فكر وثقافة

موجز تاريخ الترجمة والمترجمين

  • ماري ليبرت
  • ترجمة: رَشد الشريف
  • تحرير: عبد الله الحسين

لطالما لعب المترجمون دورًا رئيسًا في المجتمع. ولقد حظوا بتقدير كبير إلى جانب المؤلفين الأدبيين والأكاديميين والعلميين لألفي عام، لكن في الغالب أصبحوا غير مرئيين في القرن الحادي والعشرين. حان الوقت للاعتراف مرة أخرى بالدور الرئيس للمترجمين في المجتمع في الماضي والحاضر.

في العصور القديمة

تعتبر ترجمة الكتاب المقدس العبري إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد أول ترجمة رئيسة بالنسبة للعالم الغربي. لقد نسى معظم اليهود اللغة العبرية، لغة أجدادهم، واحتاجوا أن يكون الكتاب المقدس متاحًا باللغة اليونانية ليتمكنوا من قراءته. تعرف هذه الترجمة باسم “السبعينية”، وهو الاسم الذي يشير إلى السبعين عالمًا الذين كلفوا بترجمة الكتاب المقدس العبري في الإسكندرية بمصر، عمل كل مترجم في الحبس الانفرادي في زنزانته، ووفقًا للأسطورة تبين أن جميع النسخ السبعين كانت متطابقة.

نوقش دور المترجم كجسر “لنقل” القيم بيم الثقافات منذ تيرنس -الكاتب المسرحي الروماني الذي قام بترجمة الكوميديا اليونانية إلى اللاتينية في القرن الثاني قبل الميلاد.

كما حذر شيشرون مرارًا من ترجمة “كلمة بكلمة” فقد كان يقول: لم أكن أعتقد أنني يجب أن أحصيها -أي الكلمات- للقارئ مثل العملات المعدنية، بل يجب أن أدفعها بالوزن، كما هي”.

شيشرون، رجل دولة وخطيب ومحامي وفيلسوف، كان أيضًا مترجمًا من اليونانية إلى اللاتينية، وقد قارن المترجم بالفنان.

يعود الجدل حول الترجمة التفسيرية مقابل الترجمة الحرفية إلى العصور القديمة. ويقال إن مبتكر مصطلح “معنى” هو جيروم (المعروف أيضًا باسم القديس جيروم) في”رسالته إلى باماخيوس” أثناء ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية (وهي ترجمة تعرف باسم VULGATE )، ذكر جيروم أن المترجم يحتاج إلى ترجمة ليس كلمة بكلمة، وإنما معنى بمعنى.

كان كوماراجيفا -وهو راهب وعالم بوذي- مترجماً غزير الإنتاج إلى اللغة الصينية للنصوص البوذية المكتوبة باللغة السنسكريتية. وكان أشهر أعماله هو ترجمة “Diamond Sutra” سوترا ماهايانا المؤثرة في شرق آسيا، وهو عمل ضخم نفذه في أواخر القرن الرابع والتي أصبحت موضوعًا للعبادة في الدراسة البوذية. وهناك نسخة لاحقة (مؤرخة عام 868م) من الطبعة الصينية من “Diamond Sutra” هي “أقرب للجزء المتبقي لكامل الكتاب المطبوع”، وفقًا لموقع المكتبة البريطانية (التي تمتلك القطعة). ركزت ترجمات كوماراجيفا الواضحة والمباشرة على نقل المعنى أكثر من التركيز الحرفي الدقيق. وكان لديه تأثير عميق في البوذية الصينية.

أدى انتشار البوذية إلى جهود ترجمية واسعة النطاق امتدت لأكثر من ألف عام في جميع أنحاء آسيا. وفي بعض الأحيان تُرجمت بعض الأعمال الرئيسة في وقت قصير نوعًا ما. على سبيل المثال، استغرق التانغوت عقودًا فقط لترجمة الأعمال التي استغرقت الصين قرونًا لترجمتها، مع مصادر معاصرة تصف الإمبراطور ووالدته يساهمان شخصياً في الترجمة، إلى جانب حكماء من جنسيات مختلفة.

كما قام العرب بجهود ترجمة واسعة النطاق بعد غزو الإمبراطورية البيزنطية، من أجل تقديم نسخ عربية لجميع الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية الرئيسية.

