في نص مُسلسل، نثبتُ صوراً التقطها قدماؤنا من العلماء والأدباء لأوضاع عاشوها وسياقات خبروها؛ في توصيفات ربما يكون بعضها متجدداً بشكل أو بآخر.
المصوّر: أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قُتيبة (213-276هـ).
مصدر الصورة: أدب الكاتب
(تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد، بيروت: دار المعرفة، ب. ت.، ص 2-5).
الصورة الملتقطة
“فإنِّي رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيِّرين، ولأهله كارهين: أما النَّاشئ منهم فراغب عن التعليم، والشَّادي تارك للازدياد، والمتأدِّب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ؛ ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين فالعلماء مغمورون، وبكرَّة الجهل مقموعون حين خوى نجم الخير، وكسدتْ سوقُ البرِّ، وبارتْ بضائعُ أهله، وصار العلم عاراً علَى صاحبه، والفضل نقصاً وأموال الملوك وقفاً علَى شهوات النفوس، والجاه الَّذي هو زكاة الشرف يُباع بيع الخلق، وآضت المروءات في زخارف النَّجد وتشييد البُنيان، ولذَّات النفوس في اصطفاق المزاهر ومعاطاة الندمان.
ونبذتْ الصنائعُ، وجُهل قدر المعروف، وماتتْ الخواطرُ، وسقطتْ هممُ النفوس، وزُهد في لسان الصدق وعقد الملكوت فأبعد غايات كاتبِنا في كتابته أن يكون حسن الخط قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنِا أن يقول من الشِّعر أبياتاً في مدح قَيْنَة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئاً من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحدِّ المنطق، ثمَّ يعترض علَى كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب وهو لا يدري منْ نقله، قد رضي عِوضاً من الله ومما عنده بأن يُقال: فلان لطيف وفلان دقيق النظر يذهب إلى أن لُطف النظر قد أخرجه عن جملة النَّاس وبلغ به علم ما جهلوه؛ فهو يدعوهم الرَّعاع والغُثاء والغُثْر، وهو لعمر الله بهذه الصفات أولى، وهي به أليق؛ لأنه جهل وظنَّ أن قد علم، فهاتان جهالتان؛ ولأن هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم يجهلون.
ولو أن هذا المعُجب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، نظرَ من جهة النظر لأحياهُ الله بنور الهدى وثَلَجِ اليقين، ولكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب، وفي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فنَصَبَ لذلك وعاداهُ. وانحرف عنه إلى علم قد سلَّمه ولأمثاله المسلمون، وقلَّ فيه المتناظرون، له ترجمةٌ تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم؛ فإذا سمع الغُمْرُ والحدَثُ الغِرُّ قوله: الكون والفساد، وسَمْع الكيان [كتاب أرسطو]، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة؛ راعه ما سمع، وظن أنَّ تحت هذه الألقاب كلَّ فائدة وكلَّ لطيفة، فإذا طالعها لم يَحْلَ منها بطائل، إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعَرَضُ لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم، والكلام أربعة: أمر، وخبر، واستخبار، ورغبة؛ ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي: الأمر، والاستخبار، والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب وهو الخبر، والآنُ حدُّ الزمانين، مع هذيان كثير، والخير ينقسم إلى تسعة آلاف وكذا وكذا مائة من الوجوه، فإذا أراد المتكلم أن يستعمل بعض تلك الوجوه في كلامه كانت وَبالاً على لفظه، وقيداً للسانه، وعيّاً في المحافل، وعُقْلَة عند المتناظرين.
ولقد بلغني أن قوماً من أصحاب الكلام سألوا محمد بن الجَهْم البرمكيَّ أن يذكر لهم مسألة من حد المنطق حسنة لطيفة، فقال لهم: ما معنى قول الحكيم: (أول الفكرة آخر العمل، وأول العمل آخر الفكرة ) ؟ فسألوه التأويل، فقال لهم: مَثَلُ هذا رجل قال: (إنِّي صانع لنفسي كِنَّا) فوقعتْ فكرتُه على السقف، ثمَّ انحدر فعلم أن السقف لا يكون إلا على حائط، وأن الحائط لا يقوم إلا على أُسّ، وأن الأُسَّ لا يقوم إلا على أصل، ثمَّ ابتدأ في العمل بالأصل، ثمَّ بالأسِّ، ثمَّ بالحائط، ثمَّ بالسقف؛ فكان ابتداء تفكره آخر عمله وآخر عمله بدء فكرته؛ فأية منفعةٍ في هذه المسألة؟ وهل يجهل أحدُ هذا حتى يحتاج إلى إخراجه بهذه الألفاظ الهائلة، وهكذا جميع ما في هذا الكتاب؛ ولو أن مؤلف حد المنطق بلغ زماننا هذا حتى يسمع دقائق الكلام في الدين والفقه والفرائض والنحو لعدَّ نفسه من البُكْمِ، أو يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لأيقن أن للعرب الحكمة وفَصْلَ الخطاب … فإني رأيتُ كثيراً من كُتَّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدَّعَة واستوطؤُا مركب العجز، وأعفَوْا أنفسهم من: كدِّ النظر وقلوبهم من تعب التفكر، حين نالوا الدرَك بغير سبب، وبلغوا البِغْية بغير آلةٍ؛ وَلَعمري كان ذاك فأين همةُ النفس؟ … وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ومن الكتابة إلا بالاسم، ولم يتقدم من الأداة، إلا بالقلم والدواة، ولكنها ….”
وأوهذه الصورة قد تستحق جانباً من التأمل الفكري والتنقيب البحثي والحفر التاريخي. وإلى صورة أخرى.