- روبرتو مايوتشي
- ترجمة: وسن بن نايف العنزي
- تحرير: محمد بن عبد العلي عبيدة
يعد بيير دوهيم أحد أكثر المؤلفين شهرة، ورغم ذلك، لم تخضع أفكاره بعد لدراسة وافية. فقد ورد اسم دوهيم في أهم كتب الفيزياء، والكيمياء، والفلسفة، وتاريخ العلوم القديمة والوسطى، ونظرية المعرفة في القرن التاسع عشر، أو حتى المؤلفات الجدلية في هذه الحقول. ومع ذلك، فإن الدراسات المخصصة له ليست كثيرة بما يكفي لنقارن بينها. وبسبب تعقيد عمل دوهيم، فإن أي كتاب جديد عن دوهيم يكون بشكل شبه حتمي، يقدم وجهة نظر أصلية. هذا هو الحال بالفعل مع هذا الكتاب؛ فلبيان أكبر قدر ممكن من الوحدة والتماسك في فكر دوهيم، ركز ستوفل على إعادة بناء الدور الذي تلعبه الظاهراتية-الفينومينولوجيا، التي تختلف عن مذهب الظواهر، ذلك المذهب الفلسفي القائل بأنه لا توجد إلا للظواهر، بينما تؤمن الظاهراتية بـوجود حقيقة للشيء في ذاته، مع اعتبار أن المعرفة البشرية لا يمكنها الوصول إليها.
يبدأ الكتاب بفصل مخصص لحياة دوهيم، حيث يستخدم ستوفل العديد من الرسائل غير المنشورة (يعمل ستوفل على نشر مراسلات دوهيم، لذلك يتحدث بمعرفة كبيرة بالحقائق). وبفضل هذه المواد، تظهر صورة دوهيم أكثر ثراءً من تلك التي بنيت في السابق لأغراض عملية، مع سمات جميلة جدًا تكشف عن شخصيته الصلبة، والشجاعة، ولكن المتهورة أيضا والقاسية، لرجل جعل جميع كتاباته آلة حرب حقيقية ضد الخصوم كما يسميها شخصيًا؛ وهذا ما يفسر جيدًا التهميش المتتالي الذي واجهه دوهيم في العالم الأكاديمي.
من خلال تحليل واسع وملتزم بشدة بتراث دوهيم المنشور حتى اليوم، خصص الكاتب الفصلين الثاني والثالث لما سيكون الموضوع الشامل للكتاب؛ إن المشروع الثقافي لدوهيم -المحدد بمجال البحث العلمي- تم إثراؤه تباعاً بعنصر فلسفي وعنصر تاريخي. وتبقى الأولوية دائماً للمشروع العلمي، لكنه غير كافٍ لفهم عمل دوهيم بطريقة متكاملة، وذلك لأن البحث الفلسفي والتاريخي مرتبط بمشروعه الذي قدم دفاعا واضحا عن الدين، وما يبدو أنه يربط بين المشروع العلمي والمشروع الدفاعي هو البُعد الظاهراتي.
يحلل الفصل الرابع ظهور “الفينومينولوجيا الدوهيمية” في علاقتها بمشروعه العلمي، والدفاعات التي كتبها في السنوات 1892-1893. ومن خلال هذا البحث، يبدو أن دوهيم قد انشغل -من ناحية- بالحفاظ على العمل العلمي من أي تأثير ميتافيزيقي (وإلا فإن مثل هذا التأثير سينتهي به الأمر إلى نقل العلم ضمن خُطب الفلاسفة) ومن ناحية أخرى، حماية الدين من الشبهات التي يمكن استخلاصها من العلم (كما فعل الوضعيون). ويبدو أن حل هذه المشكلة هو على وجه التحديد: تبني المذهب الظاهراتي، لأنه يفصل بوضوح العلم عن الميتافيزيقا (وبالتالي عن الدين)، مما يجعل هذين المجالين من المعرفة غريبين عن بعضهما البعض. وداخل هذا الإطار المثير للجدل، طور دوهيم نظريته المعرفية الدقيقة التي ستجعله أحد أكثر فلاسفة العلم حضورًا في القرن العشرين. ومع ذلك، فإن الأعمال الأولى لدوهيم، التي تركز على العلم في معناه التقني -أي الديناميكا الحرارية- أثارت ردة فعل سلبية لدى التوماويين الجدد (أتباع توما الإكويني)، وخاصة يوجين فيكير، القس الذي يرى في هذا الفصل الواضح بين العلم والميتافيزيقا، وبالتالي بين العلم والحقيقة الموضوعية، مثالًا واضحًا على المذهب الشكي، مشابهًا لذلك الذي يدعمه الوضعيون أعداء الدين. يسعى ستوفل لإظهار كيف كان الصراع مع القس فيكير مهماً لدرجة خلق تغيير في التوجه الذي يتزعمه دوهيم، الأمر الذي جعله يخفف من النزعة التواضعية التي قدمها من خلال تقديم مفهوم التصنيف الطبيعي: فالنظريات العلمية هي أدوات لتصنيف التجربة، ولكن لتجنب الاضطرار إلى قبول تصنيفات متناقضة، سنفترض أن العلم لديه ما يؤهله للانضمام إلى التصنيف الطبيعي. لذلك، فإن واقعية دوهيم لا تظهر في سياق علمي، بل من الضرورات التي تفردها المسبقات الفلسفية والدفاعية.
يعتبر التأثير الفلسفي لبليز باسكال أحد العوامل الأساسية في إعادة التوجيه الدوهيمي، والذي حدد ستوفل حضوره، ضمنيًا أكثر من كونه صريحًا، حتى في كتابات دوهيم الأولى. لذلك، من سنة 1892-1893، كان أساس فكر دوهيم: العلاقة الصعبة بين الظاهراتية (ذات الميل المتشكك) والواقعية (ذات النزعة الميتافيزيقية) على خلفية من فكر التوماويين الجدد.
وأما الفصل الخامس، فينطلق لإثبات أن هذا الأساس الإشكالي يظل محوريًا في تفكير دوهيم طوال أعماله المتتالية. يظل اهتمام دوهيم دائمًا -حتى في العمل الذي يتسم بالبراعة المعرفية الكبيرة مثل: “بنية النظرية الفيزيائية”-، توضيحَ العلاقة بين الظاهراتية والواقعية بطريقة تجعل العلم متوافقًا مع الاعتبارات الدينية، في إطار لا يجعلها متعارضة مع المجالات التي هيمن عليها الدين قبل ذلك. وحتى دراسات تاريخ العلم، التي أصبحت تشغل دوهيم أكثر فأكثر بطريقة أكثر إلحاحًا، اعتبرها ستوفل تحقيقات تهدف من جهة إلى إعادة اكتشاف تقليد تاريخي، يمكن أن يؤكد صحة المذهب الظاهراتي. ومن جهة أخرى، إلى إنصاف الدور الذي لعبته الكنيسة في ولادة العلم الحديث، لا سيما تبرير إدانة غاليليو لخرقه قانون حفظ الظواهر. ومع ذلك، تبرز نصوص دوهيم الأخيرة، التي كُتبت خلال الحرب العظمى حماسته الوطنية الكبيرة، وجودَ معارضة جذرية بين العلم الألماني والعلوم الفرنسية؛ ومن قلب مشروع الثقافة الدوهيمية، يجد دوهيم أساسًا فلسفيًا متينًا لنظرية المعرفة الخاصة به في هذه الصفحات، وذلك بفضل جاذبية باسكال الصريحة والملحة، والتي كانت محجوبة قليلاً في السابق.
كما خصص الكاتب فصلا خاصا لتحليل الظروف الخارجية التي صاحبت تحضير كتابات دوهيم، بفضل استثمار وثائق مثيرة للاهتمام وغير منشورة، بغرض إثبات المشاركة المستمره لدوهيم في مجال الجدل الديني وعقله المحارب دائماً، الذي يسلط ضوءًا جديدًا على الأوساط والمحاورين الذين اتصل بهم دوهيم.
