- عبدالرحمن عادل
- اسم الكتاب: الجذور الاجتماعية للنكبة: فلسطين 1858 – 1948م
- المؤلف: أكرم حجازي
- دار النشر: مدارات للأبحاث والنشر
- سنة النشر: 2015م
- عدد الصفحات: 250 صفحة
مقدمة:
يناقش هذا الكتاب واحدة من أهم القضايا المتعلقة بالمسألة الفلسطينية والتي روج لها الاحتلال الإسرائيلي أسطورة معينة ليخدم نظرته للمسألة الفلسطينية ويضلل بها عقول الشعوب العربية عن الحقيقة؛ ألا وهى قضية الأرض وكيف سيطر اليهود على الأراضي الفلسطينية، ومدى صحة المقولة التي تم الترويج لها والتي مفادها أن الفلسطينين باعوا أراضيهم لليهود. وعلى طول الكتاب يعرض الكاتب التطورات التي لحقت بالأرض وسبل التعامل معها وطرق تفاعل المجتمع معها منذ العهد العثماني والتغيرات الهامة التي لحقتها بعد قانون الطابو، وكيف فتح الطريق أمام الرأسمالية الغربية واليهودية لتدخل فلسطين. وأخيرًا يتناول الدور الجوهري والرئيسي للاحتلال البريطاني الذي مزق البناء الاجتماعي والاقتصادي وهيأ كل السبل الممكنة لتحقيق وعد بلفور ببناء وطن قومي لليهود في فلسطين، ليمثل حلًا نهائيًا للمسألة اليهودية. ويكشف بذلك الكاتب شكل التآمر اليهودي الكولونيالي الذي زرع ذلك السرطان الخبيث (الكيان الإسرائيلي) في جسد الأمة العربية.
أولًا: فلسطين عشية العهد العثماني
كانت فلسطين مجتمعًا زراعيًا ريفيًا، يتكتل معظم سكانه في النصف الشمالي من البلاد حيث الأراضي الزراعية الخصبة تاركين النصف الجنوبي شبه الصحراوي لنحو 10% من السكان البدو. وكان غالبية السكان يعملون بالزراعة، وكانت حياتهم تتمحور حول الأرض وزراعتها ولم تكن حينها قد ظهرت بعد فكرة ملكية الأراضي؛ بمعنى أن الأرض لم تكن بعد سلعة تُمتلك. وإنما كانت مشاعًا بين الناس، ونظام المشاع هذا كانت له خصائص، أولها: أن الحق في استعمال أراضي القرية مشترك لجميع أفراد القرية. وثانيها: أن كل حصة لها مساحة متساوية من الأرض المشتركة المزروعة. وثالثها: كانت الأراضي الصالحة للزراعة يعاد توزيعها دوريًا – بالقرعة عادة- حسب عدد الحصص التي يمتلكها كل فرد له حق الحيازة.
أما عن قسمة المشاع فقد كانت الأرض تُقسم بين جميع أفراد القرية، وباعتبارها حقًا جماعيًا لا فرديًا، وكانت مسئولية التقسيم تقع على عاتق ما يسمى بـ”مجلس الاختيارية” وليس شيخ القرية وحده، والمجلس هذا يعبر عن التركيب الاجتماعي للقرية؛ إذ إنه يتكون من وجهاء وممثلي العائلات التي تحتويها القرية. وكان التقسيم يتم بالقرعة، حيث يعطى الفلاح قطعة أرض تتناسب وعدد الأفدنة التي ينوى زراعتها، والقاعدة كانت أن يمنح فدان واحد من الأرض لكل محراث يجره زوجان من الثيران. أى أن الفلاح الذي يملك زوجين من الثيران يعطى فدانين. وكان التقسيم يتم كل فترة زمنية معينة تتراوح بين سنة وخمس سنوات، وتنتهي حقوق الفلاح في التصرف في الأرض حال انقضاء فترة القسمة.
ثانيًا: تسليع الأرض بعد قانون الطابو 1858
مَثَّل إصدار الدولة العثمانية لقانون الطابو عام 1858 بُغية تنظيم وتقنين ملكية الأرض في الدول الخاضعة لحكمها، تحولًا تاريخيًا في علاقة الناس بالأرض. فالأرض التي كانت ملكية عامة تقسم وفقًا للمشاع ويستفيد منها الجميع، تحولت لسلعة يمكن شرائها وامتلاكها. وقد أصبح لزامًا على أصحاب الأراضي والمستفيدين منها، تسجيل الأراضي في دواوين الدولة والحصول على سندات ملكية أو تصرف حتى يمكنهم زرعها أو الانتفاع منها. وبهذا أصبحت الأرض ملكية للدولة، وعلى الفلاحين أن يقوموا بالحصول على إذن من الدولة لاستغلال الأرض وزراعتها مقابل دفع الضرائب لها، وتصبح الأراضي التي لم تسجل رسميًا ملك للدولة تستطيع التصرف فيها بالبيع أو الإيجار.
وقد اندفعت الرأسمالية المتوحشة ممثلة في العائلات الغنية والمُلاك العرب والقناصل الأجانب، لشراء الأراضي وتسجيلها والحصول على سندات ملكيتها. وفي المقابل ولأسباب عدة منها؛ التجنيد الإجباري والجهل وقلة الثقة في الحكومة وقلة الخبرة في الأمور القانونية، وارتفاع الضرائب التي كانت تدفع الفلاحين للتخلي عن الأرض، وما سمى بنظام المراباة حيث كان الفلاح يقوم برهن المحصول لأحد الأغنياء مقابل أن يدفع له الأخير الضرائب، بسبب هذا لم يقم كثير من الفلاحين بتسجيل أراضيهم وهو ما سهل فيما بعد عملية استيلاء الدولة أو الأغنياء وطبقة الملاك على أراضيهم. واضطر هؤلاء الفلاحين للعمل عند الملاك الجدد، وكان هذا هو المدخل الذي نفذ منه رأس المال اليهودي إلى فلسطين.
ثالثًا: بداية الاستيطان
بدأ الاستيطان اليهودي في العديد من الدول حول العالم ليست فلسطين إلا واحدة منها، ذلك أنه لم يكن قد تبين لليهود بعد أية أرض ميعاد هى المقصودة. وكانت البداية في فلسطين تقع على عاتق رأس المال الفردي، وبحثًا عن الأمل والأمن بدأوا في توطين الجماعات اليهودية الدينية والأسر الهاربة من الاضطهاد الأوربي الشرقي – خاصة الروسي- في فلسطين، وكان هذا هو الحل للمسألة اليهوية التي أرقت أوروبا؛ أى الاستيطان وذلك للتخلص من شرط الاندماج في قومية معينة حتى يُسمح لهم بالعيش داخل الدولة.
وبدأ أثرياء اليهود في تمويل عملية الاستيطان في فلسطين، وكان أبرز هؤلاء الممولين هو البارون روتشيلد، الذي مول وحده بناء 14 مستوطنة. ومن ثم أخذ اليهود في تكوين جميعات وصناديق لجمع التبرعات من اليهود الأثرياء، لبناء المستوطنات ودعم عملية الاستيطان، من هذه الجمعيات والصناديق؛ جمعية الأيكا وصندوق الائتمان اليهودي- يكت والصندوق القومي اليهودي- كيرن كاييمت. وعلى مدار الفترة بين عامى 1856 – 1918 بلغ مجموع مساحات الأراضي التي تملكها الرأسماليون اليهود والشركات الرأسمالية الصهيونية في فلسطين نحو 634 ألف دونم من جميع أنواع الأراضي الزراعية وغير الزراعية. أغلب عمليات الشراء هذه تمت برعاية وتسهيلات القناصل الأجانب والتجار المسيحين كعائلة سرسق اللبنانية الشهيرة.
رابعًا: فلسطين تحت الانتداب البريطاني:
وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني في 1918 وعلى الفور أخذت بريطانيا في بسط سيطرتها على كامل الأراضي الفلسطينية وفرض شرعية سلطة الاحتلال الجديدة وذلك عن طريق صك الانتداب، الذي صدر عن عصبة الأمم في 1921 والذي منح بريطانيا حق إدارة فلسطين وكلفها بإنشاء وطن قومي لليهود على تلك الأراضي. ثم صدر عن البلاط الملكي دستور فلسطين، والذي يحدد مهمات حكومة الانتداب وصلاحيات المندوب السامي البريطاني في فلسطين، وقد كفل الدستور للمندوب السامي حق التصرف المطلق في الأراضي الفلسطينية. وبهذا مثَّل صك الانتداب ودستور فلسطين الآليات السياسية المعبرة عن المشروع الاستعماري البريطاني- الصهيوني- الدولي.
وبدأ المناديب البريطانيون منذ بداية الانتداب في طرح منظومة قوانين بغرض فرض سيطرة الدولة التامة على الأراضي؛ فوضِعت قوانين للسيطرة على الأراضي المحلولة والأراضي الموات والغابات، ووضِعت قوانين لنزع الملكية، تُخول الدولة الحق في انتزاع ملكية الأراضي بدافع المنفعة العامة (وهذه المنفعة تحددها الدولة بالطبع) ولا يوضع أى اعتبار في نزع الملكية إلا لما يحدده المندوب السامي. ولأجل إتمام هذه السيطرة أقام الاحتلال شبكة طرق ومواصلات واسعة النطاق لتمشل كافة أنحاء البلاد، وذلك حتى تستطيع مسح كافة أراضي الدولة وتحديد ملكيتها وبسط سيطرتها على ما تشاء من تلك الأراضي. وبمقارنة بسيطة بين الأراضي التي كانت تخضع للدولة في فترة الحكم العثماني وكانت تسمى بالميري، والأراضي التي أصبحت خاضعة للدولة في عهد الاحتلال، نجد أنها تضاعفت ووصلت إلى حوالي 60% من مساحة الأراضي الفلسطينية.
خامسًا: تفكيك بنية المجتمع
كانت عملية تحويل الملكية العامة (المشتركة) إلى ملكية خاصة (فردية) عملية تنسجم مع قيم الرأسمالية التي مثلت بريطانيا في ذلك الوقت نموذجها المميز. وهو ما أخذت بريطانيا الاستعمارية في فرضه على المجتمع الفلسطيني، بغرض احلال نموذج رأسمالي اجتماعي واقتصادي جديد يُمكن من خلاله تفكيك بنية المجتمع الأصلية – التي كانت تقوم على آلية المشاع فيما يخص استعمال الأرض- لتتمكن من بناء الوطن القومي لليهود. وقد نجحت بريطانيا في تحطيم البناء الاجتماعي والاقتصادي التقليدي للمجتمع، باستخدام عدة أليات أبرزها: قوانين الأرض التي سبق ذكرها وخاصة قانون التسوية، وتصفية الملكية، وسياسة الامتيازات والإفقار الاقتصادي المتعمد للشعب الفلسطيني.
فمن خلال قانون التسوية التي قامت على إثره سلطات الاحتلال بمسح الأراضي وتحديد مالكيها ومستأجريها، استطاعت بريطانيا مضاعفة الضرائب المفروضة واستطاعت تفكيك المشاع كآلية للتقسيم بين الفلاحين، فتقلص المشاع القروي من 70% من مساحة فلسطين عشية الاحتلال البريطاني حتى وصل إلى 20% عام 1940. كما ساعد القانون في تفريغ مساحات شاسعة من الأراضي ليمكن استقبال هجرات جديدة لليهود. ومع عملية الإفقار المتعمدة التي نتجت عن الرفع الهائل للضرائب والمراباة التي كان يضطر لها الفلاحون لسداد الضرائب، وعقب إغلاق البنك الزراعي العثماني الوحيد في البلاد والذي كان يعتمد عليه الفلاحون في الاقتراض، اضطر كثير من الفلاحين لبيع أراضيهم أو تركها غصبًا تحت وطأة الديون والفوائد. وأخيرًا كان ما منحته بريطانيا من امتيازات مطلقة في الأراضي للشركات اليهودية، هو المعول الأخير في القضاء على ما تبقى للمجتمع الفلسطيني من تماسك أو عوامل قوة.
سادسًا: الغدر ونشأة الكيان المُغتَصِب
كان مما ابتدعته بريطانيا حين دخلت فلسطين، أن المجتمع هناك يتكون من أعراق متباينة وهو ما يصعب عليها عملية الموازنة في الحكم بين العرب واليهود. غير أن هذا لم يكن إلا غطاءً كاذبًا يمكنها من تمرير المشاريع الاستيطانية اليهودية التي تنسقها مع الوكالة اليهودية. وبعد كل التواطؤ والتسهيلات والقوانين التي سنتها بريطانيا لتسهل لليهود حيازة الأراضي والانتشار في فلسطين، لم يتجاوز مقدار ما استحوذ عليه اليهود بالشراء والمراباة والامتيازات وفقًا لأقرب الإحصائيات للواقع 7.5% من مساحة الأراضي الفلسطينية. وهذا ما جعل عملية تقسيم فلسطين في أواخر عهد الانتداب البريطاني عملية صعبة لم تستطيع بريطانيا إتمامها، بسبب التفوق الكاسح للعرب في عدد السكان والمساحة الممتلكة. وهو ما اضطرها إلى إلقاء عبئها على الأمم المتحدة بحيث تجعل المشكلة، مشكلة دولية وليست خاصة بها أو باليهود وحدهم.
وهكذا شكلت الأمم المتحدة لجنة لتقوم بتشريع عملية الاغتصاب والتقسيم سميت بالانسكوب، وقامت هذه اللجنة معتمدة على بيانات السجلات البريطانية الرسمية لعام 1945 حول فلسطين بالتقسيم، لتعطى لليهود مساحة في فلسطين تعادل 56.47% وهى الدولة اليهودية، ومساحة 42.88% للعرب وهى الدولة العربية، وأخيرًا منطقة دولية في القدس الدولية تبلغ 0.65% من إجمالي المساحة. وما بين قرار التقسيم في 1947 والانسحاب البريطاني المنتظر في 1948 كان المجتمع الفلسطيني يتعرض لحرب دامية من العصابات اليهودية وعمليات قتل ونهب جماعية وطرد للسكان نحو الدول العربية المجاورة لاسميا الأردن وسوريا ولبنان.
سابعًا: حرب 48 المسمار الأخير في نعش الأرض الفلسطينية
قبل ساعات من تدخل القوات العربية، أعلنت القيادة الصهيونية مساء الجمعة في 14 مايو 1948 قيام “دولة إسرائيل” في فلسطين. واستمرت الحرب العربية- الإسرائيلية، حتى وافقت الدول العربية على اتفاقيات الهدنة الدائمة مع “إسرائيل” والتي كان آخرها في 20 يوليو 1949 وقعتها سوريا، وكان من نتائج هذه الهدنة أن توسعت أملاك الدولة اليهودية من 56.47% من مساحة فلسطين بعد التقسيم إلى 77.4%، وهى نسبة توازي تقريبًا ما تبقى من فلسطين حاليًا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كان لتوقيع الهدنة الدائمة بين “إسرائيل” والدول العربية انهيار كلي للنظام الاجتماعي في المجمتمع الفلسطيني، فعلى المستوى الديمغرافي هُجر قرابة المليون فلسطيني من أراضيهم، توزعوا على الدول العربية المجاورة. وتضاعفت ملكية اليهود بما يزيد عن عشرة مرات. وأصدرت “إسرائيل” مجموعة قوانين شرعنت بها سيطرتها على ممتلكات الفلسطينين المهجرين والفارين بسبب الحرب، واستولى اليهود على إحدى عشرة مدينة عربية، وحوالي ألفى مليون جنيه إسترليني قُدرت قمية ممتلكات الفلسطينين المهاجرين. كما تنازلت الحكومة البريطانية في مارس 1950 لـ”إسرائيل” عن جميع حقوق وأملاك حكومة الانتداب ضمن الأراضي التي تحتلها القوات اليهودية.
خاتمة:
لم تنقص الأراضي الفلسطينية منذ ضمتها الدولة العثمانية وحتى خرجت منها شبرًا واحدًا، وذلك على عكس بريطانيا التي دخلتها كاملة وخرجت منها وهى عدم تقريبًا. وبالرغم من ذلك يمكن القول إن قانون الطابو 1858 الذي وضعته الدولة العثمانية كان بمثابة الشرخ التاريخي في جدار العالم العربي، وذلك بفعل ما أفضى إليه من تسليع للأرض وتحويلها لملكية خاصة يمكن شرائها وامتلاكها. وقد أثبت الكاتب في هذا الكتاب بطلان الادعاءات القائلة بأن الفلسطينين هم من باعوا أراضيهم، وبرهن على أن الغالبية العظمى من الأراضي المباعة، باعها الملاك العرب من غير الفلسطينين والباقي تحصل عليه اليهود بفضل الانتداب البريطاني. ثم كان الاجتياح الكبير بعد أن وضع العرب سلاحهم ورفعوا راية المهادنة، وهو ما أدى إلى تضخم السرطان واستفحاله في جسد الأمة وتمكنه منها وبدا أن استئصاله أصعب يومًا بعد يوم.
كتاب قيم جدا و عرض اكثر من رائع موفق بإذن الله