العلم

الكون وعلم الفيزياء

  • أحمد رامي
  • تحرير: إيثار الجاسر

بدأ عصر الفيزياء الحديثة مع اكتشاف أهمِّ نظريَّة في تاريخ البشر، النَّظريَّة النَّسبيَّة الخاصَّة والعامَّة ” Special & General Relativity ” والتي أثبت فيهما أينشتاين أنَّ الزَّمن والمكان متَّحدان مع بعضهما البعض ويصنعان نسيجًا ديناميكيًّا رباعيَّ الأبعاد يطلق عليه (الزمكان) يمكنه أن ينحني، يتوسع، يدور، وينكمش والتي أثبت فيها أيضًا أنَّ الجاذبيَّة التي هي أحد القوى الأساسيَّة في الطَّبيعة ما هي إلّا انحناء الزمكان بسبب تفاعل أيِّ مصدر طاقة معه.

بعد أينشتاين، جاء عالم الرياضيَّات ألكسندر فريدمان وقام بافتراض الكون على المستويات الماكروسكوبيَّة متجانسًا ومتناظرًا، أي أنَّه يبدو بنفس الصُّورة من أيِّ نقطة ترصده منها، ثم قام بعد ذلك بتطبيق معادلات أينشتاين علي الكون المتجانس والمتناظر وأثبت أنَّ المعادلات تتنبأ بأنَّ الكون لا يمكن أنَّ يكون ساكنًا أبدًا بل ديناميكي إمَّا ينكمش وإمَّا يتوسع، بعد ألكسندر فريدمان جاء عالم الفلك إدوين هابل ورصد أنَّ المجرَّات تتباعد عن مجرَّتنا فاستنتج بذلك أنَّ الكون يتوسَّع، بناءً على حقيقة التَّوسُّع الكوني جاء كلٌّ من عالم الرياضيَّات روجر بنروز وعالم الفيزياء ستيفن هوكينج وأثبتا أنَّه حسب نظرية أينشتاين عندما نرجع بالزَّمن للوراء، الزمكان سيبدأ في الانكماش ومادَّة الكون ستظلِّ تقترب من بعضها مع انكماش الزمكان إلى حصول انهيار للكون في نقطة تسمى المتفرِّدة تمثِّل هذه النُّقطة حاجز للزمكان لا يمكن أن يمتدَّ الكون خلفها أي أنَّ هذه النُّقطة تمثِّل بداية الكون.

نظريَّة أينشتاين كلاسيكية فهي تتعامل مع الأشياء على المستويات الكبيرة فقط فلا يمكن أن تستخدم معادلات أينشتاين لتصف بها إلكترون كمثال، يوجد فرع آخر من الفيزياء الحديثة يسمي ميكانيكا الكم وهو العلم الذي وضع أسسه مجموعة من العلماء هم ماكس بلانك، شرودينغر، ديراك، دي برولي، باولي، بور، ماكس بورن، ڨون نيومان، وهايزنبرغ، وهو يحتوي على المعادلات التي تصف الأشياء فائقة الصِّغر كالإلكترونات والكواركات -الأشياء التي تبني البروتونات والنيوترونات في أنوية الذرات- والفوتونات -الضوء- النَّظريَّات الكمِّيَّة الموجودة الآن تتلخص في نموذج يسمي النَّموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، وهم ثلاثة نظريَّات تصف ثلاث قوى أساسيَّة وهي المتبقِّية في الطَّبيعة بجانب القوى الرَّابعة الجاذبيَّة، هذه النظريات هي الكهروديناميكا الكمِّيَّة “Quantum Electrodynamics” وهي تستخدم لوصف القوى الكهرومغناطيسيَّة، الكروموديناميكا الكميَّة “Quantum Chromodynamics” وهي تستخدم لوصف القوى النَّوويَّة القويَّة، الفلاڨورديناميكا الكمِّيَّة “Quantum Flavordynamics” وهي تستخدم لوصف التَّفاعلات النَّوويَّة الضَّعيفة أي أنَّ معرفة البشر تتلخَّص في نظريَّة كلاسيكيَّة تصف الجاذبيَّة تسمى: النِّسبيَّة العامَّة، ونظريات كمِّيَّة تستخدم لوصف بقيَّة القوى الأساسيَّة في الطَّبيعة.

النَّتيجة المذكورة بالأعلى -أنَّ الكون بدأ من متفرِّدة- نتيجة معتمدة كليًّا على معادلات النِّسبيَّة العامَّة فقط، لكن نحن نعرف أنَّه عندما نرجع بالزَّمن للوراء حجم الكون سيصبح أصغر فأصغر والمادَّة نتيجة لانكماش الزمكان ستقترب من بعضها أكثر فأكثر إلى أن نصل لمرحلة سيكون فيها حجم الكون صغير جدًّا جدًّا، وهذا الحجم متناهِ الصِّغر يحتوي على كلِّ طاقة الكون أي مستويات طاقة عاليَّة جدًّا، فالكون الذي تراه الآن شاسع وكبير جدًّا كان في الماضي صغيرًا جدًّا أي أنَّه في الماضي كان نظام كمي وليس نظام كلاسيكي، وكما ذكر بالأعلى نظريَّة أينشتاين لا تصلح للتَّطبيق على الأنظمة الكميَّة، فالمتفرِّدة هي نتيجة تطبيق نظريَّة أينشتاين على نظام كمِّي لا تصلح لوصفه أصلًا، لذلك معظم العلماء الأكاديميين يعدُّون المتفرِّدة مجرَّد دليل على نهاية المعرفة البشريَّة فقط وليست شيء كان له وجود واقعي فعلًا في الماضي، ما إن نصل لنظريَّة تستطيع وصف الكون في هذه المرحلة من عمره سنعرف كيف نشأ الكون، هذه النَّظريَّة التي يبحث كل علماء الفيزياء عنها الآن تسمي الجاذبيَّة الكمِّيَّة “Quantum Gravity” وهي النَّظريَّة التي ستصف طبيعة الزمكان على المستويات الكمِّيَّة الصَّغيرة كما تصفة نظريَّة أينشتاين على المستويات الكبيرة وتصف تصرُّف المادَّة عند مستويات الطَّاقة العالية، لكن هذه النَّظريَّة غير موجودة الآن؛ لأنَّنا لا نفهم طبيعة الأشياء عند مستويات الطَّاقة العالية.

111

حسب ميكانيكا الكم، الطبيعة لا يوجد فيها حتمية، التَّأثيرات الكمِّيَّة يُعبَّر عنها بمخطَّطات تسمَّى بمخطَّطات فاينمان نسبة لعالم الفيزياء الكبير ريتشارد فاينمان الذي اخترعها، وكلُّ تأثير كمِّي له عدَّة مخطَّطات تعبِّر عن الطُّرق المختلفة التي يمكن أن يحدث من خلالها التَّأثير وكلُّ طريق يكون له نسبة احتمال، فعلى سبيل المثال تأثير تنافر إلكترونين، هذا المخطَّط يسمى مخطَّط الشَّجرة ” tree-diagram “؛ لأنَّه عبارة عن فروع فقط.

يقول اقترب إلكترونان من بعضهما (الأسهم الدَّاخلة) فقذف أحدهما فوتون (الخطُّ المتعرِّج) امتصَّه الإلكترون الآخر فحصل التَّنافر بينهما (الأسهم الخارجة) فهذا طريق ممكن لحدوث التَّأثير (تبادل فوتون).

هذا المخطَّط يُسمى مخطَّط الحلقة الواحدة ” one-loop diagram “؛ لأنَّ به حلقة مغلقة.

1222
يقول اقترب إلكترونان من بعضهما (الأسهم الدَّاخلة) فقذف أحدهما فوتون (الخطُّ المتعرِّج) تحوَّل هذا الفوتون إلى إلكترون ومضاد إلكترون على شكل (حلقة مغلقة) ثم أفنى الإلكترون مضاد الإلكترون وتحولا مرَّة أخرى لفوتون (الخط المتعرِّج) امتصه الإلكترون الآخر فحصل التَّنافر (الأسهم الخارجة) فهذا طريق آخر ممكن لحدوث نفس التَّأثير (تبادل فوتون يصنع حلقة مغلقة بين الإلكترونين).

1333

يوجد مخطَّطات بها حلقتين وثلاث حلقات هذا جزء بسيط من المخطَّطات التي تعبِّر عن الطُّرق الممكنة التي يمكن أن يحدث بها هذا التَّأثير، لو جلست تحسب الطُّرق الممكنة التي يمكن أن يحدث من خلالها هذا التَّأثير ستجد أنَّ عدد هذه الطُّرق لانهائي، ولحساب الاحتماليَّة النِّهائيَّة لحصول هذا التَّأثير يجب أن تأخذ كلَّ هذه الاحتمالات في الحسابات، هذه الاحتمالات لا نهائيَّة، عندما تأخذها كلَّها في الحسابات، المعادلات ستعطيك مالانهايات، لن يكون للنَّظريَّة معنًى، لا يوجد شيء اسمه احتمال تنافر إلكترونان يساوي ما لانهاية يجب أن نحصل على أرقام لها معنى، هذه المشكلة ظلَّت موجودة إلى أن جاء عالم الفيزياء كين ولسون واقترح طريقة لحلِّها.

السَّبب الرَّئيس لظهور المالانهايات في المعادلات هو أنَّ هذه المعادلات تُطبَّق عند مستويات طاقة عالية جدًّا، الخطوط المتعرِّجة والحلقات المغلقة في المخطَّطات والتي تحدث من خلالها التَّأثيرات الكميَّة مكوَّنة من جسيمات يُطلَق عليها اسم (الجسيمات الإفتراضية)، عند مستويات الطَّاقة العالية يصبح تأثير الجسيمات الافتراضيَّة كبيرًا جدًّا لذلك إن أردت تطبيق المعادلات عند مستوى الطَّاقة العالي هذا يلزم أن تأخذ في الحسابات تأثيرات هذه الجسيمات افتراضيَّة أي العدد اللانهائي من مخطَّطات فاينمان، اقترح كين ولسون الاعتراف بأنَّنا لا نفهم الفيزياء عند مستويات الطَّاقة العالية ولكي نحصل علي نتائج ذات معنى عند إجراء الحسابات يجب أن نجعل المعادلات صالحة للعمل فقط لمستوى طاقة معيَّن، وعلى سبيل المثال قطعًا إن كان مستوى الطَّاقة العالي الذي يلزمك أن تأخذ في الحسابات العدد اللانهائي من مخططات فاينمان ويجعل كل حساباتك لا نهائية يساوي 10 چول، اجعل المعادلات تعمل عند مستوي طاقة 6 چول فقط، مثلًا عند هذا المستوى تكون حدَّة تأثيرات الجسيمات الافتراضيَّة قد قلَّت ولن تكون مضطرًا لأنَّ تأخذ في الحسابات عدد لانهائي من المخطَّطات بل عدد نهائي وستحصل على نتائج ذات معنى لكن النَّتائج التي ستحصل عليها ستكون صالحة فقط لحد مستوى طاقة يساوي 6 چول، إن زاد مستوى الطَّاقة عن ذلك، المعادلات لن يكون لها معنى وستعطي لا نهايات مرة أخرى، إذن نحن نفهم طبيعة الأشياء لمستوى طاقة يساوي 6 چول فقط، وبعده لا نعرف شيئًا المعادلات تعطي لانهايات.

هذه الطريقة التي إقترحها ويلسون سماها إعادة تطبيع ويلسون Wilsonian Renormalization وهي طريقة تصلح معنا هنا مثلًا عندما نجري تجارب في مصادم الهادرونات الكبير؛ فإنَّ مستوى الطَّاقة الذي يعمل فيه مصادم الهادرونات الكبير صغير نسبيًّا لذلك عندما نجري تجارب هنا على كوكب الأرض لا نحتاج أن نعرف ما يحدث عند مستويات الطَّاقة العالية جدًّا نستطيع استخدام معادلاتنا عند هذا المستوى والحصول على نتائج لها معنى، لكن هذه الطريقة لن تنفع مع بدايات الكون، في بداية الكون كما هو مذكور مادَّة الكون كانت كلُّها موجودة في حيِّز صغير جدًّا أي مستوي طاقة عالٍ جدًّا هنا يجب أن تعرف ما هو نوع الفيزياء التي حكمت هذه الفترة لا يمكن أن تتجاهل ما يحدث عند مستويات الطَّاقة العالية هنا، وهذه هي العقبة أمام الوصول لنظريَّة الجاذبيَّة الكمِّيَّة، معادلاتنا صالحة فقط حتَّى مستوى طاقة معيَّن عندما نطبِّقها على بدايات الكون لا يكون لها معنى تعطي مالانهايات.

لذلك تظلُّ نشأة الكون لغزًا لم يتمكن أحد من حلِّه، بالرُّغم من ذلك يوجد مجموعة من العلماء يقومون بوضع نماذج تقريبيَّة لكيفيَّة نشأة الكون من أشهر هذه النماذج :

– نماذج الخلق الكمِّي للكون مثل نموذج ستيفن هوكينج وجيمس هارتل Hartle-Hawking no boundary proposal ونموذج ألكسندر فلنكن Tunneling wavefunction of the Universe.

– نماذج معتمدة على الجاذبيَّة الكمِّيَّة الحلقيَّة Loop Quantum Gravity، ونماذج معتمدة علي نظريَّة الأوتار الفائقة Superstrings theory.

لكن النَّماذج تخمينيَّة لا دليل عليها، وتعاني من مشكلة اللانهايات المذكورة بالأعلى ما عدا نظريَّة الأوتار، فنظريَّة الأوتار هي النَّظريَّة الوحيدة التي نجحت في التَّخلُّص من اللانهايات عند مستويات الطَّاقة العالية بافتراض وجود أبعاد إضافيَّة للزمكان رباعي الأبعاد لكنها تعاني من مشكلات أخرى غير مشكلات اللانهايات.

اقرأ ايضاً: مجلة العلوم الأمريكية تتحدّى فكرة الأكوان المتعدّدة


المصادر:

[1] Quantum Field Theory : A Modern Introduction Oxford University Press Michio Kaku.

[2] On the philosophy of cosmology Studies in History and Philosophy of Science Part B: Studies in the History and Philosophy of Modern Physics George Francis Rayner Ellis.

[3] Renormalization and Effective field theory American Mathematical Association Kevin Costello

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى