الدين

برد اليقين

مشاعل آل عايش

الحمدلله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى،،

لاشك أن طمأنينة القلب واستقرار العلم فيه، من أهم وأعظم الأمور التي ينبغي على المسلم الاهتمام بها، لأنه متى كانت الأمور غير مستقرة، كان ذلك سببًا في كثرة الاضطرابات والتقلبات، وخاصة القلوب، فما أحوجها للطمأنينة والاستقرار.

وهذا أمر لا يحصل إلا باليقين، فاليقين ضد الريب والشك وهو نوع من الحركة والاضطراب تحصل للقلب، واليقين يجعل القلب مستقرًا، فهو حقيقة من حقائق الإيمان.

فاليقين من أهم أعمال القلوب كالمحبة لله تعالى، والتوكل عليه، والإنابة إليه والخوف منه والرجاء، وإخلاص الدين له، والصدق، وغيرها كثير.

ولا شك أن عمل القلب هو روح العبودية ولبها، وإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح، لأن المقصود بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها إنما هو صلاح القلب وكماله وقيامه بالعبودية بين يدي خالقه سبحانه وتعالى.

“ثم اليقين ينتظم منه أمران: علم القلب، وعمل القلب، فإن العبد قد يعلم علمًا جازمًا بأمرٍ ومع هذا فيكون في قلبه حركة واختلاج من العمل الذي يقتضيه ذلك العلم، كعلم العبد أن الله رب كل شيء ومليكه ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكل عليه وقد لا يصحبه العمل بذلك، إما لغفلة القلب عن هذا العلم والغفلة هي ضد العلم التام وإن لم يكن ضدًا لأصل العلم، وأما للخواطر التي تسنح في القلب من الالتفات إلى الأسباب وإما لغير ذلك”(1).

وهذا اليقين يحصل بثلاثة أشياء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أحدها: تدبر القرآن الكريم، والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه حق، والثالث العمل بموجب العلم قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53](2).

وأصحاب اليقين هم أهل الذكاء والفطنة الأكياس، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يعيبون سهم الحمقى وصيامهم، ولمثقال ذرة من بر من صاحب تقوى ويقين أفضل وأرجع وأعظم من أمثال الجبال عبادة من المغتربين(3).

واليقين الغنى فقد جاء في أثر مرسل عن يحيى بن أبي كثير، قال: قال رسول الله ﷺ: «الكرم التقوى، والشرف التواضع، واليقين الغنى»(4).

وباليقين تحصل الإمامة في الدين قال سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24] وسيأتي الحديث عنها.

ولنشرع الآن في المقصود مبتدئين الحديث عن تعريف اليقين عند أهل اللغة والاصطلاح.

 

تعريف اليقين:

اليقين في اللغة:

اليقين هو إزاله الشك بالعلم، وتحقيق الأمر بعد حصول الشك فيه، فاليقين: العلم وزوال الشك، قال ابن منظور: اليقين العلم وإزاحة الشك، وتحقيق الأمر يقال أيقن يوقن إيقانا فهو موقن، ويقن ييقن يقنا فهو يقن واليقين نقيض الشك.

ويقن الأمر يقنا ويقنا وأيقنه وأيقن به وتيقنه واستيقنه واستيقن به وتيقنت بالأمر واستيقنت به كله بمعنى واحد، وأنا على يقين منه، وربما عبروا عن الظن باليقين، وباليقين عن الظن(5).

وفي المصباح المنير: اليقين: العلم الحاصل عن نظر واستدلال ولهذا لا يسمى علم الله يقينا ويقن الأمر ييقن يقنا من باب تعب إذا ثبت ووضح فهو يقين فعيل بمعنى فاعل ويستعمل متعديا أيضا بنفسه وبالباء فيقال يقنته ويقنت به وأيقنت به وتيقنته واستيقنته أي علمته(6).

فاليقين هو العلم بالشيء بعد حصول الشك فيه، ويكون بالاستدلال والنظر جاء في الفروق اللغوية: فهو العلم بالشيء استدلالًا بعد أن كان صاحبه شاكًا فيه، ولذلك لا يوصف الباري -سبحانه – بأنه متيقن، ولا يقال: تيقنت أن السماء فوقي، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا.

وقيل: هو العلم بالحق مع العلم بأنه لا يكون غيره، ولذلك قيل: هو مركب من علمين(7).

والفرق بين العلم واليقين: أن العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة، واليقين: هو سكون النفس وثلج الصدر بما علم.

واليقين ضد الشك فيقولون: شك ويقين، وقلّما يقال شك وعلم، فاليقين ما يزيل الشك دون غيره من أضداد العلوم(8).

ومن العلماء من يقول إن اليقين من صفات العلم فهو فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال: علم يقين ولا يقال: معرفة يقين(9).

 

واليقين في الاصطلاح:

اليقين: هو العلم الحاصل بعد الشك.

والعبارات الواردة في تعريف اليقين عند أهل العلم كثيرة، نذكر طائفة منها فقد قيل في تعريف اليقين: هو ارتفاع الريب في مشهد الغيب.

وعند أهل الحقيقة: رؤية العيان بقوة الإيمان، لا بالحجة والبرهان.

وقيل: بمشاهدة الغيوب بصفاء القلوب، وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار.

وقيل: هو طمأنينة لقلب على حقيقة الشيء، يقال: يقن الماء في الحوض، إذا استقر فيه.

وقيل: اليقين: رؤية العيان، وقيل: تحقيق التصديق بالغيب بإزالة كل شك وريب.

وقيل: اليقين: نقيض الشك. وقيل: اليقين: رؤية العيان بنور الإيمان(10).

ويقول الجرجاني: اليقين في الاصطلاح: هو اعتقاد الشيء بأنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا، مطابقا للواقع غير ممكن الزوال، والقيد الأول جنس يشتمل إلى الظن أيضا، والثاني يخرج الظن، والثالث يخرج الجهل، والرابع يخرج اعتقاد المقلد المصيب(11).

وعرفه الأصفهاني بقوله: هو سكون الفهم مع ثبات الحكم(12).

وقال ابن الجوزي: “اليقين ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر وهو أبلغ علم مكتسب”(13).

 

درجات اليقين:

واليقين على ثلاث درجات كما يذكر صاحب المنازل، وأول هذه الدرجات

– علم اليقين: وهو قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق

– عين اليقين: وهو الغنى بالاستدراك عن الاستدلال، وعن الخبر بالعيان.

– حق اليقين: وهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين(14).

يقول الجرجاني -رحمه الله-: “حق اليقين عبارة عن فناء العبد في الحق، والبقاء به علمًا وشهودًا، وحالاً لا علمًا فقط، فعلم كل عاقل الموت علم اليقين، فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين، فإذا أذاق الموت فهو حق اليقين، وقيل: علم اليقين: ظاهر الشريعة، وعين اليقين: الإخلاص فيها، وحق اليقين: المشاهدة فيها”(15).

واليقين على ثلاثة أوجه كما يقول أبو بكر الوراق -رحمه الله-:

يقين خبر، ويقين دلالة، ويقين مشاهدة، ومعنى قوله يقين الخبر هو سكون القلب إلى خبر المخبر ووثوقه به.

وبيقين الدلالة: ما هو فوقه: وهو أن يقيم له مع وثوقه بصدقه الأدلة الدالة على ما أخبر به وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن فإنه سبحانه مع كونه أصدق الصادقين يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره فيحصل لهم اليقين من الوجهين: من جهة الخبر ومن جهة الدليل، فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة، وهي يقين المكاشفة بحيث يصبر المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب: كنسبة المرئي إلى العين، وهذا أعلى أنواع المكاشفة(16).

وله شعب أربع كما يقول الخليفة على بن أبي طالب -رضي الله عنه-: فكان يقول: “اليقين على أربع شعب، على تبصرة الفطنة، وتأويل الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن أبصر الفطنة تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين”(17).

 

فضل اليقين وأهميته:

خاص الله -عز وجل- أهل اليقين بالانتفاع بالآيات المبثوثة في أرجاء هذا الكون العظيم.

– فأهل اليقين هم المنتفعون بالآيات والبراهين فقال سبحانه وهو أصدق القائلين: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ [الذرايات: 20]، ففي هذه الآيات يقول تعالى إن في الأرض عبر وعظات لأهل اليقين، وهم المنتفعون بهذه الآيات، وهذه العبر والعظات يقول العلامة الشوكاني -رحمه الله-: ﴿لأوَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ أي دلائل واضحة وعلامات ظاهرة من الجبال والبر والبحر والأشجار والأنهار والثمار، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذبة لما جاءت به رسل الله ودعتهم إليه، وخص الموقنين بالله لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه فينتفعون به(18).

