- جراهام هارمان
- ترجمة: فتون العتيبي
- تحرير: مريم إياد
قسَّم الفلاسفة الأشياء إلى ما هو طبيعي وما هو مخترع منذ زمن اليونان القديم.
لكن هل نعرف ما الذي نعنيه بذلك التمييز؟ وفي أي شق يقع البشر وأفعالهم؟
لقد شرع جراهام هارمان في تسوية هذا الانقسام.
يعود التمييز الحاد بين الطبيعي والاصطناعي/ المخترع إلى الفلسفة اليونانية القديمة، حيث يوجد تمييز مشهور في فيزياء أرسطو بين الحركة الطبيعية والحركة الشاذة، فالأجرام السماوية تدور بشكل طبيعي حول الأرض، وتتحرك الأجسام الأرضية لأسفل باتجاه مركز الأرض، والحركة الشاذة هي كل ما ينحرف عن هذه العمليات المتوقعة بسبب تدخل سبب خارجي.
بقيت الأمور هكذا إلى أن قلّل علماء الطبيعة المحدثون الاختلاف بين الحركة السماوية والحركة الأرضية إلى فيزياء كونية، والتي ألغت أيضًا التمييز بين الحركة الطبيعية والشاذة؛ لأن جميع القوى يُقال الآن أنها من النوع نفسه، وبالتالي فإن الاختلاف بين القوى الطبيعية والاصطناعية ليس له مكانة كبيرة في النظرية الفيزيائية الحديثة التي تضع هذه القوى على نفس المستوى من الأهمية.
يحدث الشيء ذاته مع ميتافيزيقيا أرسطو؛ على الرغم من أن التمييز هنا أكثر غموضًا إلى حد ما. فبينما كانت الحقيقة المطلقة بالنسبة إلى أستاذه أفلاطون هي الأشكال المثالية للأشياء، أو المُثل؛ فقد طور أرسطو نظرية مقلوبة تكون فيها الأشياء الفردية الملموسة هي أكثر الأشياء الموجودة واقعية، حيث تعتبر الأجسام الكونية مثل “القط” أو “المثلث” أو “الشجرة” هي كليات أرسطو المنتزعة من المقارنة بين العديد من القطط والمثلثات والأشجار المفردة التي يواجهها الشخص في التجربة، وكأثر جانبي لهذا الاختلاف، استُبدل تأكيد أفلاطون على تذكر الأشكال المعروفة مسبقًا في أعماق العقل بإعطاء أرسطو الأولوية لتجربة الحس ونسخة طويلة الأمد للذاكرة كمستودع لما تعلمه المرء في حياته على الأرض، وبالنسبة للأشياء الفردية في العالم، يستخدم أرسطو عادةً مصطلح “مادة أولية” أو “مادة” فقط كما قال في كتابه “الميتافيزيقيا”: “إذا انتهت المادة، فعندئذٍ ينتهى كل شيء”.
لكن ما الذي يُسمح تحديدًا باعتباره مادة؟ هنا يبدو أن أرسطو يغير وجهات نظره قليلاً عندما يتحدث عن الموضوع، ففي المقالة الثامنة (إيتا) من الميتافيزيقا، في الفصل الثالث، شدد على أن كل شيء يحوي قدرا متساويا من المادة (الجوهر)، فإنسانية سقراط ليست أكثر من حيوانية بوسيفالوس الحصان الجامح أو من جوهرية الشمس. وتصدى لهذا من خلال مقاطع أخرى حيث يتحدث عن المادة باستخدام المصطلحات المقارنة “أكثر” و “أقل”، على سبيل المثال: “يبدو أن المادة تنتمي بشكل واضح إلى الأجساد، هذا هو السبب في أننا نقول إن الحيوانات والنباتات وأجزائها هي مواد، وأيضًا أجسام طبيعية، مثل النار والماء والأرض وكل شيء من هذا النوع…” في مكان آخر من الميتافيزيقا، كان أكثر حسمًا في وصف الطبيعة بأنها معيار لما يعتبر مادة قائلاً: إن الأشياء التي يتفق الجميع على أنها مادة هي الأشياء الطبيعية مثل: النار والأرض والماء والهواء والأجسام البسيطة الأخرى، ثم النباتات وأجزائها، والحيوانات وأجزاء الحيوانات، وأخيرًا [السماء] وأجزاء [السماء].
في الواقع، هذا الاعتماد على الطبيعة كصانع للفرق بين الحقيقي وغير الواقعي هو سمة من سمات التقليد الفلسفي بأكمله الذي أطلقه أرسطو، من المؤكد أن أعظم وريث حديث له هو العالم المثقف الألماني جوتفريد فيلهلم ليبنيز (1646-1716)، الذي لم يكن فيلسوفًا مشهورًا فحسب، بل كان أيضًا مخترعًا مشاركًا في حساب التفاضل والتكامل، وكان من أوائل المؤيدين للتأمين على الحياة، وطالبًا رائدًا في الثقافة الصينية.
بالنسبة إلى ليبنيز، كان هناك فرق شاسع بين المواد وما أسماه مجرد “مجاميع”، حيث كانت الطبيعة هي المعيار النهائي لما يُعتبر مادة، فكما قال لايبنيز في مراسلاته المثمرة مع أنطوان أرنولد: “يمكن تسمية المركب المكون من ألماس جراند دوك وألماس المغول بزوج من الألماس، لكن هذه مجرد تسمية عقلية”.
أن يكون الشيء “كائنًا على مستوى الوجود العقلي فقط” يعني أنه موجود فقط في أذهاننا وليس موجودًا في مكانه الخاص في العالم، فالألماس هو في الواقع مثال غريب استخدمه ليبنيز بالنظر إلى مقدار المعالجة الاصطناعية التي تدخل في تحويل الألماس الخام من المنجم إلى الأحجار الكريمة المتلألئة التي غالبًا ما تُرى على خاتم الخطوبة. ومع ذلك، يسمح لايبنيز لكل من هذا الألماس المعالج بالعد كوحدة مستقلة، لكنه يتعامل مع المزيج العشوائي من اثنين من هذه الماسات على أنه لا شيء سوى مجموع، فالمجموع هو ما يُحسب على أنه واحد فقط في العقل، وليس في الواقع، وهو ما يعنيه حقًا في الطبيعة، فهو يحاول إثبات ذلك من خلال تقليص الفرضية البديلة إلى فرضية غير منطقية، فإذا كانت الآلة مادة واحدة، فإن دائرة من الرجال الممسكين بأيديهم ستكون أيضًا مادة واحدة، وكذلك الجيش، وكذلك كل مجموعة من المواد.
على ما يبدو، من المفترض أن نجد تلقائيًا أنه تافه أن تكون الآلة حقيقية مثل إبرة الصنوبر، أو دائرة من الرجال يتصرفون على قلب رجل واحد، أو جيش منظم مثل سرب الأسماك. ينهي ليبنيز أفكاره بـ مثال السلسلة: “لماذا يجب أن تتشابك عدة حلقات لتشكيل سلسلة، وتشكل مادة أصلية أكثر مما لو كانت بها فتحات بحيث يمكن فصلها؟”(1989، 89).
لا يبدو أبدًا أنه اعتبر أنه حتى الحالة الأخيرة، وهي سلسلة تحتوي روابطها على فتحات، قد تُعتبر أيضًا مادة حقيقية. إن ما تشترك فيه جميع الأمثلة السلبية على غير المادة التي قدمها لايبنيز هو أن جميعها تظهر علامات حيلة بشرية، فمن الواضح أن الشخص الذي يقوم بلصق ألماسين معًا يضرب لايبنيز كشكل من أشكال الاحتيال الميتافيزيقي وليس مجرد الاحتيال الجنائي.
الآن، يبدو لي أن “الطبيعة” ليس لها مكان على الإطلاق في هذا النقاش، فالبشر جزءٌ من الكون تمامًا مثل الجبال، وبالتالي لا أرى أي سبب يجعل تشكيل الإنسان للأحجار الكريمة أقل واقعية مما هو عليه عندما تُشكله قوى جغرافية بحتة، فبمجرد أن ينتهي قاطع الأحجار الكريمة من تلميع حجر معين، يطلقه في الكون لآلاف السنين القادمة لفترة طويلة بعد موت القاطع وربما انقراض جنسنا البشري بأكمله. يبدو أن الكلاب جزء من “الطبيعة”، ومع ذلك فإن كل سلالاتها تقريبًا أنشأها النشاط البشري على الرغم من أن الكلاب تظل حيوانات حقيقية بقدر أنواع الكائنات الحية التي لم تتغير أبدًا بفعل النشاط البشري. نعم، قد تكون هناك سياقات معينة يكون فيها الاختلاف بين الطبيعي والاصطناعي مناسبًا كما هو الحال مع المستهلكين الذين لا يريدون أي علاقة بالأغذية المعدلة وراثيًا، أو علماء البيئة الذين يضعون قيمة خاصة على غابات النمو القديمة، لكن هذه الحالات ذات صلة محددة للغاية، ولا تفعل شيئًا لإثبات أن ما هو موجود بطبيعته متفوق عالميًا على ما يعدله الجنس البشري في مرحلة ما.
ننتقل الآن من أرسطو ولايبنيز إلى الوقت الحاضر، من وجهة نظري، أحد أكثر الفلاسفة إثارة للاهتمام الذين يعملون اليوم هو برونو لاتور الذي لا يعد نقده للحداثة سوى نقدًا لانقسام الطبيعة/ الثقافة، إن إحدى حججه الرئيسية هي أن الأشياء الحديثة غالبًا ما تتخذ شكل “هجينة” أو كيانات يصعب تحديدها على أنها طبيعية أو ثقافية، فثقب الأوزون هو في الوقت نفسه جزء من الأرض ونتج عن سوء السلوك البشري البيئي، حيث يسير كثير من الناس بيننا مع أجهزة تنظيم ضربات القلب أو منافذ العلاج الكيميائي الموضوعة في أجسامهم “الطبيعية”. حُسّنت العديد من ميزات المناظر الطبيعية المفترضة من حولنا كثيرًا من خلال العمل البشري في مرحلة ما من التاريخ، وعند نقطة معينة، ليس من المنطقي التمييز بين الكيانات الطبيعية وغير الطبيعية، ففي مجتمع متحضر جدا مثل مجتمعنا، نعرف بشكل متزايد القليل جدًا مما هو طبيعي وما هو غير ذلك، ويتخيل الشخص أن انتشار الكائنات شبه الطبيعية والاصطناعية المشفرة سوف يتسارع فقط، وفي الواقع، هذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتني أعتبر تثمين أرسطو ولايبنيز للطبيعة غير ذي صلة إلى حد ما بالوضع الجديد الذي تواجهه الفلسفة المعاصرة، ومع ذلك تبقى العديد من رؤاهم قيمة.
نجح نقد لاتور للحداثة في تسوية التمييز الطبيعي/ الاصطناعي، مما أدى إلى تصنيف فلسفته على أنها “علم الوجود المسطح” التي تعامل جميع الكيانات بالضبط بنفس المصطلحات بغض النظر عن أصلها ووضعها، وكدليل على هذا التسطيح، استخدم مصطلح “ممثل” للإشارة بالتساوي إلى البشر والحيوانات والطوب والمواد الكيميائية والآلات وشخصيات الرسوم المتحركة والنجوم، وكل ما يتصرف بطريقة ما على شيء آخر يستحق أن يطلق عليه ممثل، وبالتالي فإن العديد من الفروق التقليدية تسقط على جانب الطريق، ومع ذلك، فإن لاتور ليس ثابت تمامًا في تطبيق مبدأ التسطيح هذا؛ لأنه حتى وهو يدمر التمييز الحديث بين عالم نقي يسمى الطبيعة وعالم نقي آخر يسمى الثقافة، فإنه لا يلاحظ الحياد الذي يتطلبه الوضع الجديد.
في مقال مهم بعنوان: لماذا نفد النقد؟ لبرونو لاتور يعيد عن غير قصد التمييز الحديث وينتهي به الأمر إلى اختيار الجانبين، إن أحد الفروق الرئيسية الجديدة التي حُددت في هذه المقالة هو ما بين “الأمور الواقعية” و “المسائل ذات الأهمية”، حيث تشير الأمور الواقعية إلى حقائق موجودة حول العالم لا يتصورها البشر أو أي شيء آخر، ويبدو أن لاتور يشك في وجودها أصلًا، وعلى النقيض من ذلك، تُعرف الأمور المثيرة للقلق بدقة من خلال كيفية تأثيرها على الكيانات الأخرى، ومن خلال محاولته استبدال جميع الأمور الواقعية بالمسائل ذات الاهتمام، يتبع لاتور بفعالية ألفريد نورث وايتهيد في الدفاع عن فلسفة علائقية شاملة، حيث لا يوجد شيء في الفراغ ولكن فقط من خلال تفاعلاته مع أشياء أخرى. ومع ذلك، يمكننا أن نرى بسهولة كيف أن هذا يميل إلى استعادة التصنيف الحديث القديم للطبيعة والثقافة الذي رفضه لاتور نفسه في أوائل التسعينيات.
على سبيل المثال، يميل لاتور إلى اعتبار كل كيان اكتشفه العلم مكافئًا للعملية الاجتماعية التي اُكتُشفت من خلالها، حتى لو كان بمعنى أوسع “للمجتمع” الذي يتضمن أشياء غير حية لا تقل عن البشر. لا يمكن لمصطلح “جرثوم” أن يشير فقط إلى كائن مجهري قادر على إصابة الحيوانات بالمرض، ولكنه يشير بدلاً من ذلك إلى سلسلة تاريخية كاملة من “تجارب القوة”، بما في ذلك جميع حيوانات المختبر والمعدات التي استخدمها لويس باستور لإثبات وجود الجراثيم، ولم يعد البيان العلمي مؤشرًا لشيء موجود خارج حديثنا عنه، بل هو اختصار أو اسم مستعار لأسطول كامل من الكيانات التي كان يجب حشدها ليعمل العلم على الإطلاق
طريقة أخرى لصياغة الأمر هي أن لاتور يحاول إظهار أن “الطبيعة” تتعلق حقًا بـ “الأمور ذات الأهمية”، الطبيعة موجودة فقط بقدر ارتباطها بكل شيء آخر، لكن يجب أيضًا التأكيد على الدرس المعاكس على الرغم من عدم وجود مكان له في فكر لاتور، ناهيك عن أرسطو أو لايبنيز، وهناك أيضًا بالتحديد معنى يكون فيه ما نسميه “الثقافة” أيضًا “مسألة حقيقة”، وهذا يعني أنه على الرغم من الحاجة إلى أعداد كبيرة من الفنيين والمرافق لإنتاج مكوك فضائي أو جهاز آيفون فإن العلاقة بين هذه الأجهزة والعديد من منشئيها لا تعني أنها علائقية بحتة سواء كان كائن ما ينبت في الغابة أو يُصنّع في معمل، فإنه يتمتع بشخصية مستقلة معينة تكبح ظروف الإنتاج الخاصة به، أو على الأقل لا تحتفظ بمعظمها. تتحرر الأشياء الاصطناعية من أيدي وعقول مصمميها، وتظل غامضة جزئيًا لاستجواباتنا، وقد تؤثر على الكون لفترة طويلة بعد اختفاء البشر المعروفين منه.