وأما الفصل الأخير الذي ضم الخلاصة النظرية، فيهدف إلى تقديم القالب المعقد الذي ينظم كل عمل من أعمال دوهيم. إن تبني المذهب الظاهراتي لدوهيم يسمح بتقييد العلم (حيث الفيزياء هي صورته المثلى) والميتافيزيقا، من خلال تحديد نطاق كل منهما، وبالتالي ضمان استقلال الفيزياء والحفاظ على الميتافيزيقا (حيث الدين هو صورتها المثلى) من الهجمات غير المبررة من العلم.
ومع ذلك، فإن الظاهراتية الدوهيمية لا تحل جميع المشاكل وليست كافية، لأنها تترك المتطلبات المحددة لجميع العلماء للبحث عن حقيقة موضوعية واقعية دون إجابات. لا يمكن أن تكون ظاهراتية دوهيم فلسفة، لأنها لا تستطيع أن ترضينا تمامًا. بالنسبة لستوفيل، إنها استراتيجية ومنهجية تجعل من الممكن فصل العلم عن الدين، لحماية بعضهما من بعض، ولكنها تترك مشكلة الواقع الموضوعي غير مبررة: ف”بابتعادها عن التعبير عن جوهر العقل البشري، وعن تصويره اعتمادًا على مزاياه الجوهرية= لن تكون [الظاهراتية] أكثر من استراتيجية تستعمل فقط على المستوى العلمي والدفاعي. لذلك، ليس من منطلق الاقتناع بأن دوهيم كان ظاهراتيا، بل كان تبنيه لها من باب الاستعمال النفعي: الواقعية في قلبه، والظاهراتية في عقله”.(ص 367).
هنا نجد أنفسنا في مواجهة كتاب ذي قوة إيحائية كبيرة، لأنه قائم على دراسة عميقة وغني بالتوثيق. يستشهد ستوفل بجمع ضخم من الحجج لصالح أطروحة تأريخية محددة بوضوح، دون التخلي عن المواجهة المباشرة والدقيقة والوثيقة مع النصوص، باستخدام منهجية تأريخية لم يتخل عنها: حيث يتعامل مع الوثيقة التاريخية دائمًا بأمانة، دون الخضوع لشرط دعم الأطروحة التفسيرية الموضوعية. تحظى المعلومات الجديدة الواردة في العمل بأهمية كبيرة، وهي مأخوذة من وثائق لم تُنشر بعد. باختصار إنه عمل واضح المعالم وغني بالمعلومات.
إنه أيضًا كتاب مثير للجدل إلى حد كبير، وهو جدال بسلوك مهذب دائماً؛ وهو لا يبدأ الجدال لذات الجدال، ولكنه دائمًا ما يسترشد بتسليط الضوء على مشكلة تفسيرية. يبدو لي أن الهدف المفضل للجدل هو الدراسة التي كتبتها منذ عشرين عامًا[1] والتي شرفني ستوفل باعتبارها “بلا شك أكثر الأدبيات الثانوية تميزًا” (ص 90). ومع ذلك، أشعر أنه من المبرر الإشارة هنا، وآمل بنفس القدر من الأدب، إلى بعض النقاط التي تختلف فيها آراؤنا.
الاختلاف الأكبر يتعلق بالتحديد بمفهوم “الظاهراتية” الذي يعتبر مركزيًا لستوفل، بينما هو ثانوي بالنسبة لي. ففي رأيي، ما يميز فلسفة العلم عند دوهيم -وهو ما يميزها عن الفلسفات الأخرى في ذلك الوقت، ويفسر نجاحه وحيويته المثيريّن للدهشة- ليس بناء نظرة للعلم مؤطرة بعالم الظواهر وتمجيد التجربة، بل على العكس تمامًا، فقد مدح النظرية العلمية، وكان مع تدمير الإيمان بوجود أساس تجريبي وواقعي للعلم، وإثبات الدور الأساسي الذي لا غنى عنه دائمًا الذي يلعبه التنظير في جميع الملاحظات العلمية. صحيح أن العلم بالنسبة لدوهيم لا يتعدى مستوى الظواهر، ولكن بالنسبة إليه أيضا، فإن الظواهر التي هي أساس العلم لا تستمد معناها إلا من قوة النظرية: فبدون نظرية، فإن هذه الظواهر تظل عجماء لا تخبرنا بشيء. إو الظواهر هي أحد مكونات فكر دوهيم الذي يشترك فيه مع الوضعية السائدة، التي لا تعترف سوى بالعلم الذي يقتصر على الحقائق، وهي فلسفة لاأدرية فيما يتعلق بالأسباب الخفية والكامنة، وغير مبالية بالدين بشكل عام. لقد كان إرنست ماخ من أهم مؤيدي الظاهراتية، وهو الذي دفع بالموقف الوضعي إلى حدوده، لكن، لم يكن دوهيم من أتباع ماخ (كما يقترح ستوفيل، ص 129)، على الرغم من أن ماخ يشاركه جدلًا ضد أولئك الذين يدعون العثور على ميتافيزيقا العلم. إن الاختلاف بين المفكرين يرتبط -على وجه التحديد- بطبيعة المعرفة العلمية: فهي معرفة بالظواهر بشكل أساسي عند ماخ، ونظرية في المقام الأول عند دوهيم. لذلك، يبدو لي أن تأكيدات مثل ما يلي مضللة: “في عقيدته، دوهيم، بعيد عن تضخيم أهمية النظرية، وليس لديه أي اهتمام آخر سوى التقليل من ادعاءاتها. وهذا هو المعنى العميق للفينومينولوجيا عنده”(ص 190). في سياقه التاريخي، كان دوهيم المدافع الأكثر شراسة عن القيمة (غير الميتافيزيقية المعترف بها) للنظريات في البحث العلمي، ضد الوضعيين (الظواهريين) الذين تطلعوا إلى علم واقعي بدون نظرية.
ومن المؤكد أن دوهيم، لا سيما في كتابات النصف الأول من تسعينيات القرن التاسع عشر، ناقش مع الباحثين الذين وضعوا العلم والحقيقة الموضوعية على نفس المستوى، وبالتالي أعطوا قيمة وجودية للمفاهيم العلمية، حتى المفهوم المعارض (الوضعية!) لعلم الظواهر، لكن هذا ليس دليلًا على أن الموقف المعاكس بين الظاهراتية والواقعية كان دائمًا في مركز تفكيره. لا يزال يبدو لي جدالًا ثانويًا، وليس مبتكراً، ومقره بشكل خاص في فرنسا، الأرض المختارة للوضعية الظاهراتية. كان دوهيم يتجادل أيضًا مع القس فيكر الذي كان “يؤمن بمجموعة مذاهب القديس توما الأكويني، أو بشكل أكثر عمومية: بمجموعة العقائد المستوحاة من التوماوية الجديدة”، لكن خصومه الحقيقيين والأهم كانوا مختلفين، فقد كانوا معارضين للديناميكا الحرارية المجردة، وكانوا من مؤيدي نظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية. لقد ولدت الواقعية الدوهيميه، مع تقديم مفهوم التصنيف الطبيعي لـ رفض النموذج الانتقائي للاسكتلنديين، في سياق مناقشة علمية، أجريت مع الفيزياء الأنجلو سكسونية (مصحوبة بالمصالح الفلسفية والدفاعيه، لكن دون أن تسيطر عليها).