في العصور الوسطى

كانت اللاتينية هي “اللغة المشتركة” للعالم الغربي عبر العصور الوسطى. كانت هناك ترجمات قليلة للأعمال اللاتينية إلى اللغات المحلية. في أواخر القرن التاسع، كان ألفريد العظيم -ملك ويسيكس في إنجلترا- متقدمًا بفارق كبير في التكليف بترجمات من اللاتينية إلى الإنجليزية لعملين رئيسيين: “التاريخ الكنسي للشعب الإنجليزي”، و”عزاءات الفلسفة” لبوثيوس. ساعدت هذه الترجمات في تحسين النثر الإنجليزي المتأخر بشكل كبير.

في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أصبحت مدرسة توليدو للمترجمين نقطة التقاء للعلماء الأوروبيين الذين سافروا واستقروا في توليدو بإسبانيا، لترجمة الأعمال الفلسفية والدينية والعلمية والطبية الرئيسة من العربية واليونانية إلى اللاتينية. كانت توليدو واحدة من الأماكن القليلة في أوروبا في العصور الوسطى حيث يمكن أن يتعرف المسيحي على اللغة والثقافة العربية.

كان روجر بيكون -عالم اللغة الإنجليزية في القرن الثالث عشر- أول من قال “أن المترجم يجب أن يكون لديه معرفة شاملة بكل من اللغة المصدر واللغة الهدف لإنتاج ترجمة جيدة، وأنه يجب أيضًا أن يكون ضليعًا في تخصص العمل الذي كان يترجمه”.

أنتج جيفري تشوسر أول ترجمات إلى الإنجليزية في القرن الرابع عشر. وقد أسس تشوسر تقليدًا شعريًا إنجليزيًا يعتمد على ترجمات أو تعديلات للأعمال الأدبية باللغتين اللاتينية والفرنسية، وهما لغتان أكثر رسوخًا من اللغة الإنجليزية في ذلك الوقت. كانت أفضل ترجمة دينية هي “الكتاب المقدس نسخة ويكليف” (1382-84)، الذي سمي على اسم جون ويكليف، عالم اللاهوت الذي ترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الإنجليزية.

في القرن الخامس عشر

كانت رحلة الفيلسوف البيزنطي جيمستوس بليثو إلى فلورنسا بإيطاليا هي ما جعلها رائدة في إحياء التعلم اليوناني في أوروبا الغربية. أعاد بليثو تقديم فكر أفلاطون بعد اجتماع عقد في فلورنسا 1438-39. و من خلاله، التقى بليثو بكوزيمو دي ميديتشي، حاكم فلورنسا وراعي التعليم والفنون، مما أدى إلى تأسيس الأكاديمية الأفلاطونية. وتحت قيادة الباحث والمترجم الإيطالي مارسيليو فيتشينو تولت الأكاديمية الأفلاطونية الترجمة إلى اللاتينية لجميع أعمال أفلاطون، والإنيادة، والفيلسوف بلوتينوس، وأعمال الأفلاطونية الحديثة الأخرى.

أدى عمل فيتشينو -ونسخة إيراسموس اللاتينية للعهد الجديد- إلى موقف جديد من الترجمة. ولأول مرة، طالب القرّاء المترجمين بصرامة أن يقدموا الكلمات الدقيقة والحرفية لأفلاطون ويسوع (وأرسطو والآخرين) لاتخاذها أساسا لمعتقداتهم الفلسفية والدينية.

قُدِم نثر إنجليزي رائع لتوماس مالوري بعنوان (موت آرثر) “Le Morte d’Arthur” (1485)، وهو ترجمة حرة لروايات آرثر الرومانسية، مع الملك الأسطوري آرثر ورفاقه جينيفير، لانسلوت، ميرلين وفرسان المائدة المستديرة. قام مالوري بترجمة وتكييف القصص الموجودة بالفرنسية والإنجليزية مع إضافة المعاني الأصلية، على سبيل المثال قصة “جاريث”، كإحدى قصص فرسان المائدة المستديرة.

في القرن السادس عشر

استمرت الأدبيات غير العلمية في الاعتماد بشكل كبير على التكييف. تبنى شعراء تيودور والمترجمون الإليزابيثيون موضوعات لهوراس وأوفيد وبترارك وآخرين، و ابتكروا أسلوبًا شعريًا جديدًا. أراد الشعراء والمترجمون تزويد جمهور جديد – نشأ من صعود الطبقة الوسطى وتطور الطباعة – بـ أعمال مثل المؤلفين الأصليين، كما لو كانوا يكتبون في إنجلترا في ذلك اليوم.

اعتبر “العهد الجديد لتيندال” (1525) أول ترجمة عظيمة لتيودور، وسميت على اسم العالم الإنجليزي ويليام تيندال الذي كان مترجمها الرئيسي الأول؛ كما ترجم الكتاب المقدس مباشرة من النصوص العبرية واليونانية. بعد ترجمة العهد الجديد بأكمله، بدأ تندال ترجمة العهد القديم وترجم نصفه. ثم أصبح شخصية بارزة في الإصلاح البروتستانتي قبل أن يُحكم عليه بالإعدام لحيازة الكتاب المقدس باللغة الإنجليزية دون ترخيص. وبعد وفاته، أكمل أحد مساعديه ترجمة العهد القديم وأصبح “الكتاب المقدس لتندال” أول ترجمة إنجليزية للكتاب المقدس يتم إنتاجها بكميات كبيرة في المطبعة.

كما قام مارتن لوثر، أستاذ اللاهوت الألماني والشخصية الأبرز في الإصلاح البروتستانتي، بترجمة الكتاب المقدس إلى الألمانية لاحقًا، و”إنجيل لوثر” (1522-1534) كان له تأثيرات مستمرة على الدين. و ساهمت التباينات في ترجمة الكلمات والمقاطع الحاسمة إلى حد ما في انقسام المسيحية الغربية إلى الكاثوليكية والبروتستانتية. كما ساهم نشر “الكتاب المقدس للوثر” أيضًا في تطوير اللغة الألمانية الحديثة بشكل فعال.

كان “لوثر” أول عالم أوروبي يقول أن المرء يترجم بشكل مُرضٍ فقط إلى لغته الأم، وهي عبارة جريئة أصبحت قاعدة بعد قرنين من الزمان.

صدرت ترجمتان رئيسيتان أخريان للكتاب المقدس هما ترجمة جاكوب وجيك Jakub Wujek Bible بالبولندية (1535) و نسخة “الملك جيمس” باللغة الإنجليزية (1604-1111)، وقد كان لهما عميق الأثر على ثقاقة ولغة كل من بولندا وإنجلترا.

تُرجم الكتاب المقدس أيضًا إلى الهولندية والفرنسية والإسبانية والتشيكية والسلوفينية. نشر جاكوب فان ليسفلت الطبعة الهولندية عام 1526. و نشر النسخة الفرنسية عام 1528 جاك لوفيفر ديتابليس (المعروف أيضًا باسم جاكوبس فابر ستابولينسيس). ونشر كاسيدورو دي رينا Casiodoro de Reina النسخة الإسبانية عام 1569م، كما نشرت الترجمة التشيكية بين عامي 1576 و1593. ونشر جورجي دلماتن Jurij Dalmatn. النسخة السلوفينية عام 1584.

كانت كل هذه الترجمات قوة دافعة في استخدام اللغات المحلية في أوروبا المسيحية، وساهمت أيضًا في تطوير اللغات الأوروبية الحديثة.

في القرن السابع عشر

ميغيل دي سيرفانتس، روائي إسباني معروف في جميع أنحاء أوروبا بروايته “دون كيشوت” (1605-15)، أعرب عن آرائه حول عملية الترجمة. ووفقًا لما قاله، كانت الترجمات في عصره – باستثناء تلك المنقولة من اليونانية إلى اللاتينية – تشبه النظر إلى منسوجة فلمنكية من جانبها المعاكس. وقصده أنه في حين أنه يمكن تمييز الأشكال الرئيسية للنسيج الفلمنكي، إلا أنها كانت تحجبها الخيوط السائبة، وكانت تفتقر إلى وضوح الجانب الأمامي.

في النصف الثاني من القرن السابع عشر، سعى الشاعر والمترجم الإنجليزي جون درايدن إلى جعل فيرجيل يتكلم “بكلمات مثل التي ربما كتبها لو كان يعيش كرجل إنجليزي”. و لاحظ درايدن أيضًا أن “الترجمة هي نوع من الرسم بعد انقضاء حياة الكاتب”، وبذلك قارن المترجم بفنان بعد عدة قرون من شيشرون.

قيل أن ألكسندر بوب، شاعر ومترجم، قد اختصر “الجنة البرية wild paradise” لهوميروس إلى “النظام order” أثناء ترجمة القصائد الملحمية اليونانية “إلياذة” و “الأوديسة” إلى الإنجليزية، لكن هذه التعليقات لم يكن لها أي تأثير على مبيعاته فقد كانت ترجماته الأكثر مبيعًا.

عرفت “الأمانة” و”الشفافية” بشكل أفضل على أنهما مُثُل مزدوجة في الترجمة. كانت “الأمانة” هي المدى الذي تقدم به الترجمة معنى النص المصدر بدقة ودون تشويه، من خلال مراعاة النص نفسه (من حيث الموضوع والنوع الأدبي والغرض) وخصائصه الأدبية وسياقه الاجتماعي أو التاريخي. وكانت “الشفافية” هي المدى الذي تكون عنده النتيجة النهائية للترجمة هي نص مستقل كما لو كان مكتوبا من الأساس بلغة القارئ، ويتوافق مع قواعدها وتركيبها وصياغتها.

في القرن الثامن عشر

وفقًا ليوهان جوتفريد هيردر، الناقد الأدبي الألماني والباحث في اللغة، يجب على المترجم أن يترجم إلى (و ليس من) لغته الأم، وهو تصريح أدلى به بالفعل مارتن لوثر قبل قرنين من الزمان، و كان أول عالم أوروبي يعبر عن مثل هذه الآراء في كتابه “رسالة حول أصل اللغة” (1772)، وقد أسس هيردر أسس فقه اللغة المقارن.

لكن لم يكن هناك الكثير من الاهتمام بالدقة في الترجمة. وطوال القرن الثامن عشر، كان شعار المترجمين هو سهولة القراءة فقط؛ أياً كانت النتيجة، حتى لو لم يفهموا النص، أو كانت الفكرة مملة بالنسبة للقراء. لقد افترضوا أن أسلوبهم في التعبير هو الأفضل، وأن النصوص يجب أن تكون متوافقة مع ما في الترجمة -باستثناء ترجمة الكتاب المقدس- فلم يهتموا أكثر من أسلافهم، ولم يتوانوا عن عمل ترجمات من لغات بالكاد يعرفونها.

في ذلك الوقت، لم تكن القواميس ومعاجم المترادفات أدلة كافية للمترجمين. أكد المؤرخ الاسكتلندي ألكسندر فريزر تايتلر في كتابه “مقال عن مبادئ الترجمة” (1791) أن القراءة الجادة كانت أكثر فائدة من استخدام القواميس. و أعرب الشاعر والنحوي البولندي أنفيوري أندرزيج Onufry Andrzej Kopczyński عن نفس الآراء قبل بضع سنوات (في عام 1783)، مع إضافة الحاجة إلى الاستماع إلى اللغة المحكية.

كماو صف الموسوعي البولندي إغناسي كراسيكي الدور الخاص للمترجم في المجتمع في مقالته التي صدرت بعد وفاته بعنوان “في ترجمة الكتب”.

كان كراسيكي أيضًا روائيًا وشاعرًا وكاتبًا ومترجمًا، وفي مقالة له عام 1803 عن ترجمة الكتب، كتب أن “الترجمة في الواقع فن يمكن تقديره لكنه صعب للغاية، وبالتالي فهي ليست عملاً وجزءًا تقوم به العقول العادية؛ بل يجب أن يمارسها أولئك الذين هم أنفسهم قادرون على أن يكونوا ممثلين، وعندما يرون فائدة أكبر في ترجمة أعمال الآخرين أكثر من أعمالهم الخاصة، وأن يستشعروا أنهم يحققون مجدا أعلى بخدمة بلدهم أكثر من تحقيق مجد شخصي”.

في القرن التاسع عشر

كانت هناك معايير جديدة للدقة والأسلوب. من أجل الدقة، أصبحت السياسة اتباع: النص، والنص بأكمله، ولا شيء سوى النص، باستثناء المقاطع الرديئة، مع إضافة حواشي توضيحية واسعة النطاق. أما بالنسبة للأسلوب، فكان الهدف هو تذكير القراء باستمرار بأنهم كانوا يقرؤون كتابًا أجنبيًا كلاسيكيًا.

كان الاستثناء هو ترجمة وتكييف القصائد الفارسية للكاتب والشاعر الإنجليزي إدوارد فيتزجيرالد. قدم كتابه “رباعيات عمر الخيام” (1859) مجموعة مختارة من قصائد عمر الخيام، شاعر وعالم رياضيات وفلك من القرن الحادي عشر. و ظلت ترجمة فيتزجيرالد -الحرة- من العربية إلى الإنجليزية أشهر ترجمة لقصائد الخيام حتى يومنا هذا، على الرغم من الترجمات الأكثر حداثة ودقة.

تطورت نظرية الترجمة “غير الشفافة” لأول مرة من قبل عالم اللاهوت والفيلسوف الألماني فريدريك شلايرماخر، وهو شخصية رئيسية في الرومانسية الألمانية. و في محاضرته الأساسية “حول طرق الترجمة المختلفة” (1813)، ميّز شلايرماخر بين طرق الترجمة التي تحرك الكاتب نحو القارئ -أي الشفافية- وتلك التي تحرك القارئ نحو الكاتب، أي الإخلاص الشديد لمصدر النص. فضل شلايماخر النهج الأخير في تمييزه بين “التوطين/التدجين” (جلب المؤلف للقارئ) و “التغريب” (نقل القارئ إلى المؤلف). ولهذين الاتجاهين منظرين بارزين في القرن العشرين، على سبيل المثال أنطوان بيرمان ولورنس فينوتي.

طوّر الباحث والمترجم الصيني يان فو في عام 1898 نظريته ذات الجوانب الثلاثة للترجمة: الأمانة، أي الصدق مع النص الأصل في الروح؛ التعبير، أي أن يكون في متناول القارئ المستهدف؛ والأناقة، أي أن تكون مكتوبة بلغة “متقنة”. استندت نظرية يان فو في الترجمة إلى خبرته في ترجمة الأعمال في العلوم الاجتماعية من الإنجليزية إلى الصينية. من بين الجوانب الثلاثة، اعتبر الثاني هو الأهم. إذا لم يكن معنى النص المترجم في متناول القارئ، فلا فرق بين ترجمة النص وعدم ترجمته على الإطلاق. وفقًا ليان فو، من أجل تسهيل الفهم، يمكن تغيير ترتيب الكلمات، ويمكن أن تحل الأمثلة الصينية محل الإنجليزية، ويمكن تحويل أسماء الأشخاص إلى صينية. كان لنظريته تأثير كبير في جميع أنحاء العالم، لكنها امتدت أحيانًا بشكل خاطئ إلى ترجمة الأعمال الأدبية.

على مر القرون، بدأت المترجمات، بعد عدم الكشف عن هويتهن أو التوقيع باسم ذكر مستعار، في توقيع ترجماتهن بأسمائهن الخاصة. بعضهم لم يحصر نفسه في العمل الأدبي. لقد ناضلن أيضًا من أجل المساواة بين الجنسين، وتعليم المرأة، وحق المرأة في التصويت، وإلغاء عقوبة الإعدام، والحقوق الاجتماعية للمرأة.

في القرن العشرين

أنيلا زاغورسكا، مترجمة بولندية، ترجمت من عام 1923 إلى عام 1939 تقريبًا جميع أعمال عمها جوزيف كونراد، الروائي البولندي البريطاني الذي كتب بالإنجليزية. من وجهة نظر كونراد، فإن الترجمة، مثل الفنون الأخرى، تنطوي على الاختيار و التفسير و في وقت لاحق، نصح كونراد ابنة أخته: “لا تشغلي بالك في أن تكوني شديد الدقة. ومن رأيي فإن الأفضل التفسير بدلاً من الترجمة. إنها إذن مسألة إيجاد التعبيرات المكافئة. وهناك، يا عزيزتي، أتوسل إليك أن تدعي نفسك تسترشد بمزاجك أكثر من ضميرك الصارم”. جوزيف كونراد: الحياة “، ورد في (.Zdzisław Najder، 2007)

كان خورخي لويس بورخيس، كاتب مقالات وشاعر أرجنتيني، أيضًا مترجمًا بارزًا للأعمال الأدبية من الإنجليزية والفرنسية والألمانية إلى الإسبانية في الستينيات. قام بترجمة أعمال ويليام فولكنر، وأندريه جايد، وهيرمان هيس، وفرانز كافكا، وروديارد كيبلينج، وإدغار آلان بو، ووالت ويتمان، وفيرجينيا وولف، وآخرين. كتب بورخيس وألقى محاضرات مكثفة حول فن الترجمة، “معتبراً أن الترجمة قد تحسِّن من الأصل، بل قد تكون مخلصة له، وأن التصورات البديلة وربما المتناقضة لنفس العمل يمكن أن تكون صالحة بشكل متساوٍ”.

أنتج مترجمون آخرون ترجمات حرفية، وخاصة مترجمي الأعمال الدينية والتاريخية والأكاديمية والعلمية. لقد التزموا بشكل وثيق بالنص الأصلي، وفي بعض الأحيان وسعوا حدود اللغة النهائية لإنتاج ترجمة غير اصطلاحية.

ظهر نظام جديد يسمى “دراسات الترجمة” في النصف الثاني من القرن العشرين. صاغ مصطلح “دراسات الترجمة” جيمس س. هولمز، وهو شاعر أمريكي هولندي ومترجم للشعر، في ورقته البحثية المؤثرة “دراسات الترجمة وطبيعتها” (1972). أثناء كتابة شعره، ترجم هولمز العديد من أعمال الشعراء الهولنديين والبلجيكيين إلى الإنجليزية. تم تعيينه كأستاذ في المعهد الجديد للمترجمين الفوريين والمترجمين (الذي أعيدت تسميته لاحقًا بمعهد دراسات الترجمة) الذي أنشأته جامعة أمستردام في عام 1964.

كان يُنظر إلى الترجمة الشفوية على أنها شكل متخصص من أشكال الترجمة – الترجمة المنطوقة بدلاً من الترجمة المكتوبة – قبل أن تصبح تخصصًا منفصلاً في منتصف القرن العشرين. تحررت دراسات الترجمة الشفوية تدريجياً من دراسات الترجمة للتركيز على الجانب العملي والتربوي للترجمة الشفوية. كما تضمنت الدراسات الاجتماعية للمترجمين وظروف عملهم، في حين أن مثل هذه الدراسات ما زالت تفتقر بشدة إلى المترجمين حتى يومنا هذا، نظرًا لقة الإلمام بها.

القرن الحادي والعشرين

يساهم المترجمون المعاصرون، مثل أسلافهم، في إثراء اللغات. عندما تفتقر اللغة إلى المصطلحات الموجودة في اللغة الأصلية، فإنها تقترض هذه المصطلحات، وبالتالي تثري اللغة المستهدفة

أصبحت دراسات الترجمة مجالًا أكاديميًا متعدد التخصصات يشمل مجالات دراسية مختلفة (الأدب المقارن، التاريخ، اللغويات، فقه اللغة، الفلسفة، السيميائية، المصطلحات، اللغويات الحاسوبية). وقد يختار الطلاب أيضًا تخصصًا دقيقًا كـ(ترجمة قانونية أو اقتصادية أو تقنية أو علمية أو أدبية) ليتم تدريبهم وفقًا لها.

لقد عزز الإنترنت سوقًا عالميًا لخدمات الترجمة والتعريب ولبرامج الترجمة. لقد حلت أيضًا العديد من المشكلات، مع التوظيف غير المستقر وانخفاض معدلات المترجمين المحترفين، وظهور الترجمة التطوعية غير مدفوعة الأجر بما في ذلك الترجمة الجماعية. يحتاج الأشخاص ثنائيو اللغة إلى مهارات أكثر من لغتين ليصبحوا مترجمين جيدين. أن تكون مترجمًا هي مهنة، وهي تعني معرفة وإلمام دقيق بالموضوع.

بعد أن حظيت بتقدير كبير إلى جانب المؤلفين الأدبيين والأكاديميين والعلميين على مدى ألفي عام، أصبح العديد من المترجمين غير مرئيين في القرن الحادي والعشرين، وغالبًا ما يتم نسيان أسمائهم في المقالات والكتب والمواقع الإلكترونية والمحتويات الأخرى التي أمضوها أيامًا أو أسابيع أو شهورًا في الترجمة.

على الرغم من وجود أدوات CAT (الترجمة بمساعدة الحاسوب) و MT (الترجمة الآلية) التي تم إنشاؤها لتسريع عملية الترجمة، لا يزال بعض المترجمين يرغبون في مقارنتهم بالفنانين، ليس فقط لحياتهم المحفوفة بالمخاطر، ولكن أيضًا من أجل الحرفة والمعرفة، والتفاني والعاطفة التي يضعونها في عملهم.

اقرأ ايضًا: نظرات نقدية في بعض الترجمات العربية المعاصرة مع نماذج منها

المصدر
marielebert

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى