفات الصوفية من الصوف:
ثم عضد أخي الدكتور الفاضل المحاور رأيه بأنَّ تراث الصوفيَّة حتى منتصف القرن الخامس يكاد يخلو من ذكر الصوف. يقول: “المتتبع والدارس تعريفات المتصوفة الأولين، المؤسسين، منذ بداية التصوف، وحتى منتصف القرن الخامس يلحظ خلوَّها من ذكر الصوف، إلا تعريفا يتيماً أو تعريفين من بين حوالي ثمانين تعريفاً، … فلو كانت النسبة صحيحةً، فلم أعرضوا عن ذكره في هذه التعريفات؟!”.
ما مضى، عرضٌ موثقٌ وأمين لما قَرَّرَهُ الدكتور الفاضل المحاور في حواره وكتبه الأكاديميَّة ومقالاته العلميَّة وأبحاثه، وفيما يأتي الآن مناقشة علميَّة نقديَّة لما قدمه أخي الدكتور الفاضل المحاور من اعتراضاتٍ ونقضٍ. وما ذكرتُهُ هو لبُّ وزبدة أدلة الدكتور الفاضل المحاور، وهو قد طالب –سابقًا ومرارًا- بالأدلة البرهانية وترك الأدلة الخطابية. ولذا فنحن هنا لتقييم مدى كونها أدلةً، فضلاً عن كونها برهانيَّةً.
(1) تقييم البرهان الأول:
ارتكزَ الدليل الأول والأهم –عند أخي الدكتور الفاضل المحاور– في إنكار النسبة الشهيرة بين التصوف والصوف، على النص السابق الذي قاله القشيري. ومنه استنتج الدكتور الفاضل المحاور: انتفاء النسبة ما بين التصوف والصوف، وأن الصوفية لم يشتهروا بلبس الصوفِ، بل لم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديماً ولا حديثًا. ثم ذكر أن هذه شهادة خطيرة –بحسب تعبيره- تنقض قول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف.
وللتعليق على الدليل الأول، أقول:
أولاً: القشيري لم يقل: إنَّ الصوفيَّة (لم يشتهروا بلبس الصوف)، أو إنَّ الصوفيَّة (لم يُعرفوا بهذا اللباس)، بل قالَ إنَّهم (لم يختصوا بلبس الصوف). وفرقٌ كبيرٌ بين التعبيرين. فالصوفيَّة كانوا معروفين مشهورين بلباس الصوف منذ القدم. لكن القشيري يريد أن يقولَ إنَّ لبس الصوف ليس خاصاً بهم. بل هو لباسٌ يشاركهم فيه غيرهم. فمن الخطأ أن يأتي الأخ الدكتور الفاضل المحاور ليجعل عبارة القشيري دالةً على أن الصوفيَّة “لم يشتهروا بلبس الصوف“. ومقام القشيري في التصوف يبعد معه أن يجهل شهرة الصوفية بذلك.
قد يتصف فردٌ أو طائفةٌ بصفةٍ ويشتهر بها، حتى مع مشاركة غيره فيها. لكن شهرته بها تكون لمعنى خاصٍ استوجب ذلك، كما هو الحال بالنسبة للصوفيَّة، إذ كانوا يلبسون الصوف هم وغيرهم. لكنهم اشتهروا به، لتعبدهم بلبسه، ولملازمتهم له عمداً بقصد التقشف وخشونة العيش.
ثانياً: لو فُرض جدلاً أنَّ القشيري أراد المعنى الذي قصده أخي الدكتور الفاضل المحاور. فإنَّ انفراده بهذا الرأي بلا دليلٍ يكفي لعدم قبوله، وردِّه عليه، لأنَّ قوله المنفرد يقابل قول أغلب أئمة الصوفية وغيرهم، حيث قرروا خلاف ذلك، والعدول عن المشهور والمستفيض والمقرر إلى رأي فردٍ بلا دليل؛ تحكم لا يجوز.
ومع أنَّ هذا من الأمور الواضحات في رأيي، إلا أنني سوف أسوق القليل من الكثير من تقريرات كبار أئمة الصوفيَّة قبل القشيري وبعده، وتقريرات غيرهم من المؤرخين والعلماء المراقبين حال الصوفيَّة في عصورهم، كما يأتي:
[1] السابقون على القشيري.
أول مصدر يُطالعنا هنا هو أعظم وأقدم سفر لتأريخ التصوف، وهو كتاب (اللمع)، لأبي نصر السراج الطوسي (378هـ). قال شيخ الصوفية المعاصر عبدالحليم محمود: “السراج الطوسي أعظم مؤرخ صوفي في تاريخنا قديمه وحديثه، هو بحق أكبر المؤلفين الصوفيين، وأستاذهم جميعًا بلا استثناء، هو الكتاب الأم في تاريخ التصوف الإسلامي، هو أقدم مرجع صوفي إسلامي، وهو فوق هذا أكبر هذه المراجع وأوثقها وأغزرها مادة، وأنقاها جوهرًا ولفظًا، ومن مادته الخصبة اقتبس كافة من أرخ للتصوف”.
وبعد هذا الثناء الوافر، أنقلُ ما قاله هذا الإمام الصوفي، قال تحت باب اسمه: (الكشف عن اسم الصوفية، ولم سموا بهذا الاسم، ولم نسبوا إلى هذه اللبسة).
فكما تلاحظ من عنوان الباب يظهر رأي إمامِ الصوفية هذا. ثم نكمل معه، حيث يقول: “نسبتهم إلى ظاهر اللبسة، لأنَّ لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام وشعار الأولياء والأصفياء، ويكثر في ذلك الروايات والأخبار”. ثم قال: “الصوفيَّة عندي، والله أعلم، نُسبوا إلى ظاهر اللباس… لأنَّ لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المساكين المتنسكين”.
أما المصدر الثاني فهو كتاب (التعرف لمذهب أهل التصوف)، لأبي بكر الكلاباذي (380هـ). فقد قال: “ومن لبسهم وزيهم سُموا صوفيَّة”. وقال: “الصوف لباس الأنبياء وزي الأولياء”. ثم ساق الروايات في فضل لباس الصوف.
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: “أخبرني أبو علي عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن محمد بن فضالة النيسابوري بالري، قال سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن سعيد السرخسي ببخارى، يقول: سئل أبو علي الروذباري (322 هـ) –صاحب الجنيد– فقيل له: من الصوفي؟ فقال: من لبس الصوف على الصفا”.
وقال الحكيم الترمذي (360هـ) في (النوادر): “فعلى هذا المثال عَامَلت متزهدة زماننا، سَمِعَت أنَّه مضى في السلف الصالح من الصحابة والتابعين قوم اجتزوا بالدون من الحال فلبسوا الصوف والخلقان، وأكلوا النخالة، وامتنعوا من الشهوات… فخلف من بعدهم خلفٌ اتبعوهم فيما ابتدعوه وهم غير صادقين فيها، فأقبلوا على لبس الصوف والخلقان، وأكل النخالة والخبز المتكرج، يريدون بذلك إظهار الزهد، وقلوبهم مشحونة بشهوات الدنيا”.
ونقل الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (360هـ) في (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) عن ابن المبارك، وكذا في (تاريخ بغداد)، أنَّه قال يعاتب أحد العُبَّاد:
أيها القارئ الذي لبس الصوف
وأمسى يعد في الـزهاد
الـزم الثـغر والتـواضع فيـه
ليس بغداد منـزل العباد
وكذلك ذكر عبدالله بن محمد بن جعفر بن حيان أبو محمد الأنصاري (369هـ) في كتابه، أنه سمع أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي، من الصوفية الكبار، أنَّه قال: “سُمِيت الصوفيَّة باسم الصوفيَّة لأنَّهم قوم عملوا بحقائق الدين، وحققوا العمل للآخرة بالزهد في الدنيا والتقلل، وكان لباسهم الصوف من إحدى تلك الحقائق، فكان ظاهرًا، ففارقوا به الناس فسموا به”.
وذكر أبو نعيم الأصبهاني في (الحلية) أنَّ لباس الصوف هو اختيار الصوفية. بل إن القشيري نفسه قال: “قال أبو سليمان الداراني : الصوف علم من أعلام الزهد”!
[2] المعاصرون للقشيري.
وممن احتج بهم أخي الدكتور الفاضل المحاور الإمام الصوفي الهجويري، ولو قَلَّبَ كتابه (كشف المحجوب) قليلاً، لوجد أنَّه بعد صفحاتٍ يسيرة، قد عقدَ بابًا كاملاً بعنوان: (باب في لبس المرقعة). قال فيه: “اعلم أنَّ لبس المرقعة شعار المتصوف، ولبس المرقعات سنة، ومن هنا قال الرسول عليه السلام: (عليكم بلباس الصوف تجدوا حلاوة الإيمان)”.
ثم شرع في إيراد الروايات والآثار التي تحث وتخص لباس الصوف بالأجر والثناء ومزيد الفضل. ثم ساق أسماء مشاهير أولياء وأئمة الصوفية الذين لبسوا الصوف. ومنها: قال: “أمر داود الطائي رحمه الله بلبس الصوف، وكان من الصوفيَّة المحققين”. وقال: “كان الشيخ محمد بن خنيف رضي الله عنه يرتدي لمدة عشرين عامًا ثوبًا من الصوف الغليظ ويعتكف”. ثم عقدَ فصلاً تحدث عن تصوف زمانه؛ فقال فيه: “فصل: وأما ترك عادة هذه الطائفة فلا يكون شرطًا في طريقتهم، وقلة ارتدائهم ثياب الصوف الآن له معنيان..إلخ”.
[3] اللاحقون للقشيري.
قال السهروردي (632هـ) في (عوارف المعارف): “نُسبوا إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك أبين في الإشارة إليهم وأدعى إلى حصر وصفهم، لأنَّ لبس الصوف كان غالبًا على المتقدمين من سلفهم.. فالقول بأنَّهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضع… ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمتقشفين والعباد”.
وأنشد عبد الغني النابلسي في (ديوانه):
واجعل مـعاشك من خبز الشعير ومن
مـاء وإن لـم يكن عذبًا فتغترف
وخرقة الصـوف طـول العمر تلبسها
مع صاحب أو صحاب أنت تأتلف
وقال عبد الرؤوف المناوي في (فيض القدير): “وقد أمر الشارع بالتوسط بين التفريط والإفراط حتى في العبادة، وفيه رد على من تحرى من الصوفيَّة لبس الصوف دائمًا، ومنع نفسه من غيره، وألزمها زيًّا واحدًا، وعمد إلى رسوم وأوضاع وهيئات ويرى الخروج عنها منكرًا”.
[4] من غير الصوفية.
قال ابن خلدون عن الصوفيَّة: “وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفه النَّاس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف، فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم”.
وهو رأي شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية. وكذلك الإمام ابن قيم الجوزيَّة في (الزاد)، حيث قال: “وذكر الشيخ أبو إسحاق الأصبهاني بإسناد صحيح عن جابر بن أيوب، قال: دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين، وعليه جبة صوف، وإزار صوف، وعمامة صوف، فاشمأز منه محمد وقال: أظن أنَّ أقوامًا يلبسون الصوف، ويقولون قد لبسه عيسى ابن مريم… ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقوامًا يرون أنَّ لبس الصوف دائمًا أفضل من غيره، فيتحرونه، ويمنعون أنفسهم من غيره”.
وقال الفقيه بدر الدين العينى الحنفي في (معانى الأخيار): “الصوفى: نسبة إلى لبس الصوف، منهم الطائفة التي تسمى بالصوفيَّة، وأكثرهم أهل بدع وضلال”.
وقال الشيخ علي بن سلطان محمد القاري الحنفي في (مرقاة المفاتيح): “وأما أكثر طوائف الصوفيَّة فاختاروا لبس الصوف”.
فهذه جملة يسيرة -من كثير- من أقوال أئمة الصوفيَّة وغيرهم، تبين أنَّ لباس الصوف كان شعارًا ورمزًا للصوفيَّة. فلماذا يرفض الدكتور الفاضل المحاور كل هذا، ويتمسك بنص القشيري فقط، ثم يـبني عليه أنَّ الصوفيَّة لم يشتهروا ولم يُعرفوا بلبس الصوف، قديماً ولا حديثاً؟!
ثالثاً: أنَّ الأخذَ بقولِ صوفيٍ واحدٍ، ثم تحميله ما لا يحتمل، لا يُعتبرُ دليلاً فضلاً أن يكون برهانيًا، فضلاً أن يكون ناقضًا لحقائقَ مشهورة مقررة، فأين منهجية البحث العلمي؟
ألم يرد أخي الدكتور الفاضل المحاور قول الكلاباذي في اختياره أحد معاني التصوف، والسبب كما قال الدكتور الفاضل المحاور: “هذا قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره”. وبالمنطق نفسه: فإنَّ قولَ القشيري –حسب فهم الدكتور الفاضل المحاور– قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره، بل خالفه الصوفيَّة في ذلك.
فلماذا قبل أخونا الدكتور الفاضل المحاور كلام القشيري ورفض كلام الكلاباذي؟! وتتضح خطورة هذا الانتقاء حين نعلم أن الدكتور الفاضل المحاور سيبني عليه أنَّ الصوفيَّة فكرة فلسفية واحدة، واردة من خارج البيئة الإسلامية.
رابعاً: إذا سلمنا –جدلاً- بصحة قول القشيري وهو: “إنَّ الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف“، فمن أين للدكتور الفاضل المحاور أنَّهم أعرضوا عن لبسه؟ وأنَّهم لم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديمًا ولا حديثًا؟ فهذا المعنى زائدٌ جدًا على ما قاله القشيريُ، فأين الدليل البرهاني هنا؟!
خامساً: قال أخي الدكتور الفاضل المحاور: “التصوف فكرة ونحلة… وبناء على هذا: إن أردنا التعرف على دين أو نحلة أو فكرة ما… لا يصح أن نلجأ إلى المنتسبين فنعتمدهم مصدرًا”!
يريد الدكتور الفاضل المحاور بهذا الكلام أنَّ المنتسب الذي لم يحقق معنى التصوف، لا يصلح أن يكون مصدراً لتعريفهِ وفهم معناه. وعليه فقد كان من المفترض ألا يصح الاستدلالُ بكلام القشيري والهجويري كمصدرٍ معتمدٍ يشرح معنى التصوف، إلا في حالة واحدةٍ، وهي ما إذا كان الدكتور يرى أنَّ القشيري والهجويري متحققين بالتصوف الفلسفي، الذي هو -عند الدكتور الفاضل المحاور– غير معتدل وزندقة ومضاد للإسلام!
سادساً: كلام القشيري –لو سُلمت دلالته- فهناك إشارات قد تحمل كلامه على أنَّه يتحدثُ عما غلب ووقع فيه زُهَّادُ عصره، ومتصوفة زمانه، حيث لُبِسَ التصوف للدنيا والشهوات، فلم يَعد مختصًا على الصوفية الحقَّة كما يراها هو.
فقد جاء ما نصه في رسالته: “هذه رسالة كتبها… القشيري … إلى جماعة الصوفيَّة ببلدان الإسلام في سنة 437هـ… اعلموا رحمكم الله، أنَّ المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم، ولم يبق في زماننا هذا من هذه الطائفة إلا أثرهم… حصلت الفترة في هذه الطريقة، لا بل اندرست الطريقة بالحقيقة، مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء”.
فهنا يُقرر -بحسب رأي القشيري– أنَّ الطريقة الصوفيَّة اندرست، فإن كانت شهادة على غير عصره فقد ردها أهل ذلك العصر، وإن كان شهادة على عصره، فقد بررها أحد أئمة الصوفية المعاصرين زمانه، وهو الهجويري.
قال الهجويري: “وقلة ارتدائهم ثياب الصوف الآن، له معنيان، أحدهما: أنَّ الأصواف تشعثت، والأنعام انتقلت في الغارات من مكان إلى مكان. والثاني: أنَّ طائفة من أصحاب البدع اتخذوا رداء الصوف شعارًا لهم، ومخالفة شعار أهل البدع سنة ولو مخالفة للسنة”.
فالهجويري –الذي احتج به الدكتور الفاضل المحاور- يؤكد أنَّ الأصلَ في الصوفيّة لبس الصوف، وأنَّه شعارهم وعادتهم المعروفة، لكنهم في عصره أخذوا في التقلل منه بسبب ما ذكره.
ومن هنا نتساءل: كيف يمكن أن يرد –باحثٌ أكاديميٌ متخصصٌ في التصوف- جميعَ تلك الدلالاتِ التي تثبت أنَّ الصوف شعارُ الصوفية، لأجل نصٍ واحدٍ يتيمٍ ذي دلالةٍ محتملةٍ؟ فهل وقف الأخ الدكتور الفاضل المحاور على تلك النصوصِ وتجاهلها، وتمسك بنص القشيري وحده؟ أم أنَّه لم يقف عليها أصلاً –رغم كثرتها وشهرتها- سؤال يضع علامات تعجب كبرى، أياً كان جوابه.
(2) تقييم الدليل الثاني:
لعل أخي الدكتور الفاضل المحاور استشعر ضعف دليله فحاولَ تدعيمه وتقويته بدعوى أنَّه لم يسمع بإمامٍ صوفٍي، لا من معاصريه، ولا من أتى بعده، انبرى للرد على كلام القشيري وإبطال قوله. فالجميع –في رأي الدكتور الفاضل المحاور– سكتوا موافقين للقشيري، فهل يعقل أن يكذب القشيري في شهادته، أو يخطئ، ثم يسكت عنه جميعهم، من أولهم إلى آخرهم، مع ظهور المسألة، وعدم خفائها؟ بل يواصل الأخ الدكتور الفاضل المحاور كلامه فيقرر أنَّه: لم يعترض أحد من المتصوفة بإنكار على هذا التقرير، لا من المعاصرين لهما، ولا من اللاحقين. أفلا يدل هذا على إقرارهم وتسليمهم بهذا التقرير؟
وللتعليق على هذا الدليل؛ أقول:
لأنَّ في المدارسة فوائد، فأول فائدة هنا تظهر هي: أنَّ هذا الدليل قويٌ جدًا بنبرته الواثقة وخطابيَّته القوية فقط لا غيرَ. أما مضمونه فلا أساس له من الصحة البتة، فكلام أخي الدكتور الفاضل المحاور لم يقم على أساسِ دراسةٍ ومعرفةٍ بمحتويات بطون كتب الصوفيَّة، وخبرةٍ في مصادرهم، بل هو مجرد تخميناتٍ وافتراضاتٍ لم تقم على استقراء حقيقيٍّ، يدعمه منطق البحث العلمي إطلاقًا.
وآمل ألا يقول أخي الدكتور الفاضل المحاور أنَّي -بكلامي هذا- لم أحترم تخصصه في دراسة التصوف. لأن الاحترامَ شيءٌ يجب ألا يقدم على الحقيقة العلميَّة القريبة الواضحة التي لا يتعب الباحث في الوقوف عليها.
فحين يكون هناك نص في كتاب (الرسالة القشيرية)، ويريد باحثٌ ما أن يتتبع موقف العلماء منه، فإنَّ من أقرب المراجع التي كان المفترض -من المبتدئ فضلاً عن المتخصص- أن يراجعها؛ شروح الرسالة القشيرية نفسها، هذا من البديهيات.
ففي حين يزعم أخونا الدكتور الفاضل المحاور أن أحداً لم يعترض على كلام القشيري، نجد في كتاب (شرح الرسالة القشيرية) للشيخ الصوفي زكريا الأنصاري تعليقاً لا أدري كيف فات الدكتور الفاضل المحاور الوقوف عليه.
فحين قال القشيري: “لكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف“. تعقبه الأنصاري فقال: “لكن هذا لا يضر، لأنَّ الحكم للغالب، والغالب عليهم لبسه، والاكتفاء به، وإنما اختاروا لبسه لأنَّه أرفق بهم، ولأنه لباس الأنبياء والصالحين”.
وحينما قال القشيري: “أشهر من أن يُحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ واشتقاق”، تعقبه زكريا الأنصاري معترضًا، فقال: “وأنت خبيرٌ بأن شهرتهم لا تغني عن بيان اشتقاق اسمهم”.
وممن تعقب القشيري -أيضًا- من أئمة الصوفية علي الهروي البسطامي (875هـ) في كتابه المخطوط (حل الرموز و مفاتيح الكنوز في شرح رسالة السهروردي)، فبعد أن عرض الآراء في نسبة التصوف، ذكر مقولة القشيري “أن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف“، فتعقبها وأورد عليه أنَّ الصوف لباس الأنبياء والأولياء والمتصوفة وساق الروايات.
ومن المعاصرين: قال الشيخ الصوفي صلاح الدين التيجاني في (الكنـز)، بعد ذكره كلامًا للقشيري، قال: “أما اشتقاقها، فالصحيح لغويًا أنَّها نسبة إلى الصوف، وذلك أنَّ هؤلاء الزهاد والعباد كانوا يلبسون الصوف، إذ كان من علامة الزهد آنذاك”.
وقال الصوفي المعاصر –شيخ مشايخ الطريقة الغنيميَّة- أبو الوفا الغنيمي التفتازاني رادًا كلام القشيري بعد عرضه: “والأصوب أن يُقال: إن اشتقاق كلمة صوفي هو من الصوف، فيقال: تصوف الرجل إذا لبس الصوف، وكان الصوف شعارًا للعباد والزهاد لأول نشأة الزهد، وكثير من الصوفية أنفسهم يذهبون إلى هذا الرأي”.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف جزمَ أخونا الكريم الدكتور الفاضل المحاور، وأطلق القول بأنَّه: لم يسمع بإمامٍ صوفيٍ، لا من معاصري القشيري، ولا من أتى بعده، انبرى للرد على كلامه، وأنهم سكتوا موافقين ومقرين له، وأنَّه لم يعترض أحد من المتصوفة بإنكار على هذا التقرير، لا من المعاصرين لهما، ولا من اللاحقين؟
مثل هذا المنهج من أخينا الدكتور الفاضل المحاور هو ما كنتُ أرغب في مناقشته معه. فقد رأيتُ في كلامه مجازفاتٍ وإطلاقاتٍ كبيرةً تفتقر للحد الأدنى من التحقيق والتحرير. ثم تأتي البلية حين تجعل هذه الإطلاقات مقدماتٍ لنتائج وأحكام تشتمل على ما ينافي العدل والإنصاف.
(التعليق النقدي الثاني)
تلافيًا لما وقع في مبدأ بحثنا مع أخي الدكتور الفاضل المحاور، سوف أُعْرِضُ عن جميع الانتقادات الجانبية ذات الطابع الشخصي الموجهة إليَّ من قبل أخي الكريم، وسوف أحصر كلامي في المسألة العلميَّة وحدها غاضًا الطرفَ عن كل ما لا علاقة له بالجانب العلمي المحض. فذاك خير لي ولأخي الدكتور الفاضل المحاور وفقه الله. فتوقفي في المرةِ الأولى عن إكمال الحوار، كان بسبب تلك المناوشات الشخصيَّة التي تفسد الجو العلمي. وحيث طلب الإخوة العودة للمباحثة، فليكن الكلام محصوراً فقط في الجانب العلمي وحده. وإن رغب الإخوة في المجموعة أو أخي الدكتور الفاضل المحاور في إقفال هذه المباحثة نهائياً، فلا مانع لدي.
نعود للحديث، فقد كنتُ ذكرتُ في التعليق الأول رأي الدكتور الفاضل المحاور وأدلته، وأجبتُ عن اثنين من أدلته التي رآهما دليلين نقضيِّين، وقد تبيَّن أنهم ليسا كذلك، والبقية ستلحق بإذن الله.
ولعل من الجدير بالتنويه أنَّ المسألة التي قادت الدكتور الفاضل المحاور –وفقه الله- إلى التزام هذا الرأي غير الصائب، هي خطؤه حين فرض التلازم بين إسلامية التصوف إذا كان مُشتقًا من الصوف، ونفي إسلاميته إذا لم يكن كذلك.
يقول الدكتور الفاضل المحاور: “من قال بأنَّ التصوف فلسفي، ليس فيه اعتدال، فإنَّه استند إلى إنكار نسبة التصوف إلى الصوف”.
وهذا الكلام غير صحيحٍ البتة، فالأخ الدكتور الفاضل المحاور –وفقه الله- أحسبه يعلم علمًا جيدًا أنَّ من العلماء والباحثين المعروفين من يرى أنَّ التصوف لا اعتدال فيه، وكله تطرفٌ وغلوٌ، ومع ذلك يوافقون على أنَّ اشتقاقَه من الصوف، وكذلك بالعكس فمن الصوفيَّة من لا يرى أنَّه مشتقٌ من الصوف لكنَّه لا يراهُ أجنبياً، بل إسلاميًّا محضاً. فإحدى أهم منابع الخطأ في كلام أخي الدكتور الفاضل المحاور هو فرض هذا التلازم المتوهَّم.
وقد قال أحمد محمود صبحي عن الذي يرى هذا التلازم: “فترجيح اعتقاده إنَّما يرجع في الغالب إلى فكرة مسبقة، لا إلى ما يؤدي إليه البحث الموضوعي المحايد”.
وقد بينتُ في التعليق النقدي الأول أنَّ مستند الدكتور الفاضل المحاور الأعظم هو نصُّ القشيري الذي ذكر فيه أن الصوفيةَ “لم يختصوا بلبس الصوف“، وقد بينتُ خطأ استدلاله به، وتحميله للنص مالا يحتمل، ثم بينتُ كذلك بالنصوص العديدة عن المتصوفة وغيرهم خطأ ما ذهب له الدكتور الفاضل المحاور استنادًا على ذلكم النص اليتيم المحتمل.
وقبل أن أشرعَ في التعليق الثاني على تقريرات الدكتور الفاضل المحاور، أنبه إلى بعض الخلل الذي بدا لي في تعليقه الأخير. فالقشيريُّ حين قال: “لم يختصوا بلبس الصوف“، جاء الدكتور الفاضل المحاور واستنبط من هذه الكلمة أنَّهم: “لم يشتهرو بلبس الصوف، ولم يُعرفوا بهذا اللباس، لا قديمًا ولا حديثاً، وأعرضوا عن لبسه، ولم يتميزوا به”.
وقد ذكرتُ أنَّ هذا التفسير من أخي الدكتور الفاضل المحاور تفسير خاطئ لكلام القشيري. فنفي الاختصاص لا يعني نفي الشهرة. فالصوفيَّة اشتهروا بلبس الصوف، لكنهم لم يختصوا به، فغيرهم يلبسه أيضاً، لكن سبب شهرة الصوفيَّة بلبسه أنَّهم يفعلونه قصداً وتعبداً، ويعتبرونه سنةً وقربةً، فلذلك صار الغالب عليهم، ولذلك اشتهروا به. وليس من شرط شهرة الأعيان بالشيءٍ ألا يشاركهم أحدٌ فيه، فلم يقل أحدٌ بذلك.
ولولا منازعةُ أخي الدكتور الفاضل المحاور في هذه النقطة، لما احتجت إلى سوقِ نصوص الصوفيَّة وغير الصوفيَّة، التي تُبَيِّن أنَّ لبس الصوف من شعارات التصوف المعروفة. فقد نصَّ أعلام وأئمة المذهب على هذا المعنى، ونصوصُهم فيه أكثر من أن تحصر. فأبو نصر السراج نصَّ أنَّ لبس الصوف هو دأبُهم وظاهر لبسهم، وأبو بكرٍ الكلاباذي نصَّ أنَّ الصوف زيهم ولبسهم وسموا صوفية لذلك، وأبو علي الروذباري قال إنَّ الصوفي من لبس الصوف، وكذا الحكيم الترمذي بيَّن شهرة لباسهم الصوف، وكذا أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي من الصوفية الكبار، نصَّ أن لباس الصوف إحدى حقائق التصوف، وأنَّه ظاهرٌ عليهم ففارقوا به الناس فسموا به، وذكر أبو نعيم الأصبهاني أنَّ لباس الصوف هو اختيار الصوفية، ونصَّ أبو سليمان الداراني على أنَّ لبس الصوف علم من أعلم الزهد، وكذلك نصَّ السهروردي على أنَّ الصوف هو الغالب عليهم، وكذا عبدالغني النابلسي، … إلى آخر هذه الأقوال الكثير.
بل إنَّ القشيري نفسه حينما ذَكَرَ الأقوال المشهورة في أصل التصوف، وردها بسبب عدم استقامة الاشتقاق اللغوي، ثم لما جاء إلى قولِ من قال: “إن التصوف من الصوف” قال: “فذلك وجهٌ“، وفي نسخة أخرى من الرسالة القشيرية، قال: “ولذلك وجهٌ“. وعلق عليه الشارح زكريا الأنصاري بأنَّه يقصد: “ولذلك وجهٌ سائغٌ“. فالقشيري وإن لم يوافق على أنَّ اشتقاق التصوف من لبس الصوف، إلا أنَّه لم يجزم بالنفي، بل ذكر أنَّ لتلك النسبة وجهاً.
ثم إنَّه حين لم يوافق على اشتقاق لفظة التصوف من لبس الصوف، لم يفعل ذلك لأجل أنَّه يرى اللفظة لفظةً أجنبيةً، كما هو مذهب أخي الدكتور الفاضل المحاور، بل لأنَّه يرى أنَّ “هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياسٍ واستحقاقِ اشتقاقٍ“. وأنتَ ترى أنَّ هذا كلامٌ لا طائل من تحته و لا محصل منه، وهو كلامٌ تهويليٌ ليس بعلمي، ولذا تعقبه الشارح الأنصاري فقال: “أنتَ خبيرٌ بأن شهرتهم لا تغني عن بيان اشتقاق اسمهم”.
ويبقى هنا بعد هذا التعليق على قوله: إنَّ “القوم لم يختصوا بلبس الصوف“، وقد سبقَ أن بينتُ أن نفي الاختصاصِ لا يستلزم نفي الاشتقاقِ، إذ الكلامُ هنا عن الشهرةِ والسمة الغالبة على الصوفية، وليس عن ميزةٍ اختصوا بها دون سائر الناسِ. لأجل هذا تعقبه الأنصاري فقال: “هذا لا يضر، لأن الحكم للغالب، والغالب عليهم لبسه، والاكتفاء به، وإنما اختاروا لبسه”. وتعقبه علي الهروي البسطامي، حيث وافقه على تضعيف جميعِ الاشتقاقات العربية غير كلمة (الصوف)، ثم رد عليه في مسألة الاختصاص، وتعقبه شيخ مشايخ الطريقة الغنيمية أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، وتعقب هذا القول –أيضًا- صلاح الدين التيجاني.
وليس هؤلاء فقط هم من تعقب القشيري، لكني ذكرتهم على سبيل المثال، فابن خلدون المؤرخ لم يقل ما نقلتُه عنه سابقًا إلا ردًا على القشيري.
قال ابن خلدون: “قال القشيري رحمه الله: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه”. فقال معترضًا عليه: “هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم”.
وكذلك أبو الفضل كمال الدين جعفر الأدفوي (747هـ) في كتابه (الموفي بمعرفة التصوف من الصوفي)، فقد قال: “التصوف: وهو عبارة عن قصد طريق طائفة مخصوصة سُموا بالصوفية يُتَلَبَّسُ بها، فقيل فيه: إنه من باب تَفَّعُّل، إذا دخل في الفعل، كقولك: تقمص، إذا لبس القميص.. قال بعضهم: (نسبةٌ إلى لبس الصوف). وهذا صحيحٌ من حيث اللغة، واعترض القشيري عليه (بأن القوم لم يختصوا بلبس الصوف). ويجاب: بأنَّه الغالب”.
وكذا الشيخ الصوفي سعيد محمد بن محمد الخادمي (1156هـ)، في كتابه (بريقة محمودية)، حيث إنَّه بعد إيراد قول القشيري أورد عليه قول من اعترض عليه من الصوفيَّة، وأورد رواياتهم وآثارهم الدالة على أنَّ الصوف هو لبسهم الذي به عُرفوا وبه اشتهروا.
وكذلك تعقب الصوفي المعاصر محمد إبراهيم محمد سالم، في كتابه (كفاية المنصف في فهم التصوف)، قول من نفى الاشتقاق من الصوف، ودلل على ذلك: “لاختيارهم لباس الصوف” وهذا هو الشاهد.
بل إن الصوفيَّة الذين وافقوا القشيري في أنَّ لفظة (تصوف) ليست مشتقة، لم يذهبوا إلى ما ذهب إلى الأخ الدكتور الفاضل المحاور من “أن الصوفية لم يُعرفوا ولم يشتهروا بلباس الصوف”، مع أنَّه يحتج بهم في الأولى ولا يحتج بهم في الثانية، فهل هذا إلا تحكم وتناقض؟!
فقد احتج الدكتور الفاضل المحاور بالإمام الهجويري في “مسألة عدم الاشتقاق”، ووصفه بأنَّه قطب التصوف الفارسي، وأنَّه في ميزان الحقيقة الصوفيَّة ثقيل. لكن –كما ترون- فإن الأخ الدكتور الفاضل المحاور –وفقه الله- لم يعر هذا القطب الصوفي الثقيل أي ثقل –ولو بوزن الريشة- حين قرر في بابٍ كاملٍ أنَّ عادة الصوفية وشعارهم لبس مرقعات الصوف، ولم يُبال بهذا القطب الصوفي الثقيل، لأنه يُخالف رأيه هنا!
وكذلك نجد الإمام الصوفي مصطفى العروسي، في كتابه (نتائج الأفكار القدسية في بيان معاني شرح الرسالة القشيرية)، مع أنَّه لا يخالف القشيري في مسألة “عدم الاشتقاق“، إلا أنَّه يرى أنَّ الصفا ولبس الصوف معانٍ “لا يخلو عنها الصوفي باعتبار رسمه وحاله”.
فالذي خفي على أخي الدكتور الفاضل المحاور أنَّ الذين ينازعون في اشتقاق التصوف من الصوف –وهم قلةٌ ولا دليلَ معهم إلا التهويل، وسيجري بيانه بإذن الله- لا يُنازعون في أنَّ الصوفية عرفوا واشتهروا بلبس الصوف، وأن هذه هي عادة أغلبهم وظاهر حال أكثرهم.
هذه مجرد أمثلة قليلة أسوقها هنا خشية الإطالة والملل. وعدم معرفة وسماع الدكتور الفاضل المحاور هذه النصوص، أفضل من معرفته إياها، لأن لازم الأخير أشنع.
وبعد ما ذكرنا –في التعليق الأول- معنى قول القشيري في الاختصاص، وقول أئمة الصوفية: بم أجاب الدكتور الفاضل المحاور وفقه الله في تعقيبه عليَّ؟
قال -وهو لا يزالُ يصرُّ أن دليله من الواضحات-: “القشيري كلامه واضح، أي لم ينفردوا، فالاختصاص هو الانفراد، وفي اللغة: اختص بالأمر: انفرد به. وإذا انفرد قوم بأمر، فقد اشتهروا به قطعا، وإذا لم يختصوا به، لم يشتهروا به، فثمة علاقة لازمة بين الشهرة والاختصاص، من أنكرها فهو يجادل في الواضحات”.
أقول: مثل هذا الكلام هو ما عنيته حين ذكرتُ أنَّ في كلام أخي الدكتور الفاضل المحاور إطلاقات غير محررة وغير علميَّة، فقد أوجب –سابقًا- التلازم بين نسبة التصوف للصوف وبين إسلاميته ومن عدم ذلك عدم الإسلامية، كما سبقَ أن أطلقَ أن أحداً لم يتعقَّب القشيريَّ فيما ذكره. وكل هذا غلط ينافي الحقيقة العلميَّة.
وهاهو هنا يقرر الملازمة بين (الشهرة) و (الاختصاص)، ففي رأيه أنَّ من لم يختص بشيءٍ، فلا يمكن أن يشتهر به. وهو كلامٌ يبلغ الغاية في الغرابة والعجب!!
حسناً… فلنتأمل في هذه الأمثلة: عنترة بن شداد العبسي اشتهر بالشجاعة، فهل اختص بها دون سائر البشر؟ حاتم الطائي اشتهر بالكرم، فهل اختص به دون سائر الخلق؟ إياس بن معاوية المزني اشتهر بالذكاء، فهل اختص به دون سائر الناس؟ أخي الدكتور الفاضل المحاور اشتهر ببحوثه في التصوف، فهل اختص بذلك دون سائر الناس؟
كل هؤلاء اشتهروا بخصالٍ عُرِفُوا بها، وإن كان غيرهم يشاركهم فيها. فكذلك حين يقال: “إن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف“، فلا يلزم من هذا أن يكونوا مختصين به كما توهم أخونا الدكتور الفاضل المحاور. فحين يقول القشيري: “إن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف“، فلا يصلح أن يستنبط من كلامه “أنهم لم يشتهروا به ولا عرفوا به وأعرضوا عن لبسه، فلم يتميزوا به“. خاصةً مع تقريرات علماء كثيرين جداً، ذكروا شهرة الصوفيَّة بلبس الصوف، وهذا الأمر ليس فيه خفاء حيث إنَّ لباس الصوف ظاهرة يشاهدها الصوفي وغير الصوفي.
لقد كان عمدة كلام أخي الدكتور الفاضل المحاور –وفقه الله- أنَّ أحداً لم يتعقب القشيري وأنَّهم وافقوه على رأيه. وقد نقلت نصوصا عديدة –سابقًا ولاحقًا- في تعقبهم له، لكن أخي الدكتور الفاضل المحاور في تعقيبه التالي عليَّ بين رأيه بكل وضوح وهو أنَّ تلك التعقيبات التي ذكرتُها وأوردتُها عليه لا تعدو أن تكونَ مناوشاتٍ وتعليقاتٍ وَجِلةً على استحياء لا ترتقي لمستوى النقد!
حسناً؛ إن سلمنا جدلاً بذلك: فالمناوشة والتعليق الوَجِل، هل يصلح أن يكون دليلاً على قولك : “إنهم سكتوا ووافقوا على قوله“؟ هنا مشكلةُ فهمٍ ومنهجٍ. فالانتقاد الوجل الذي يأتي على استحياء، هل من الأنسب تصنيفه في خانة الموافقة أو المعارضة؟!
مشكلة منهجية أخرى عند أخي الدكتور الفاضل المحاور: فهو ينقل عن القشيري والهجويري إنكار نسبة التصوف إلى الصوف. ثم يقول: “لا مصلحة لهما من الإنكار، وهما عالمان بحالهم… وهو من قبيل وشهد شاهد من أهلها”.
حسناً؛ ماذا عن الآخرين الذين نسبوا التصوف إلى لبس الصوف؟ أليسوا عالمين بالتصوف؟ وهل لهم مصلحة في ذلك؟ وخصوصاً أنَّ الذين ذكروا هذا علماء من داخل الدائرة الصوفية ومن خارجها، مثل شيخ الإسلام ابن تيميَّة، والعلامة المؤرخ ابن خلدون وغيرهم كثير، فهل هؤلاء لهم مصلحة في تزكية الصوفيَّة؟!
مشكلة منهجية ثالثة: كنت أفهم من كلام أخي الدكتور الفاضل المحاور، أنَّ التصوف فكرة واحدة غالية ليس فيها اعتدال، وأنَّ من لم يصل لحد التصوف الغالي، فهو لم يتحقق بالتصوف، ولم يعرفه على حقيقته. لكني رأيته حين أراد أن يستدل بكلام القشيري والهجويري، قال: “هما قطبان: القشيري قطب صوفية العرب، والهجويري قطب الفرس… فكلاهما في ميزان الحقيقة الصوفية ثقيل… ليس كقول أحدهم”.
فنحن الآن نحتاج لمعرفة رأي أخي الدكتور الفاضل المحاور في مدى إحاطة هذين الإمامين الصوفيين بمعنى التصوف وحقيقته، حتى نعتمد كلامهما أو نسقطه. فإن كانا يعرفانه وهما لم يتحققا بالتصوف الفلسفي، فكلام أخي الدكتور الفاضل المحاور في تقرير أنَّ التصوف لا اعتدال فيه كلام خاطئ، إن كانا تحققا بالتصوف الفلسفي فهل هم زنادقة؟ وإن كانا غير محققين له، فكيف يصح الاعتماد على كلامهما وجعله حجةً قاطعةً لأنهما قطبان في التصوف؟!
وللحديث بقيَّة بمشيئة الله، في تعليقات نقديَّة تالية… والله أعلم.