من باب أولى، يبدو لي أن موضوع الظاهراتية / الواقعية لا يمكن وضعه في مركز تفسير الأعمال اللاحقة. في النظرية الفيزيائية -وهي تحفة فلسفة دوهيم العلمية- يتم التعامل مع السؤال بسرعة في البداية وفي الختام، بينما في الغالبية العظمى من الصفحات تكون الأسئلة مختلفة تمامًا.و في هذا العمل، فإن المجادلين الرئيسيين لدوهيم ليسوا تمامًا واقعيين او قساوسة، بل هم الأداتيون الذين تشكلوا من تيارين أساسيين: الأنجلو ساكسونية (غير ميتافيزيقية!)، والنزعة التواضعية المتطرفة لدى إدوارد لي روي. وقد أيد دوهيم الواقعية العلمية في هذا الكتاب الذي كتبه إبان قلقه بشأن موجة الذاتية التي سيطرت على الثقافة الفرنسية، بناءً على كتاباته السابقة، ولكن في هذه المعركة، كان استخدام الظاهراتية هامشيا للغاية.
ولا يبدو من المقبول بالنسبة لي أن أفسر مبدأ حفظ الظواهر باعتباره “قبل كل شيء تبريرا تاريخيا لفينومينولوجيا دوهيم” (ص 227). وفي الواقع، فإن التأكيد على مستوى تاريخ مفهوم دوهيم-بيلارمان الذي ظهر في الكتاب ضعيف للغاية. ما هو التبرير الذي يمكن أن تقدمه الظاهراتية للعمل الذي يبدو أنه -مقابل هذا المفهوم للعلم- متفق عليه بين علماء الفلك العرب والعديد من العلماء: بطليموس وكوبرنيكوس وتيكو براهي وكبلر وكلافيوس وغاليليو؟ إن “التحقيق” الذي تم إجراؤه في هذا الكتاب من خلال العديد من المفكرين الذين عبروا بأنفسهم عن طبيعة النظرية الفيزيائية من شأنه أن يؤدي إلى إدانة هذا التحليل؛ ولم يفعل دوهيم شيئًا لسد الفجوات التي اكتشفها خصومه في حججه.و يبدو لي أن الهدف من الكتاب مختلف تمامًا: وهو الدفاع عن الكنيسة في مواجهة الكوبرنيكية.
ويبدو لي أن تفسير ستوفل لكتاب “العلوم الألمانية” قابل للنقاش بشكل خاص، حيث يرى ستوفل أن دوهيم قدم في هذا العمل معارضة قاسية وفصلا حاسما بين الروح الاستنباطية للألمان، وروح البراعة لدى الفرنسيين. ومع إشاراته المستمرة إلى باسكال، أكد ستوفل أن الكتاب هو النص المثالي لتأكيد كيف كان التعارض بين الظاهراتية والواقعية هو الموضوع المركزي في فكر دوهيم.
حقًا يبدو لستوفل أنه “مع الاقتباس من باسكال في كتاب العلوم الألمانية، يجد دوهيم أساسًا متينًا لنظرية المعرفة الخاصة به” (ص 273). في رأيي، هذا النص -بعيدًا عن أن يُفسر على أنه إنجاز فلسفي- هو أضعف كتابات دوهيم. صحيح أن هذا الكتاب قد يبدو ذا جودة عالية “خاصة عند مقارنته بكتابات مماثلة لمفكرين آخرين” (ص 262). ولكن إذا كان من الضروري مراعاة الكتابات المماثلة لمفكرين آخرين، فهذا يعني التدخلات التي أرادت بأي شكل من الأشكال توظيف فلسفة العلم في الصراع الأيديولوجي العنيف بين المثقفين المنتمين إلى المعارضة خلال الحرب العالمية الأولى، والتي كانت ذات مستوى نظري منخفض للغاية، وبالتالي إبراز أن كتابات دوهيم كانت “منشورات حربية” أفضل قليلاً من غيرها. تظل الحقيقة أن هذه الكتابة أقل بكثير من سابقاتها، ولكن الأهم من ملاحظة الطابع التخطيطي والاختزالي -الذي لا مفر منه في حالة وجود نص مخصص للطلاب الذين يتجهون إلى المعارك- هو اعتبار أن هذا النص يتعارض مع ما كتبه دوهيم سابقًا.
كان الهدف من الكتاب هو محاربة العقلية الاستنباطية والمجردة للألمان؛ ولتحقيق هذا الهدف، كتب دوهيم نصًا ضد تجاوزات التجريد الذي يجنح في تفسيره للتجريبية والنزعة الاستقرائية بشكل واضح إلى استنتاجات لا يمكن التوفيق بينهما وبين ما كان مدعومًا ومقبولًا مسبقا. وقد تميزت معركة دوهيم ضد الوضعية بمفهوم المبادئ الأولية على أنها بُنى حرة، مفترضة، لا يمكن بناؤها أو الوصول إليها من خلال إجراء استقرائي؛ لكن ما يحدث هو تحديد تلك المبادئ بالقوانين التجريبية، المستمدة من التجربة ومن ثم لم يعد من مجال للقول بأنها بُنَى حرة. في الجدل مع الوضعيين، ادعى دوهيم أن المفاهيم العلمية محرومة من التفسير التجريبي المباشر وأكد أنه لا يمكن أن تتعرض النظرية العلمية بأكملها للتجربة، ولكن فقط بعض نتائج مبادئها. الآن، على عكس هذه الادعاءات، يؤكد أن جميع المفاهيم، حتى تلك التي تظهر في الافتراضات الأكثر تجريدًا، هي ذات طبيعة تجريبية. بينما في النظرية الفيزيائية، جادل دوهيم مع كلود برنارد أن المنهج في الفيزياء معقد أكثر بكثير مما هو عليه في علم الأحياء؛ ومن ناحية أخرى، قدم معارضته للدور المركزي المعطى للنظريات، من خلال تطوير نقده الشهير للتجارب الحاسمة؛ إن الحفاظ على النموذج المعرفي المعتمد هو بالمعنى الدقيق للكلمة مستمد من برنارد، بالإضافة إلى باستور -عالم أحياء آخر- في هذا الإطار المعرفي الجديد، الذي يهذب نظرية المعرفة الدوهيميه المعقدة من خلال تقريبها من تلك الخاصة بالتجريبية الوضعية،
فإن ما يحدث هو تشويه لبعض المفاهيم المركزية الأكثر وضوحا؛ ويتعلق يتعلق بمفاهيم الفطرة السليمة والحس المشترك؛ ففي جميع الأعمال السابقة، ميز دوهيم بين المصطلحين بدقة: الفطرة السليمة هي تلك الخاصة بالأشخاص الذين لا يعرفون الفيزياء مع يقينهم بالاقتراحات العلمية؛ على العكس من ذلك، فإن الحس المشترك هو تراث المتخصصين والعلماء الخبراء الذين يقررون اختيار الفرضيات، ويستخدمون ويؤسسون افكارهم على الفطرة السليمة، والتي، على عكس الحس المشترك، معلومة جيدًا. ومع ذلك، في العلم الألماني، يتم استخدام المصطلحين بالتبادل كمرادفات، وبالتالي فإن الفطرة السليمة تطيل ظلها حتى تلامس مبادئ النظريات. يبدو لي أن هذه نقطة مهمة للغاية لم يأخذها ستوفل في الاعتبار.
في الأخير، إن الأطروحات التي يدعمها ستوفل، على الرغم من اختلافها عن أفكاري، فلديها ميزة دائمة في الجدال العلمي القوي والدقيق. وعلى هذا النحو، فإنها تقدم اقتراحات جديدة وتغذي الفكر حتى لأولئك الذين لا يتفقون معها.
اقرأ ايضًا: تأملات فينومينولوجية حول ظاهرة الهَوَس
[1] روبرتو مايوتشي، الكيمياء والفلسفة والعلوم ونظرية المعرفة والتاريخ والدين في أعمال بيير دوهيم (منشورات كلية الآداب والفلسفة بالجامعة دي ميلانو، 1 10: قسم حرره قسم الفلسفة، 5) فلورنسا، لا نوفا إيطاليا تحرير رايس، 1985، زيل – 445 ص.