– أهل اليقين هم أهل الفلاح والفوز فقد خص الله تعالى أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال سبحانه وتعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 4-5]. ولا شك أن لليقين منزلة عظيمة في الإيمان فهو كالروح للجسد يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله- وهو يتحدث عن منزلة اليقين: وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه وإذا تزوج الصبر باليقين: ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال الله -سبحانه تعالى- وبقوله يهتدي المهتدون: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].

وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾[الجاثية: 32].

فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره….. إلى أن يقول -رحمه الله-: ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورًا وإشراقًا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفًا منه ورضى به وشكرًا له وتوكلًا عليه وإنابة إليه فهو مادة جميع المقامات والحامل لها(19).

 

صاحب اليقين مبشر بالجنة:

فقد بشر النبي ﷺ المستقين بشهادة التوحيد بالجنة مصداق ذلك ما ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: “كنا قعودًا حول رسول الله ﷺ معنا أبو بكر وعمر في نفر فقام رسول الله ﷺ من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع فخرجت أبتغي رسول الله ﷺ حتى أتيت حائطًا للأنصار لبني النجار… إلى أن قال: قلت كنت بين أظهرنا فقمتَ فأبطأتَ علينا فخشينا أن تقطع دوننا ففزعنا فكنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب وهؤلاء الناس ورائي فقال يا أبا هريرة -وأعطاني نعليه- قال: «اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة…»(20)الحديث.

وعنه – رضي الله عنه- قال: «كنا مع رسول الله -ﷺ- فقام بلال ينادي فلما سكت قال رسول الله -ﷺ- من قال مثل هذا يقينا دخل الجنة»(21).

فصاحب اليقين قد بشره النبي ﷺ بالجنة، وأنه من أهلها وسيد الاستغفار من قاله موقن به كان من أهل الجنة، ففي الصحيح عن شداد بن أوس -رضي الله عنه-: عن النبي ﷺ أنه قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة»(22).

 

اليقين خير ما يعطى الإنسان:

عن أوسط البجلي قال: سمعت أبا بكر-رضي الله عنه- يخطب فذكر النبي ﷺ فبكى ثم قال: يعني النبي ﷺ: «عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وهما في الجنة، و إياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين، والمعافاة فإن الناس لم يعطوا شيئًا أفضل من المعافاة، أو قال: العافية، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا كونوا عباد الله إخوانًا»(23).

وفي رواية: «يا أيها الناس إن الناس لم يعطوا في الدنيا خيراً من اليقين والمعافاة فسلوهما الله -عز وجل-»(24).

فاليقين خير ما يعطاه المرء في هذه الحياة الدنيا ففيه وقاية من مصائب الدنيا والآخرة يقول الإمام الحسن البصري-رحمه الله-: “صدق رسول الله ﷺ باليقين طُلبت الجنة، وباليقين هُرِب من النار، وباليقين أوتيت الفرائض، وباليقين صبر على الحق، وفي معافاة الله خير كثير قد والله رأيناهم يتقاربون في العافية فلما نزل البلاء تفارقوا”(25).

فاليقين يدفع عن الإنسان عقوبات الآخرة، كما تدفع العافية أمراض الدنيا، يقول ابن القيم -رحمه الله-: في الحديث جمع بين عافيتي الدين والدنيا ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه(26)؛ ولذلك أمر النبي ﷺ أن نسأل المولى -جل وعلا- اليقين، وأن يهون به علينا مصائب الدنيا والآخرة فعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: قلما كان رسول الله ﷺ يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا الحديث…»(27).

وقد كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من دعائه: “اللهم هب لي إيمانًا ويقينًا ومعافاة ونية”(28).

وهذا عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول في دعائه: “اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفهماً، أو قال: وعلماً”(29).

وكان عطاء الخراساني -رحمه الله- لا يقوم من مجلسه حتى يقول: “اللهم هب لنا يقينًا بك حتى تهون علينا مصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتب لنا علينا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت به”(30).

 

اليقين من أسباب النجاة:

فاليقين من أسباب نجاة هذه الأمة المباركة فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله ﷺ: «نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل»(31)، لذلك خاف النبي -ﷺ- على أمته من ضعف اليقين فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «ما أخاف على أمتي إلا ضعف اليقين»(32).

وقد حكى الإمام الحسن البصري -رحمه الله- عن لقمان في وصيته لابنه -رضي الله عنهما: يا بني العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله(33).

من أسباب إجابة الدعاء:

واليقين إذا استقر في القلب كان من أسباب الإجابة عند الدعاء، فاليقين من شروط إجابة الدعاء فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل»(34)، ولهذا ينبغي للمسلم أن يبذل جهده في القيام بما يجب عليه، مع اليقين بأن الله يستجيب له، ويقبل منه العمل، ويغفر له عند الاستغفار، لأن المولى -جل وعلا- لا يخلف الميعاد سبحانه وتعالى.

 

علامات اليقين:

ولليقين علامات تدل عليه منها:

– قلة مخالطة الناس في العشرة.

– ترك مدح الناس وخاصة عند العطايا والهبات.

– التنزه عن ذم الناس عند حصول المنع منهم.

– ومن علاماته أيضًا النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به في كل حال(35).

من أقوال السلف رحمهم الله تعالى في اليقين:

فعبارات السلف رضي الله عنهم في اليقين كثيرة نذكر هنا طائفة منها تكون لنا كالزاد في موضوعنا هذا فعن خالد بن معدان -رحمه الله- قال: تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه.

وعن أبي بكر بن أبي مريم: ما نزل في الأرض شيء أقل من اليقين، ولا قسم بين الناس شيء أقل من الحلم(36)، وقال عمار بن ياسر: “كفى بالموت واعظًا، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلًا”(37).

ومن وصايا لقمان لابنه: قوله يا بني إن الصبر على المكاره من حسن اليقين، وإن لكل عمل كمالًا وغاية، وكمال العبادة الورع واليقين.

وعن الحسن البصري -رحمه الله- قال: “ما أيقن عبد بالجنة والنار حق يقينهما إلا خشع ووجل، وذل واستقام، واقتصر حتى يأتيه الموت”(38).

وما أجمل ما قاله ابن مسعود -رضي الله عنه- في اليقين حيث قال: “اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدًا على رزق الله، ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله -عز وجل-، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحلمه جعل الروح والفرج في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط”(39).

وقال السري -رحمه الله-: “اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيًا”.

وقال أبو بكر الوراق -رحمه الله-: “اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان وباليقين عرف الله وبالعقل عقل عن الله”(40).

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “اليقين الإيمان كله”(41)، وقال أيضا: “الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله”(42).

وعن سفيان الثوري -رحمه الله-: قال لو أن اليقين استقرّ في القلب كما ينبغي لطار فرحًا وحزنًا وشوقًا إلى الجنة أو خوفًا من النار(43).

وعن المغيرة بن حبيب -رحمه الله- قال: “رأى رجل عبد الله بن غالب فيما يرى قال: “يا أبا فراس، ما صنعت؟ قال: خير الصنيع، قال: إلام صرت؟ قال: إلى الجنة قال: ثم قال: بحسن اليقين وطول التهجد(44).

وقد روي عن السيد المسيح -عليه السلام- قوله: لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء(45).

فاليقين هو الذي يحمل السائر إلى الله-عز وجل- كما قال أبو سعيد الخراز-رحمه الله-: العلم ما استعملك، واليقين ما حملك، سماه مركبًا يركبه السائر إلى الله فإنه لولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به (46).

 

ثمار اليقين وفوائده:

ولليقين ثمار وفوائد يجنيها صاحب اليقين في الدنيا والآخرة، منها:

– أن اليقين يزيد المسلم قربًا من ربه وحبًا ورضى.

– القين هو لب الدين والمقصود الأعظم.

– يزيد العبد خضوعًا وخشوعًا لربه – جلَّ وعلا-.

– يورث التوكل على الله والزهد فيما عند الناس من متاع الدنيا الزائل.

– باليقين يسلك السائر إلى الله تعالى طريق السلامة إلى دار السلام.

– اليقين يضع صاحبه دائمًا في موضع الإخلاص والصدق.

– باليقين يكسب المسلم العزة والرفعة، والبعد عن مواطن الذلة والضعف.

– المتحلي بصفة اليقين يدرك مناه في الآخرة (47).

– أن اليقين من أسباب دخول الجنة، وحصول الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.

– واليقين من أسباب إجابة الدعاء.

– وباليقين يحصل النجاة من المهالك والمخاطر.

– وباليقين يستقر القلب ويحصل له الاطمئنان، فهو خير ما يعطاه الإنسان بعد العافية، -كما سبق-

وفوائد اليقين وثماره أكثر من أن تحصى.


المراجع

(1) مجموع الفتاوى: 3/ 329.

(2) المصدر السابق: 3/ 331.

(3) اليقين: 1/ 97، لابن أبي الدنيا.

(4) اليقين: 1/ 22، برقم: 22، التواضع والخمول: 1/ 150، برقم: 115، القناعة والعفاف: 1/ 69، برقم: 163، وقال الألباني: ضعيف، الجامع الصغير وزيادته: 1/ 979، برقم: 9782.

(5) أنظر في تعريف اليقين: لسان العرب: 13/ 457، والعين: 1/ 413، ومختار الصحاح: 1/ 352، والصحاح في اللغة: 2/ 300، والمحيط في اللغة: 2/ 2.

(6) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: 10/ 488.

(7) الفروق اللغوية: 1/ 374.

(8) المصدر السابق: 1/ 374.

(9) مفردات القرآن: 1/ 1632.

(10) التعريفات: 1/ 85.

(11) المصدر السابق: 1/ 85.

(12) مفردات القرآن: 1/ 1632.

(13) زاد المسير: 1/ 27.

(14) منازل السائرين: 1/ 69.

(15) التعريفات: 1/ 29.

(16) انظر بتصرف يسير من مدارج السالكين: 2/ 400.

(17) اليقين: 1/ 11.

(18) فتح القدير: 5/ 120.

(19) مدارج السالكين: 2/ 398.

(20) أخرجه مسلم: 1/ 59، برقم: 31.

(21) أخرجه النسائي: 2/ 24، برقم: 674، وأحمد في المسند: 2/ 352، برقم: 8609، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب: 1/ 60، برقم: 246.

(22) أخرجه البخاري: 5/ 2323، برقم: 5947.

(23) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 4/ 199، برقم: 4783، وقال الألباني: صحيح، انظر الجامع الصغير وزيادته: 1/ 753، برقم: 7521.

(24) مسند أحمد بن حنبل: 1/ 8، برقم: 38.

(25) اليقين: 1/ 14.

(26) زاد المعاد: 4/ 195.

(27) أخرجه الترمذي: 5/ 528، برقم: 3502، وهذا لفظه، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب، وبنحوه عند الطبراني في المعجم الصغير: 2/ 109، برقم: 866، وقال الشيخ الألباني: حسن، انظر الجامع الصغير وزيادته: 1/ 215، برقم: 2148، وصحيح الترمذي: 3/ 168، برقم: 2783.

(28) اليقين: 1/ 7.

(29) المعجم الكبير: 9/ 105.

(30) أنظر جامع العلوم والحكم: 1/ 290.

(31) انظر اليقين لابن أبي الدنيا: 1/ 91، برقم: 3، وقال الألباني: حسن، انظر الجامع الصغير وزيادته: 1/ 1170، برقم: 11692.

(32) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 1/ 62، برقم: 30، والطبراني في المعجم الأوسط: 8/ 358، برقم: 8869، وقال الألباني: ضعيف، انظر السلسلة الضعيفة: 4/ 459، برقم: 1994.

(33) اليقين: 1/ 30.

(34) أخرجه الترمذي: 5/ 517، والطبراني في المعجم الأوسط: 5/ 211، برقم: 5109، وقال الشيخ الألباني: حسن، انظر صحيح الترغيب والترهيب: 2/ 133، برقم: 1653.

(35) مدارج السالكين: 2/ 398.

(36) اليقين: 1/ 8، وما بعدها.

(37) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 7/ 353، برقم: 10556، عن عمار مرفوعا ولا يصح رفعه، أنظر ضعيف الترغيب والترهيب: 2/ 185، برقم: 1951.

(38) اليقين: 1/ 15، وما بعدها.

(39) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: 1/ 222، برقم: 209، وانظر جامع العلوم والحكم: 1/ 290، وروي عن أبي سعيد مرفوعاً ولا يصح، انظر الجامع الصغير وزيادته: 1/ 482، برقم: 4819.

(40) انظر مدارج السالكين: 2/ 399.

(41) صحيح البخاري: 1/ 7.

(42) شعب الإيمان: 7/ 123، برقم: 9717.

(43) حلية الأولياء: 7/ 17.

(44) أنظر اليقين: 1/ 18.

(45) المصدر السابق: 1/ 12.

(46) مدارج السالكين: 2/ 401.

(47) بتصرف يسير من نظرة النعيم: 8/ 3730

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى