- عثمان العمودي
إنَّ الكلام لفي الفؤاد، وإنَّما
جُعِل اللسانُ على الفؤاد دليلا
لا أظن دارسًا لعلم العقيدةِ ينفي حضورَ بيت الأخطل هذا في الدرس العقدي، ولا يكاد مَن يقرِّر صفة الكلام لله تعالى يترك إنشاد هذا البيت إذا عرض لمسألة الكلام النفسي، خاصةً وأنَّ الإشارة إليه حاضرةٌ في مشهورِ المتون. فإذا حفظ اللامية المنسوبة لابن تيمية كرَّر قوله (وإذا استدلَّ يقول قال الأخطلُ)، وإذا أنشد نونية ابن القيم تلا قوله:
ودليلُـــهم في ذاك بيتٌ قالَهُ
-فيما يُقال- الأخطلُ النصراني
وإذا أردنا أن نغضَّ الطرف عن منزلة الاستدلال بهذا البيت عند القائلين بالكلام النفسي؛ فإن أحداً لا ينكِر حضورَ الاستدلال به عندهم[1]. وإذا كان كذلك فلا بدَّ لدارس هذا الفنِّ أن يفقه وجه الاستدلال بهذا البيت، وطرائق نقض هذا الاستدلال.
وعلى أهميةِ هذه المسألة فإنك لا تكاد ترى أحداً من المتأخرين يحقق القول فيها، وإذا أرادوا نقض الاستدلال بهذا البيتِ اعتبروا ذلك بطرائقَ ضعيفة، أو بطرائق متأخرةٍ عن مرتبة التحقيق.
وأشهر ما يجري ذكرُه في نقض الاستدلال بهذا البيت[2]:
- نفيُ نسبةِ هذا البيت للأخطل.
- ادعاء التحريف فيه وأنَّ الصواب (البيان) مكان (الكلام).
- أنَّ غايتَه الدلالةُ على صحةِ إطلاق الكلام على المعنى النفسي، لا نفيُه عما سواه.
- أن الكلام قضية وجودية فطرية، وليس قضيةً فرعية حتى نحتاج في إثباته إلى بيتٍ أو بيتين من كلام الشعراء.
وهذه الطرق في نقض الاستدلال ليست برفيعة، وإن كانت الرابعة أجودها. والمسارعةُ إلى نفيِ البيت أو نفي لفظٍ فيه؛ لإسقاط الاستدلال به= طريقةٌ تحتاج إلى تروٍّ ونظر واستقراء واسع.
وإذا كان الدليل متنازعاً في ثبوته، وكان لثبوته وجهٌ محتمل، فإن الأقوى في علم الجدل أن تنصرفَ إلى الطعن في الدلالة؛ ليسقط الدليل عن مرتبة الاحتجاج. لا أن تسعى جهدك في نفيِ ثبوتِه ثمَّ لا يسلِّم لك الخصمُ بذاك.
والطريقةُ المتوجِّهة في نقض الاستدلال بهذا البيت -وغيره مما يجري مجراه- أن يُقال: إنَّ مورد الاستدلال بكلام العرب وأشعارِهم إنَّما هو في الألفاظ والتراكيب والأساليب، لا في الحقائق والمعاني.
وبيانُ ذلك أنه لا يستقيمُ لأحدٍ أن يسمعَ قول الحماسي:
هل الحبُّ إلا زفرةٌ بعد زفرةٍ
وحرٌّ على الأحشاء ليس له بردُ
فيقولَ في حدِّ الحب: (ما كان يزفر منه الإنسان مرةً بعد أخرى، ويلاقي في أحشائه الحرَّ منه)! وهل البيتُ إلا دعوى أطلقها عاشقٌ آخرَ الليل!
فإنَّ الشعراء والأدباء لا تؤخذ منهم الحقائق والمعاني، ولا يُرجَع إليهم في الحدود والتقاسيم، ولا يصحُّ لنا أن نستجلب المعاني التي ترنَّم بها عنترةُ في عبلة، أو سوَّدها كثيِّرُ في عزَّة، أو أرسلها ذو الرمَّة إلى ميَّة؛ ثم نقرِّر بها مسألةً من أصول مسائل الاعتقاد. ومحلُّ الاحتجاج بشعرِهم إنَّما هو فيما انفردوا فيه من الفصاحة والبلاغة والعلم باللغة وألفاظها واستعمالاتها. لا في المعاني التي ربَّما فاقَهم في الإتيان على أحسنِها بعضُ المتأخرين.
ولو اطَّرد المستدلُّون بهذا البيتِ لجعلوا مصعبَ بن الزبير اسماً لنيزكٍ محترقٍ على الحقيقة! أليس يقول ابنُ قيس الرقيَّات:
إنَّما مصعَبٌ شهابٌ من اللهِ تجلَّت عن وجهِه الظلماءُ!
وللَزِم بذلك أن يكون النعمانُ اسماً للشمسِ التي تدورُ عليها الأفلاك، كما قال النابغة (فإنَّك شمسٌ والملوك كواكبٌ)، ولكان إطلاقُ الرسول حقيقةً يصدُق على النورِ الذي قال فيه كعبُ بن زهير (إنَّ الرسول لنورٌ يُستضاء به)، وإذا نزل إلى شعر المتأخرين فسيجعل النسيانَ علةَ تسميةِ الإنسان أخذاً من قول أبي تمام (سُمِّيتَ إنساناً لأنك ناسي)، أو يجعل المتكلِّم بالحبِّ كاذباً، فإنَّ (الحب ما منع الكلامَ الألسنا) كما يقرِّر أبو الطيِّب.
وليس لهم أن يقولوا: “إن هذه الأبيات تفترق عن ذلك، فإنَّها جاءت على ما تعرفه العربُ من المدح والاستعارة وجودة التشبيه”. إذ إننا سنقول في بيت الأخطل ما قالوه، وأنَّه جارٍ على مذهبِ العربِ في التلطُّف وحُسن التعليل.
وهذه الطريقةُ في نقض الاستدلال بهذا البيتِ ونحوِه طريقةٌ رفيعةٌ معروفةٌ عند المتقدِّمين، وأشار لها أبو العباس ابن تيمية غيرَ مرةٍ في نقضِ بيت الأخطل، ولكنها ضاعَت عن كثيرٍ من المتأخرين، ولم يحققوا القولَ فيها.
يقول ابن تيمية: (فالناطقون باللغة يُحتَجُّ باستعمالهم للألفاظِ في معانيها، لا بما يذكرونه من الحدود… وبالجملة فمن احتاج إلى أن يعرف مسمى “الكلام” في لغة العرب والفرس والروم والترك وسائر أجناسِ بني آدم بقولِ شاعر، فإنَّه من أبعد الناس عن معرفةِ طرق العلم)، ويقول في موضعٍ آخر: (وبتقديرِ أن يكون مِن شِعره، فالحقائق العقلية أو مسمَّى لفظ الكلام الذي يتكلَّم به جميعُ بني آدم لا يُرجَعُ فيه إلى قول ألفِ شاعرٍ فاضل، دع أن يكون شاعراً نصرانياً اسمه الأخطل).
ولو قصد النَّاس إلى تحقيق مسائلهم ومعانيها مِن قصائد الشعراء ودعاويهم لاختلط الخاثرُ بالزُّبَّاد!
ولعلَّك -إذا أردتَ أن تتلمَّس طرفاً من هذا- تنظر شرحَ المعرِّي لديوان المتنبي، وتتبين فقهه بطرائق الشعراء، وما أكثر ما يقول في شرحِه: (وهذه دعوى غير صحيحة، ولكنَّها تُستَحسن عند الشعراء)، ويقول: (وإنَّما هذه دعوى يَستحسِنُ مثلَها قالةُ النَّظم)، ويقول: (وقد ادَّعى بعد ذلك دعوى تُستَحسن في الشِّعر، وهي كذبٌ لا محالة)، وغير هذا مما إذا قرأتَه علمتَ أنَّ معاني الشعراء لا تنهض للحجةِ إذا ضربَت حربُ الجدال طبولَها!
[1] انظر للمتأخرين منهم على سبيل المثال: [الشرح الكبير لجوهرة التوحيد (531)]، [الأنوار الإلهية في المقدمة السنوسية (66)].
[2] انظر على سبيل المثال: [اللآلئ البهية، صالح آل الشيخ: (1/591)]، [العقود الذهبية، سلطان العميري: (1/573)].