- شوشانا زوبوف*
- ترجمة: عبير محمد
- مراجعة: ملاك اليحيى
- تحرير: إيثار الجاسر
كان الجدل حول الخصوصيَّة والقانون في لجنة التِّجارة الاتِّحاديَّة محتدمًا ذلك اليوم حيث أكَّد منفذو الصِّناعة التِّقنيَّة قدرتهم على تنظيم قطاعهم الصِّناعيِّ بأنفسهم وأنَّ تدخُّل الحكومة سيزيد الأمر سوءًا، ومن ناحية أخرى يحذِّر مؤيِّدو الحرِّيَّة المدنيَّة من الخطر غير المسبوق الذي تشكِّله البيانات التي تحوزها الشَّركات على حرِّيَّة الأفراد، كما أشار أحدهم عام 1997 بقوله: ” علينا أن نحدِّد موقع الإنسان من العصر الإلكترونيِّ، أم أنَّنا سنصبح مجرّد سلعٍ للتِّجارة؟”، وسأل أحد الأعضاء ” متى يتوجب علينا وضع الحدِّ الفاصل؟”.
قد نال المنفِّذون الصِّناعيُّون مرادهم ولم يرَ ذلك الحد الفاصل، إذ ظهرت ثمرة انتصارهم بعد ثلاثة وعشرين عامًا وذلك المنطق الاقتصاديُّ الجديد والذي سميته “رأسماليَّة المراقبة”، يعتمد نجاح هذا المنطق على عمليات ذات مرآة أحاديَّة الاتِّجاه صُمِّمت خصيصًا؛ لكيلا نعرف عنها شيئًا، وظهرت خلف توجيهات مضلَّلة وعبارات رنَّانة وأكاذيب، وقد تجذرت وتأصَّلت في المنصَّات الجديدة على الإنترنت، واحتفى بها روَّاد رأسماليَّة المراقبة بزعمهم أنَّها “أكبر منصَّات العالم غير الخاضعة للرَّقابة”، لكن القوى الغالبة تلعب من خلف الكواليس وتسيطر على كلِّ شيء، واستولت مؤسَّسات المراقبة الرَّأسماليَّة الخاصَّة على هذه المنصَّات الحرَّة وأخضعتها لقوانينها الصُّلبة.
لم تجد رأسماليَّة المراقبة من يقف في وجهها عند ظهورها في العقدين الأخيرين، فقد كانت الطَّفرة الرَّقميَّة سريعة كما سمعنا وقد تخلَّف عن الرَّكب مناضلون ضدَّها، ووقع الكثير منَّا ضحيَّةً للوهم في اندفاعهم خلف ذلك الأرنب الشَّقيِّ للولوج في نفقه نحو بلاد العجائب الرَّقميَّة الموعودة كما فعلت أليس.
واحتفينا في بلاد العجائب بمجَّانيَّة الخدمات الرَّقميَّة الجديدة، لكنَّنا نرى الآن أنَّنا لسنا سوى بضائعٍ مجَّانيَّةٍ بالنِّسبة لروَّاد المراقبة الرَّأسماليَّة. كنا نعتقد بأنَّنا نبحث في جوجل لكن في الحقيقة جوجل هي التي تبحث فينا! ونفترض بأنَّنا نستخدم وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ للتَّواصل ولكنَّ وسائل التَّواصل هي التي تستخدمنا! ولم نتساءل يومًا لماذا للتِّلفاز الجديد أو لمرتبة السرير سياسة خصوصيَّة، اتضح الآن بأنَّ سياسات الخصوصيَّة هي في الحقيقة سياسات المراقبة.
وكما فعل أسلافنا حين أطلقوا على السيارات “عربات بلا خيول”؛ لأنَّهم لم يستوعبوا حقيقة محركاتها، سنسمِّي منصَّات الإنترنت ” لوحات الإعلانات” حيث يستطيع الجميع نشر ملاحظاته عليها، وقد رسَّخ مجلس النواب الأمريكي هذا الوهم بقانون وفق المادة 230 عام 1996، حيث يُعفي قانون آداب الاتِّصالات هذه الشَّركات من التَّقيُّد بالالتزامات تجاه “النَّاشرين” أو حتَّى “المتحدِّثين”.
وحدها الأزمات المتكرِّرة هي من علَّمتنا أنَّ هذه المنصَّات ليست لوحات إعلانات، ولكنَّها كالشَّرايين التي تتدفَّق فيها دماء العالم بسرعةٍ هائلةٍ، وقد يستحدث فيها أحدهم فيروسًا خطيرًا لا علاج له، هكذا تمكَّن الرَّئيس التَّنفيذيُّ لفيس بوك “مارك زوكربيرغ” من رفض إزالة فيديو مزيَّف لنانسي بيلوسي المتحدِّثة باسم مجلس النُّواب الأمريكيِّ، ثم سارع بالتَّصريح وأنَّ الإعلانات السِّياسيَّة لن تدقَّقَ.
تستند كلُّ هذه الأوهام على أعْتَاها وهو الاعتقاد بأنَّ خصوصيَّتنا حقيقيَّة. كنَّا نتصوَّر بأنَّه بمقدورنا اختيار درجة الخصوصيَّة فنقدِّم بعض المعلومات الشَّخصيَّة كمقابل للخدمات، وهذه مقايضة معقولة، فمثلاً عندما بدأت خطوط دلتا الجوِّيَّة بالاستخدام التَّجريبيِّ لنظام البيانات الحيويَّة في مطار أتلانتا سجَّلت الشَّركة 98% من ما يقارب 25000 من العملاء الذين يسافرون إلى هناك كلَّ أسبوع أقدموا على تجريب هذا المقياس،” مدركين بأنَّ التَّعرُّف على ملامح وجه العميل الواحد من خلال هذه التَّقنية يستغرق ثانيتين أثناء الصُّعود إلى الطَّائرة، أو 9 دقائق في حال الصُّعود إلى طائرة ضخمة”.
يكشف التَّطوُّر السَّريع في أنظمة التَّعرُّف على ملامح الوجه العواقب العامَّة للاختيارات الشَّخصيَّة المزعومة، حيث يطالب روَّاد رأسماليَّة المراقبة باستخدام وجوهنا كلما ظهرت سواءً على قارعة الطَّريق أو في صفحة من صفحات الفيس بوك، وأشارت تقارير صحيفة فاينانشل تايمز إلى احتواء قاعدة بيانات؛ للتَّدريب على التَّعرُّف على الوجوه تابعة لمايكروسوفت على أكثر من 10 ملايين صورة مأخوذة من الانترنت من غير علم أحد زعمًا بأنَّها تستخدم محصورة لأغراض أكاديميَّة بحثيَّة، تستخدمها شركات مثل إي بي إم، وأجهزة الدَّولة بما في ذلك الولايات المتَّحدة والجيش الصِّينيِّ ومن ضمنها جهتيّ توريد معدَّات صينيَّة لجهات رسميَّة في شينجيانغ حيث يقطن فيها أفراد من جماعات أويغور في سجون مفتوحة تحت نظام رقابة يستخدم تقنيات التَّعرُّف على الوجوه.
الخصوصيَّة ليست خاصة إذن؛ لأنَّ كفاءتها وكفاءة أنظمة التَّحكُّم والمراقبة الخاصَّة والعامَّة تعتمد على المعلومات التي نبوح بها عن أنفسنا، أو بالأصح التي سُرِقت منا بسريَّة.
يُفترَض أن يكون عصرنا الرَّقميُّ العصرَ الذهبي للدِّيموقراطيَّة، إلا أنَّنا دخلنا عقده الثالث بوصمة عار جديدة من عدم المساواة الاجتماعيَّة تُعرف “بعدم المساواة المعرفيَّة”، مما يعيدنا إلى حقبة ما قبل غوتنبرغ بما فيها من اختلال حادٍّ في التَّوازن المعرفيِّ والقوَّة المترتِّبة على هذه المعرفة، بحيث تحتكر الشَّركات التَّقنية العملاقة المعلومات والتَّعليم بأكمله، فقد حِيك وهم “الخصوصيَّة الشَّخصيَّة” لترويض الفجوة الاجتماعيَّة غير المتوقعة، ويستغل رأسماليُّو المراقبة اتساع نطاق عدم المساواة من أجل أرباحهم؛ فيتلاعبون باقتصادنا ومجتمعنا وحياتنا معرضين الأفراد والدِّيموقراطيَّة ذاتها للخطر ثم يفلتون من العقاب، ونحن لا نزال غارقين في غفلتنا نتلقى ضربات ناعمة من القوى العليا.
يدفعنا الاعتقاد بأنَّ الخصوصيَّة فعلًا خاصة نحو مستقبل لم نختره، لم يحسب هذا المستقبل حسابًا للتَّفريق العميق بين مجتمع يُصِّر على إثبات الحقوق الفردية المستقلَّة وآخر يعيش في غياب تلك المرآة أحاديَّة الاتجاه، الدَّرس المستخلص هنا هو أنَّ الخصوصية عامة: هي منفعة عامة لا يمكن فصلها منطقيًّا وأخلاقيًّا عن قيم استقلال الانسان الذَّاتيَّة وحقِّه في تقرير مصيره التي تستند إليها الخصوصيَّة، وفي غيابها يستحيل تصوُّر مجتمعٍ ديموقراطيٍّ.
ولكن الرِّياح غيرت مجاريها نحو الاتِّجاه المعاكس! فكلما تعمَّق في نفق الأرنب الذي ولجناه لنعود حيث جئنا يظهر وعي جديد هش. إنَّ روَّاد رأسماليَّة المراقبة سريعو التَّحرك؛ لأنَّهم لا يسعون نحو موافقة حقيقيَّة ولا اتِّفاقٍ في الرَّأيِ، بل يعتمدون على التَّخدير النَّفسيِّ والرَّسائل الحتميَّة لإصابة ضحاياهم بالعجز والاستسلام والارتباك الذي يشل تفكيرهم، بينما تسير الدِّيموقراطية ببطءٍ، إلا أنَّ بطئها أمرٌ جيدٌ، إذ تشير نسبة تقدُّمها إلى الملايين من المحادثات التي تجرى بين العائلات، وبين الجيران وبين زملاء العمل في المجتمعات والمدن والولايات، حيث تثير تدريجيًّا عمالقة الدِّيموقراطيَّة النَّائمين.
تحدث هذه المحادثات الآن، وتشير العديد من المؤشرات إلى أنَّ المشرِّعين جاهزون للانضمام والمبادرة بالإمساك بزمام الأمور، فهذا العقد الثالث على الأرجح هو الذي سيقرر مصيرنا، هل سنجعل من المستقبل الرَّقميِّ مستقبلًا أفضل؟ أم سيجعلنا أسوأ؟ هل سنصنع منه وطنًا لنا؟
لا يُبنَى “انعدام المساواة المعرفيَّة” على ما نستطيع كسبه ولكن على ما نستطيع معرفته، وعُرِّف: بأنَّه غياب المساواة في حرِّيَّة الوصول إلى المعلومات تفرضه آليَّات تجاريَّة خاصة لجمع المعلومات وانتاجها وتحليلها وبيعها. وتمثِّله بوضوح الهوة التي تزداد اتِّساعًا بين ما نعرف وما يُعرف عنا.
نُظِّم المجتمع الصِّناعيُّ في القرن العشرين من خلال ” تقسيم العمل” وتبعه تشكل السِّياسة في ذلك الوقت من خلال الكفاح من أجل المساواة الاقتصاديَّة، أمَّا قرننا الرَّقميُّ فقد حوَّل احداثيات المجتمع من تقسيم العمل إلى ” تقسيم المعرفة”، ويتبع ذلك تشكُّل سياسة عصرنا من خلال الكفاح من أجل الوصول إلى المعلومة وما تحمله من سطوة.
تشير مركزية انعدام المساواة المعرفيَّة إلى تحوُّل في مصادر القوَّة من امتلاك وسائل الإنتاج المهيمنة على القرن العشرين إلى امتلاك إنتاج المفاهيم، لُخِّصت التَّحدِّيات التي تواجه العدالة المعرفيَّة وحقوق المعرفة في ثلاث أسئلة رئيسة حول المعرفة والسُّلطة والقانون وهي: من يعرف؟ ومن يحدِّد من يعرف؟ ومن يحدِّد من يحدد من يعرف؟
ساعد روَّاد رأسماليَّة المراقبة جوجل وتبعتها الفيس بوك ومايكروسوفت في التَّحوُّل الاجتماعيِّ محافظين في الوقت ذاته على بقائهم في أعلى الهرم المعرفيِّ، من خلال أخذهم للمعلومات من غير استئذان واحتكارها بحيل حتَّى الأطفال يسمونها سرقة، بدأت رأسماليَّة المراقبة من خلال الاستحواذ على التَّجارب الإنسانيَّة الخاصَّة كمواد مجَّانيَّة وتحويلها إلى بيانات سلوكيَّة، فقد أصبحت حياتنا أنابيب تتدفق منها البيانات.
وما لا يعلمه المستخدمون، أنَّه قد اكتُشف مبكرًا بأنَّ البيانات المتوفِّرة مجَّانًا تضيف إشارات تنبُّؤيَّة أكثر ممَّا يتطلبه تطوير الخدمات، ليس فقط ما تنشره على الإنترنت، بل حتَّى استخدامك لعلامة تعجُّب مثلًا، ودرجة تشبُّع الألوان في صورك الشَّخصيَّة، وليس الممشى الذي تمشي فيه فقط ولكن انحناءة كتفيك أيضًا، وليس فقط هويتك من ملامحك ولكن المشاعر التي تحملها تعابير وجهك الدَّقيقة، وليست أشياؤك المفضَّلة فقط ولكن نمط هذه التَّفضيلات في جميع الأمور، هذا الكمُّ من السُّلوكيَّات جُمِع في الخفاء زعمًا بأنَّه بيانات ملكيَّة خاصَّة للشركات.
تُنقل البيانات من خلال سلسلة معقَّدة من الأجهزة، تبدأ من تعقُّب ومراقبة التَّطبيقات والنُّظم الإيكولوجيَّة للتَّطبيقات والشَّركات المتخصِّصة في منافذ تُدفِّق البيانات المستحوذ عليها سرًّا، فقد أظهرت دراسة أجرتها مجلَّة وول ستريت بأنَّ الفيس بوك مثلًا تحصل على بيانات حول معدَّل ضربات القلب من خلال تطبيق Instant Heart Rate: HR Monitor لقياس ضربات القلب، وبيانات حول الدَّورة الشَّهريَّة من تطبيق Flo Period & Ovulation Tracker، وبيانات حول المهتمين بالممتلكات العقاريَّة من خلال Realtor.com، بغير علم المستخدمين.
تتدفَّق هذه البيانات مباشرة نحو مصانع رأسماليَّة المراقبة الحاسوبيَّة المسمَّاة “بالذَّكاء الاصطناعيِّ” المصمَّمة للتَّنبُّؤات السُّلوكيَّة حولنا وليس لنا! ومن ثمَّ تباع لعملاء تجاريِّين في أسواق تُتاجر في مستقبل البشر، والتأكُّد من شؤون النَّاس هو قلب هذه التِّجارة، حيث يتنافس الرَّأسماليُّون حول دقَّة توقعاتهم حول البشر؛ نتجَ عن هذه التِّجارة الحديثة أغنى الشَّركات وأكثرها سطوةً في التَّاريخ.
يسعى روَّاد رأسماليَّة المراقبة إلى أهدافهم من خلال تحقيق هيمنة لا منافس لها على 99.9% من المعلومات المفرَّغة في أوعية رقميَّة ساعدت في إنشائها، فقد أنشؤوا أكبر شبكات الحاسب في العالم ومراكز البيانات، وقاموا بتعداد الخوادم الحاسوبيَّة، وإنشاء كابلات النَّقل تحت البحر، ورقائق ميكروبيَّة متقدِّمة، وأقصى ما توصَّل إليه ذكاء الآلة من مستخدمين بلغ 10.000 في المتخصِّصين حول العالم ممن يعرفون طريقهم حول هذه القارات الضَّخمة من البيانات.
يسعى روَّاد رأسماليَّة المراقبة -على رأسهم جوجل- إلى السَّيطرة على سوق العمل من خلال خبراتها الضَّروريَّة بما في ذلك البيانات العلميَّة والبحوث المتعلِّقة بالحيوان، في محاولة لإقصاء المنافسين من شركات ناشئة، وجامعات، ومدارس، وجهات حكوميَّة، وهيئات اعتباريَّة في الدُّول الصِّناعيَّة الفقيرة، عام 2016 شغل 57% من الحاصلين على الدُّكتوراه في علوم الحاسب في أمريكا وظائفًا صناعيَّةً، بينما 11% منهم فقط عملوا كأعضاء هيئة تدريس بعقود ثابتة، وهي ليست مشكلة أمريكيَّة فحسب بل حتَّى في بريطانيا يشتكي المسؤولون من “اختفاء جيل” كامل من علماء البيانات، وتندب كندا أيضًا تركُّز القوَّة والخبرة والبيانات في أيدي عدَّة شركات.
تُعدُّ جوجل أوَّل من بدأت بالمتاجرة المربحة بمستقبل البشر، فالإعلانات الموجهة التي نراها الآن مبنيَّة على توقعاتهم أي الإعلانات سيضغط عليها المستخدم، ازدادت أرباحها من عام 2000 في بداية ظهور المنطق الاقتصاديِّ الجديد وحتَّى عام 2004 عندما طرحت الشَّركة علنًا زادت الإيرادات بما يقارب 3,590 في المائة. يوضِّح هذا الرَّقم المهول “ربحيَّة المراقبة”، مما يعيد توجيه بوصلة أعمال المستثمرين والشَّركات النَّاشئة ومطوِّري التَّطبيقات والشَّركات القويَّة نحو رأسماليَّة المراقبة، هذا التَّغيُّر السَّريع في المسار إلى ما يجلبه بيع مستقبل البشر من الأرباح المضاعفة إلى الفيس بوك ومن ثمّ إلى القطاع التِّقنيِّ بأكمله، أمَّا الآن فقد استحوذ على جميع القطاعات مثل قطاع التَّأمينات وقطاعات التَّجزئة والماليَّة والتَّعليم، والرِّعاية الصِّحِّيَّة والعقارات، والتَّرفيه، وكلٌّ منتجٍ “ذكيٍّ” أو خدمة توصف بأنَّها “شخصيَّة”.
وتسير الآن شركة فورد المعروفة بأنَّها مهد الإنتاج الضَّخم على خطى بقيَّة الشَّركات متَّجهةً نحو المراقبة المربحة، حيث تحاول مواجهة انهيار مبيعاتها من خلال إعادة تصوُّر سيارات فورد كنظام للنَّقل والتَّشغيل، وقد وضَّح أحد المحلِّلين الفكرة بقوله: ” تستطيع فورد أنَّ تحقِّق أرباحًا مذهلة بتحويل بياناتها إلى نقود، ولن تحتاج إلى مهندسين ولا مصانع ولا باعة، ستحصل على ربحٍ صافٍ”.
نُقِّحت الضَّروريَّات الاقتصاديَّة للرَّقابة الرَّأسماليَّة في المنافسة لبيع الحقائق، وقد كان واضحًا من البداية أنَّ الذَّكاء الصِّناعيَّ يتغذَّى على كميَّات من البيانات ممَّا يجعل اقتصادَّات السِّعة خاضعةً لاستخراج البيانات، واتَّضح بعد ذلك ضرورة الكميَّة لكنَّها لم تكن كافيةً، ويتطلب أفضل الحلول الحسابيَّة بيانات متنوعة من بيانات اقتصاديَّات السِّعة، وقد ساعد الوعي بذلك على دفع “ثورة الهواتف النَّقالة” التي أرسلت المستخدمين إلى العالم الحقيقيِّ مسلحين بكاميرات وأجهزة حاسب وجيروسكوبات ولاقطات صوت كل ذلك في هواتفهم الذَّكيَّة، وفي المنافسة على اتِّساع النِّطاق، يريد الرَّأسماليُّون معرفة ما الذي تفعله وتقوله خلف جدران منزلك، يريدون معرفة سيارتك، وحالتك الصِّحِّيَّة، والبرامج التي تتابعها، وموقعك، والشَّوارع والمباني التي تمر بها في ذهابك وإيابك، وجميع سلوكيَّات النَّاس في مدينتك، يريدون سماع صوتك، ومعرفة ماذا تأكل وماذا تشتري، ووقت لعب أطفالك و وقت مدارسهم، ومعرفة ما يدور في عقلك، يريدون معرفة كلِّ شيء بلا استثناء، يريدون الجري منك مجرى الدم!
منحهم نصف المعلومات عنَّا يعني منحهم نصف سيطرتهم علينا، وبذلك يتَّسع انعدام المساواة المعرفيَّة ليشمل المسافة بين ما نستطيع فعله وما يمكن أن يُفعل بنا، ما يُسميه علماء البيانات الانتقال من المراقبة إلى التَّشغيل، حيث تُمكِّن كميَّة هائلة من المعرفة النِّظام الآليَّ من التَّحكم بذلك النِّظام عن بعد، وقد أصبح البشر أهدافًا للتَّحكُّم عن بعد، وبعد اكتشاف الرَّأسماليِّين بأن أفضل طريقة للحصول على البيانات التَّنبُّؤيَّة هي من خلال التَّدخُّل في ضبط السُّلوك وترويض الأفعال وتغييرها لتحقيق أهدافٍ تجاريَّة. وأصبحت الضرورة الثَّالثة “اقتصاديات الإجراء” معملًا للتجارب المكثفة، وقال أحد العلماء:” نحن نتعلم كيف نكتب الموسيقى، ثم نترك الموسيقا تُرقّصهم.”
لا تمتلك هذه السَّطوة الجديدة “الرَّقصة” جنودًا؛ لتثير الرُّعب والجريمة، فحين تأتي تحمل معها كوبًا من الكابتشينو وليس مسدَّسًا! تلك القوَّة ” الأداتيَّة” التي تعمل من خلال الأجهزة والوسائط الموجودة في كلِّ مكان لتتلاعب بالإشارات اللَّاواعية، وتستهدف التأثير النَّفسيَّ على التَّواصل، وتفرض بُنى قاصرة للاختيار، وإثارة المقارنة الدِّيناميكيَّة في المجتمع، ووضع مكافآت ضريبيَّة وعقوبات، يهدف هذا كلُّه إلى ضبط وترويض وتغيير السُّلوك الإنسانيِّ من بعيد؛ لاستنزاف الأرباح من المستخدمين وإبقائهم في ظلمات من الجهل.
وقد رأينا المعرفة التَّنبُّئيَّة تتحوَّل إلى سيطرة نافذة في تجربة أجريت على الفيس بوك ونشرت عام 2012 و2014، فقد قام فيس بوك ببث إشارات إلى اللَّاواعي من عقل الإنسان، وشجَّع المقارنات الاجتماعيَّة في صفحاته، في البداية كان الهدف هو التَّأثير على تصويت المستخدمين في تجديد الانتخابات النِّصفيَّة، وبعدها للتَّأثير على مشاعرهم حزنًا أو سعادة، احتفى الباحثون بنجاح تجاربهم وأشاروا إلى نتيجتين رئيستين: إمكانيَّة استخدام الإشارات والتَّلميحات عبر الإنترنت للتَّأثير على السُّلوك والمشاعر في العالم الحقيقيِّ، وإمكانيَّة تحقيق ذلك بلا وعي من المستخدمين.
أطلقت جوجل لعبة الواقع المعزِّز (Pokémon Go) عام 2016؛ لتختبر الاقتصاديَّات الإجرائيَّة في الشَّارع، لم يعرف اللَّاعبون بأنَّهم بيادق شطرنج في لعبة التَّغيير السُّلوكيِّ الحقيقيَّة، حيث كانت المكافآت والعقوبات في اللُّعبة لاصطياد كائنات خياليَّة هي أرصدة للتَّسوُّق من ماكدونالدز وستاربكس ومحلَّات البيتزا المحليَّة التي تدفع للشَّركة، بنفس طريقة الإعلانات التِّجاريَّة التي يُحسب نجاحها حسب عدد نقرات المستخدمين عليها.
عام 2017 سُرِبت وثيقة حاز عليها الأستراليُّون تكشف مصلحة الشَّركات من عرض تصوُّرات مؤثِّرة نفسيًّا من خلال بيانات الفيس بوك الدَّاخليَّة لتغيير السُّلوك الإنسانيِّ، كانت الفئة المستهدفة 6.4 مليون مراهق من أستراليا ونيوزلندا، وصرحت السُّلطة: ” من خلال المراقبة المباشرة للمنشورات والتَّفاعلات والأنشطة الشَّبكيَّة، تعمل فيس بوك حين تلمس شعور المراهق بالضُّغوط والهزيمة والقهر والقلق والتَّوتُّر والغباء والسُّخف وانعدام الفائدة”، هذا العمق من المعلومات يُمكِّن الفيس بوك من تحديد وقت حاجة المراهق الماسَّة لتعزيز الثِّقة بالنَّفس، وأكثر أوقاته هشاشةً واستجابةً للتَّلميحات النَّفسيَّة، ومن ثمَّ يتم ربط كل حالة من حالاته مع إعلان تجاري مناسب لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح.
أنكرت فيس بوك هذه الممارسات، ولكن أحد مديري الإنتاج السَّابقين اتَّهم الشَّركة بأنَّها تكذب ببجاحة، في الحقيقة في غياب شفافيَّة الشَّركات والمراقبة الدِّيموقراطيَّة يسود انعدام المساواة المعرفيَّة، هم يعرفون، وهم يقرِّرون من يعرف، وهم يقرِّرون من يقرِّر.
تأثير معرفة العامة على الشَّركات الذي لا يحتمل يزيد الأمور تعقيدًا؛ لاعتماد رأسماليَّة المراقبة على استخدام وسائل التَّواصل للتَّلاعب بالعقول، لدينا مثالان يوضحان الأمر، في الثَّلاثين من إبريل عام 2019 صرَّح مارك زوكربيرغ تصريحًا دراميًّا في اجتماع الشَّركة السَّنويِّ التَّطويريِّ قال فيه:” إنَّ المستقبل يتمتَّع بالخصوصيَّة!”، وبعد ذلك حوكِمَت الشَّركة في محكمة فيدرالية في كاليفورنيا بتهمة اختراق خصوصيَّة المستخدمين، زعمًا بأنَّ استخدام الفيس بوك بأكمله ينفي أيَّ وجود للخصوصيَّة قانونًا، وفي مايو 2019 كتب ساندر بيتشاي المدير التَّنفيذيِّ لشركة جوجل مقالًا في مجلة التَّايمز موضحًا فيه التزام شركته بمبدأ ” الخصوصيَّة لا تباع”، ولكن بعد خمسة أشهر عُثِر على موظفين من الشركة يوزِّعون قسائم تجاريَّة على المشرَّدين من أعراق مختلفة مقابل إجراء مسح لملامح وجوههم.
لكن إنكار الفيس بوك ألقى الضَّوء على مستند مُسرَّب آخر ظهر عام 2018، يكشف هذا التَّقرير الغطاء عن تصوُّر نادر لقلب مصنع الفيس بوك الحاسوبيِّ، تعمل “أداة التَّنبُّؤ” على منصَّة آليَّة ذكيَّة تنتج تيرليونات من البيانات يوميًّا وتجربها على آلاف النَّماذج ثمَّ ترسلها للخادم بسرعة فائقة للتَّنبُّؤ المباشر مع المستخدم”، تعرف الفيس بوك بأنَّ خدمة التَّنبُّؤ لديها تنتج أكثر من 6 ملايين توقع في الثَّانية، ولكن ما الهدف؟
توضِّح الشَّركة في تقريرها أنَّ إمكانيَّاتها الهائلة من تنبُّؤ واستهداف وتأثير على السُّلوك جميعها مسخَّرة للتَّغلُّب على منافسيها، ونيل رضا زبائنها من الشَّركات، على سبيل المثال لديها ما يسمى “بتنبُّؤ الولاء” حيث يتنبَّأ الجهاز باحتمالية تغيير المستخدم لعلامة تجارِّية معينة ومن ثمَّ يحذِّر الشَّركة التِّجاريَّة لتتدارك الأمر بإرسال رسائل لمنعه من التَّغيير مستقبلًا.
وفي تلك السَّنة أفشى كريستوفر ويلي أحد أسرار شركة كامبريدج أناليتيكا التي تقدِّم خدمات استشاريَّة سياسيَّة والتي عمل فيها سابقًا، ومما قال: ” نحن نستغل الفيس بوك للاطِّلاع على الملايين من صفحات النَّاس الشَّخصيَّة، ونصنع صيغ لنستخدم ما نعرفه عنهم ونستهدف شياطينهم الخفيَّة”، وأطلق على هذه التَّقنية: ” حرب المعلومات”، وقد صدق، فهذه الحرب الخفيَّة مبنيَّة على نُسقٍ متفاوتةٍ من المعرفة والقوَّة التي تمتلكها، وقد يخفى على العامَّة والمشرِّعين إستراتيجيَّات الجهات السِّياسيَّة في الاجتياح والإخضاع السِّرِّيِّ من خلال استخدام إجراءات رأسماليَّة المراقبة الموحَّدة والتي يخضع لها الملايين من المستخدمين البريئين يوميًّا، وقد وصف ويلي هذه العمليات المتماثلة خلال فترة محاكمته التي أُنهِيَت سريعًا، أما هدف كامبريدج أناليتيكا الأساسيِّ هو تحويل المشروع بأكمله من مشروع تجاريٍّ إلى سياسيٍّ.
وبمعنى آخر كانت كامبريدج أناليتيكا الجرثومة ورأسماليَّة المراقبة هي الجسد الذي يحتويها، وبفضل الهيمنة المعرفيَّة وفَّرت رأسماليَّة المراقبة البيانات السُّلوكيَّة للضَّحايا المستهدفة، وطرقها في الاستهداف الدَّقيق والتَّأثير على السُّلوك هي الأسلحة، وقد أتاح غياب مسؤوليَّتها على المحتوى المنشور في منصَّاتها حسب ما تقتضيه المادة 230 الفرصة لمهاجمة المواطنين السُّذَّج خلسةً وإطلاق شياطينهم الدَّاخليَّة.
ولا يعدُّ انعدام المساواة المعرفيَّة وحده المسؤول عن ضعفنا أمام الممثِّلين البارعين مثل شركة كامبريدج أناليتيكا، إنَّ النُّقطة المهمَّة المقلقة هي أنَّ رأسماليَّة المراقبة جعلت من انعدام المساواة المعرفيَّة حالة تُعرِّف مجتمعاتنا، ومن حرب المعلومات سمة عادية ومزمنة لحياتنا اليوميَّة، تستخدمها جميع الجهات التي نعتمد عليها في مشاركتنا الاجتماعيَّة. لديهم المعرفة والآلات والعلم والعلماء والأسرار والأكاذيب، تاركين لنا القليل من وسائل الدفاع ضد لصوص البيانات، وبلا قانون، نحن نجاهد لإخفاء حياتنا بينما يناقش أبناؤنا إستراتيجيَّات التَّشفير على مائدة العشاء، ويرتدي الطلاب أقنعة عند المظاهرات العامَّة لحماية ملامحهم من أنظمة التَّعرُّف على الوجوه التي تستخدم صورنا العائليَّة.
مع عدم صدور أيِّ تصريحات جديدة بشأن الحقوق والقوانين المعرفيَّة؛ يداهمنا خطر تغيير رأسماليَّة المراقبة للمجتمع بأكمله كما تغيَّرت الدِّيموقراطيَّة حاليًّا، فهي تُضعِف الإدارة الإنسانية، وتنتهك الخصوصيَّة، وتنقص الحكم الذَّاتيَّ وتحرم الأفراد من حقِّهم في المقاومة، نتيجةً لذلك فإنَّ انعدام المساواة المعرفيَّة لا يتوافق مع تطلُّعات شعبٍ ديموقراطيٍّ.
نعرف بأنَّ رأسماليِّ المراقبة يعملون في الظِّل، لكنْ لا نعلم ما الذي يفعلونه بالضَّبط، وماهي المعرفة التي يحصلون عليها، يستطيعون معرفة كلِّ شيء حولنا، لكنَّنا لا نعرف إلَّا القليل عنهم، معلوماتهم عنَّا ليست لنا، بل بيعت مع مستقبلنا لمصلحة آخرين، لم يُرسَمْ الحدُّ الفاصل منذ اجتماع لجنة التِّجارة الفيدراليَّة عام 1997 وأصبح البشر سلع تجاريَّة، وظهر ذلك الوهم المدمِّر بأنَّ هذه نتيجة لا مفرَّ منها للرَّفاهيَّة التي وفَّرتها التَّقنية الرَّقميَّة، ولكنَّ الحقيقة هي أنَّ رأسماليَّة المراقبة استحوذت على الوسائط الرَّقمية ولا يوجد ما هو حتميٌّ في ذلك.
إنَّ المشرِّعين الأمريكيِّين معارضون لهذه التَّغيُّرات لأسباب عديدة، منها سياسة “المراقبة الانتقائيَّة” غير المدوَّنه التي استُحدثت أعقاب الهجوم الإرهابي في الحادي عشر من سبتمبر، حين تحوَّل اهتمام الحكومة من حماية الخصوصيَّة إلى اهتمام متعصِّب جديد وهو ” الوعي المعلوماتيُّ الكامل”، وتبدو إمكانيَّات المراقبة حديثة المنشأ القادمة من منطقة سيليكون فالي في البيئة السِّياسيَّة الواعدة.
يحاول روَّاد رأسماليَّة المراقبة الدِّفاع عن أنفسهم من خلال ممارسة الضَّغط السِّياسيِّ والإشاعات والحملات الدِّعائيَّة لإضعاف وتخويف المشرِّعين، ولبس الحقِّ بالباطل وإيقاف الإجراءات ضدّهم، وقد تلقَّت القليل من التَّحري مقارنة بالضَّرر الذي تسبِّبه، ضع في الاعتبار المثالين التَّاليين:
الأوَّل هو الزَّعم بأنَّ الدِّيموقراطيَّة تهدِّد الرَّفاهيَّة والتَّجديد، فقد قال الرَّئيس التَّنفيذيُّ لشركة جوجل إيريك شميت عام 2011: ” نحن اتَّخذنا موقفًا بقول ( لا تلمسْ الإنترنت!) اتركونا وشأننا، قد تخطئ الحكومة في قراراتها التَّشريعيَّة التي ستعطِّل الأمر بأكمله، ونحن قلقون بشأن ذلك”، هذا الادِّعاظ قد أُعيد تدويره أخذًا عن نبلاء العصر والمذهب الذين نسميهم الآن “لصوص”، يصرُّون على أنَّه لا حاجة للقانون؛ لأنَّ لديهم قانون “البقاء للأًصلح”، وقانون “الرَّأسماليَّة”، و “قانون العرض والطَّلب”.
وعلى نقيص ذلك، لا يبدو بأنَّ رأسماليَّة المراقبة تدفع نحو التَّجديد، لدينا عصرٌ جديدٌ واعدٌ من البحوث الاقتصاديَّة التي تُوضِّح دور الحكومة والحكم الدِّيموقراطيِّ بالغ الأهميَّة في التَّجديد، وتزعُم جمود شركات التَّقنية العملاقة مثل جوجل، لم تُسخِّر رأسماليَّة المراقبة المعلومات التي تُهيمِن عليها في سبيل إنتاج طاقةٍ خاليةٍ من الكربون مثلاً، أو للقضاء على الجوع، أو علاج السَّرطان، أو إنقاذ المحيطات من نفايات البلاستيك، أو تزويد العالم بكوادر من المعلمين والأطباء الأذكياء المتعاونين المدعومين ماديًّا، ما نراه هو عمليَّة متطرِّفة يقودها عباقرة مدعومة برأس مال ضخم وقوَّة حاسوبيَّة مكرَّسة بشراسة للعلوم المربحة واقتصاديَّات التَّنبُّؤ بالسُّلوك الإنسانيِّ المربح.
النَّوع الثَّاني من الادِّعاءات كان الزَّعم بأنَّ نجاح شركات رأسماليَّة المراقبة المتصدِّرة؛ يعكس الفائدة الحقيقيَّة التي توفِّرها للنَّاس، لكنَّ بيانات الطَّلب تُظهِر رأسماليَّة المراقبة بأنَّها فشلٌ تجاريٌّ، بدلاً من الموائمة بين العرض والطَّلب فإنَّ النَّاس يستخدمون هذه الخدمات لعدم وجود بدائل لها بنفس الجودة، ولجهلهم بعمليات رأسماليَّة المراقبة الخفيَّة وعواقبها، وفي تقرير أصدره مركز بيو للأبحاث بأن 81% من الأمريكيين يعتقدون بأنَّ سلبيَّة جمع الشَّركات لبياناتهم تفوق مزاياها، ممَّا قد يوحي بأنَّ الشَّركات نجحت بالإكراه والتَّعتيم وليس بنفع الناس.
يفشل المشرِّعون عبر العصور حين لا يبنون إستراتيجياتٍ خاصَّة مناسبة للقطاع الصِّناعيِّ الذي يشرِّعون قوانينه وهذا ما حذَّرنا منه المؤرِّخ توماس ماكرو ذو التَّاريخ التَّشريعيِّ الحافل بالجوائز. إنَّ وجود الخصوصيَّة وقوانين محاربة الاحتكار أمران في غاية الأهميَّة، ولكن كلاهما لا يكفي لمواجهة تحدِّيات انعدام المساواة المعرفيَّة الجديدة.
تتطلب نزاعات القرن الواحد والعشرين هيكلًا للحقوق المعرفيَّة ينصُّ عليها القانون ويخضع للحكم الدِّيموقراطيِّ، هذه الحقوق ستقطع سلسلة إمداد البيانات من خلال حمايتها لحدود التَّجربة الإنسانيَّة قبل أن تهاجمها قوى تحويل البيانات، بموجب حقوق الفرد في مجتمع ديموقراطيٍّ يعود اختيار تحويل أحد جوانب حياته إلى بيانات من عدمه إلى الفرد وحده، وهذا يعني أنَّه لا يحق للشَّركات امتلاك صورة لوجهك على سبيل المثال، أو استخدامه كمادة مجَّانيَّة جاهزة للتَّحليل، أو بيع أيِّ منتجات محوسبة باستخدامه، وقد بدأ الحديث عن الحقوق المعرفيَّة بجديَّة، وذُكِرت في تقرير لمنظَّمة العفو الدُّوليَّة.
وعلى صعيد الطَّلب فبالإمكان تجريم المتاجرة بالمستقبل البشريِّ ومن ثمَّ تقليل المحفِّزات الماليَّة التي تدعم الرِّبح من المراقبة، ولكنَّه احتمال وليس أمرًا مؤكَّدًا، فالمجتمعات تُجرِّم التِّجارة بالأعضاء والأطفال والبشر مثلًا، نحن نلاحظ انعدام أخلاقيَّة هذه الحالات وما ينتج عنها من نتائج عنيفة ونهايات قاسية، فقد ينتج عن المتاجرة بالمستقبل الإنسانيِّ نتائج مشابهة تُهدِّد حرِّيَّة الإنسان وتُقوِّض الدِّيموقراطيَّة، مثل: الرهون العقاريَّة، واستثمار الوقود الأحفوريِّ، ستصبح المراقبة هي الفساد الجديد.
على المشرِّعين إيجاد أنواعٍ جديدةٍ من الأعمال الجماعيَّة لدعم ساحة المنافسة الجديدة، كما وحَّدت الحماية القانونيَّة لحقِّ التَّنظيم والإضراب والمفاوضة في القرن الماضي من المشرِّعين والعاملين، واستطاعوا معًا كبح جماح احتكار الرَّأسماليِّين للسُّلطة، لابدَّ أن يتحالف المشرِّعين مع من يساوره القلق من المواطنين بشأن سلطة المراقبة الرَّأسماليَّة التي لا ضابط لها، ومع المطالبين بأجور منصفة من العاملين وأمان وظيفيِّ في ظروف العمل غير المستقرَّة التي تُعرِّف اقتصاد المراقبة.
أيُّ شيءٍ صنعه الإنسان؛ يستطيع بنفسه القضاء عليه، لا تزال المراقبة الرَّأسماليَّة يافعة لم يتجاوز عمرها عشرين عامًا، أمّا الدِّيموقراطيَّة فهي عريقة ومتجذِّرة في أجيال بين أملٍ وسِجالٍ!
روَّاد المراقبة الرَّأسماليَّة أقوياء وأغنياء، لكنَّهم ليسوا معصومين، لديهم نقطة ضعف وهي: الخوف، فهم يخشون المشرِّعين الذين لا يخافون منهم، ويخشون المواطنين الذين يطالبون بطرقٍ جديدةٍ ويُصرُّون للحصول على إجابات لأسئلة قديمة: من يملك المعرفة؟ ومن سيحدِّد من يملكها؟ ومن سيحدِّد من يحدِّد من يملكها؟… من سيكتب الموسيقا؟ ومن سيرقص عليها؟
اقرأ ايضاً: لماذا تجعلنا الرأسمالية نشعر بالخواء؟
- شوشانا زوبوف، أستاذة فخريَّة في كلِّيَّة هارفرد للأعمال، ومؤلفة كتاب “عصر رأسماليَّة المراقبة”
مقالة دسمة من أكاديمية متخصصة ومهتمة، لكن من جانب آخر فيه نوع من المبالغة أو ربما عدم الإنصاف، لكن قد نفهم هذا كونه موجه من طرف واحد ضد الطرف الآخر (شركات التقنية العملاقة)، وعلى الطرف الآخر أن يدافع عن نفسه بالحجج المنطقية والأدلة والبيانات.
بشكل عام يمكن أن نختصر المقال إلى أنه دعوة لأن يواكب قطار التشريع (الذي يسير ببطئ) قطار التقدم التقني، لأن القطار الأخير يسير بسرعة لم يسيق لها مثيل، وهذه السرعة تدفعنا إلى تقبل الأمر الواقع دون التفكير بالعواقب المستقلبية وما ستؤول إليه الأمور.
قد يكون أصحاب تلك الشركات الكبرى (قوقل وفيسبوك وغيرهم) أناس صالحون لديهم نيات طيبة، لكن هل سنضمن ذلك فيمن سيأتي بعدهم، هو سؤال يشبه التساؤل الذي نطرحه حول الدول الكبرى التي تمتلك القوة المدمرة لكنها لا تستخدمها ظلماً وعدواناً لأن السلطة التي تدير البلاد هي سلطة ديمقراطية وخاضعة لمراقبة الشعب، لكن ماذا لو تغير نظام الحكم في ذلك البلد الذي يمتلك من الأسلحة ما يمكن أن يدمر الكرة الأرضية بمن فيها.
إذاً لا جديد، سواءٌ تحدثنا عن امتلاك القوة أو امتلاك المعرفة (أو من يحدد من يملكها)، هي سنة المدافعة بأشكال مختلفة، ولذلك ستظل الجدالات تدور وسيستمر كل طرف في المضي في طريقه، وعلى الشعوب الأخرى التي تكتفي بالمراقبة أن تبدار ليكون لها حضور في المشهد.
ورغم ذلك يبقى المشهد ضبابياً والمستقبل صعب التنبؤ، الأمر الواضح أن المستقبل يخبئ لنا الكثير، لكن ما هو أو كيف هو؟ الله أعلم