- جيفري سيمونز*
- ترجمة: فاطمة البراك
- تحرير: سهام سايح
في هذه الدراسة التي نُشرت الأسبوع الماضي في مجلة العلوم، اتضح أنّ العلماء كانوا على خطأ لما يزيد عن 350 عامًا بشأن الكيفية التي تتحرك بها الحيوانات المنويّة.
جاء في مجلة Science Advances:
انظر إلى نطفة بشرية تحت المجهر، ستلاحظ كما لو أنّها تسبح مثل ثعبان بحر يهز ذيله في الماء؛ لكن كشفت دراسة جديدة أنّ الحيوانات المنويّة تسبح في الواقع بطريقة فوضوية أكثر، وذلك باستعمال أداة تمكنها من الوصول إلى سرعتها القصوى.
قام الباحثون بمسح عينات من الحيوانات المنويّة البشرية باستخدام مجهر ثلاثي الأبعاد وكاميرا عالية السرعة، مزودة بوحدة بإمكانها تصوير الحيوانات المنويّة السريعة، والتي يمكنها التقاط 20 إلى 30 ضربة سباحة في الثانية.
على الرغم من أنّ الحيوانات المنويّة ذات البعدين تبدو وكأنّها تضرب ذيلها من جانب إلى آخر في ضربات متناسقة، لكن في الواقع الحيوانات المنويّة تتحرك بطريقة غير منتظمة، وتضرب ذيلها باتجاه واحد، كما في الفيديو:
هذا شيء مدهش، وأيضًا كشف العديد من الأسرار المخفية.
الكلُّ يعرف أحجية من جاء أولاً: البيضة أم الدجاجة، وقد نوقشت معضلة السببيّة الدائرية هذه من قبل الفلاسفة على مرِّ العصور وبقيت دون حل؛ وإذا ما طُبِّق هذا المبدأ على نظريّة التطور البشري= فإننا نكون أمام العديد من التحدِّيات المثيرة للاهتمام والمدمرة؛ فقط استبدل “البيضة” بالأنثى البشرية والبويضة المخصبة أو الذكر البشري وحيواناته المنوية “السريعة”
الرجل أم المرأة؟
أو يمكنك السؤال من أتى أولاً المرأة أم الرجل؟ تقول النصوص الدينية أنّ الرجل سبق المرأة بفترة وجيزة للغاية؛ إلا أن مؤيدي نظرية التطور لا يذكرون شيئا عن هذا الزمن. لكي يكون المرء قادرًا على القول بأنّ البشر تطوروا من القردة، فعليه تفسير عدد لا يحصى من التغيرات الجينية القابلة للحياة والمتوازية للجنسين في كل غصن وفرع من فروع شجرة الحياة.
لابد أن هنالك زوجان (ذكر وأنثى) سبقوا البشر، وقبلهما زوجان آخران سبقوا من سبقوا البشر، وقبل أولئك زوجان آخران سبقوا من سبقوا من سبقوا للبشر… وهكذا دواليك حتى يصل الأمر إلى البحور البدائية.
يفترض التطوريون أنّ ذكرًا وأنثى متوافقا الجينات جاءا في الوقت نفسه، تمامًا كما في خدعة الأرنب الذي يخرج من القبعة، إلا أنهما هنا اثنان. بعد تحوّرات جينية بسيطة، ظهرت على الأرض أسماك تتنفس كانت تذهب إلى اليابسة للبحث عن طعامها وتعرف أين تجده، وبعد ذلك بقليل -القليل على مقياس الزمن الجيولوجي- كانت طيور أورفيل وويلبور رايت تقلع وتهبط بسلام، وفي النهاية ظهرت الرئيسيات التي تستطيع استخراج الحشرات من الخشب و تمشي منتصبةً وتُدرب على ركوب الدراجة. إن السردية الداروينية تجعل الأمر يبدو بسيطًا كتبديل الملابس، لكن العلماء يعرفون أنّ الأمر ليس كذلك: تقريبًا جميع الأزواج الوسيطة -من الذكور والإناث، والذين من المرجح أنهم بالملايين- مفقودة بشكل غريب من السجل الأحفوري.
مركز التجارة العالمي
هذه ليست مناقشة عن الانتخاب الطبيعي أو الطفرات المعزولة، فلا يمكنهما إيجاد نوع جديد على الصورة التي عليها نحن الآن؛ وليست مناقشة عن تربية حصان سباق مع حصان حرث لإنتاج نوع جديد. يتطلب تغيير لاقحة القرد (الخلايا الأولى) إلى لاقحة بشرية خطوات أكثر بكثير من تلك الموجودة في برج مركز التجارة العالمي؛ ومع ذلك، فإنّ المركز يصلح مضرباً للمثل. لاحظ أنّه يجب ترتيب جميع السلالم الموجودة في موقع البناء في الوقت المناسب وبالطريقة الصحيحة، بحيث إنه لا يمكن إضافة الدرجة رقم 1011 حتى تكون الدرجة 1010 في مكانها بالفعل؛ وهكذا الأمر مع درجات التطور. تذكر أنّ ناطحة السحاب البيولوجية -مثل الإنسان- ربما تحتاج إلى المليارات من الدرجات.
يجب أن يكون بين الشركاء الجنسيين تقاربًا بين الإمكانات الميكروية (الجينية) والماكروسكوبية (الظاهرة) اللازمة، وأيضًا يجب أن يكون الاثنان قد وجدا في بعضهما شيئاً لا يقاوم، لكن ثمة بعض العقبات الجينية: وهو أن زواج الأقارب يضعف هذه التغييرات؛ ففي غضون بضعة أجيال، يرجع الجيل الأحدث إلى نمطه الظاهري والجيني المعتاد، والسبب هو أن التزاوج بين الأم أو الإخوة يؤدي إلى ضعف في المادة الوراثية وربما إلى أزمات جينة.
ويمكننا تطبيق معضلة من جاء أولاً على جميع أجزاء جسم الإنسان، وجميع أجزاء الخلية، و المواد الكيميائية، وجميع الوصلات العصبية و الشفرات الجينية.
وهذا يشمل كل جانب من جوانب الأعضاء التناسلية الأنثوية الماكروسكوبية (التي تُرى بالعين المجردة) والميكروسكوبية (التي لا ترى بالعين المجرة)، بما في ذلك: الهرمونات الأنثوية المختلفة مع مستقبلات الهرمون المتبادل، واثنين من المبايض التي وضعت بشكل استراتيجي داخل الحوض؛ وعلى الرغم من أنّ كل مبيض يحتوي على 250000 بويضة، إلا أنّ بويضة واحدة فقط تنضج في كل مرة.
كيف يتم تحديد هذا؟ من المبيض أم البويضة؟ يجب أن تصل كلٌ من حيوانات الذكور وبويضات الإناث في نفس الوقت، وفي المكان المناسب، وأن تكون متوافقة مع بعضها البعض.
أما عن الذكر: فيمكننا الحديث عن الأعضاء التناسلية الخارجية، والهرمونات الذكرية، ووصول الهرمون الصحيح إلى مستقبلاته الصحيحة، والقدرة على تكوين الحيوانات المنويّة وإعادة تكوينها بسرعة. في الواقع، هناك الملايين، وربما المليارات، من التغييرات الجينية والكيميائية اللازمة لتحويل لاقحة القرد إلى لاقحة بشرية، ثم اضرب هذا في اثنين (جنسين).
كما أنّه لا يكفي أن يكون التشريح الرئيسي سليمًا ومتناسبًا فحسب، بل يجب أن تكون هناك هرمونات محفزة وإشارات بصرية ومداعبة لبدء كل شيء. فلابد أن يكون هناك شيء يمنح الشريك المتعة، ولربما فشل الإنجاب الإجباري في المرة الأولى التي جرب فيها.
نعود إلى معضلة أيّهما أتى أولاً: أنظمة ملاحة الحيوانات المنويّة أم نظام مواقع البويضة. وفي الحقيقة إنّ الرحلة التي يقطعونها طويلة، واحتمالية وجود الخطر واردة قبل الالتقاء وأيضًا بعد عملية الإخصاب. وهل تلتقط قناتا فالوب (القنوات الضيقة بين المبيض والرحم) “بأصابعها اللزجة” البويضة بعد خروجها؟ أم هل وُجِدت قدرة البويضة على فتح الباب لنطفة واحدة قبل قدرة النطفة على طرق بابها؟ وهل تمت آلية ارتباط الكروموسومات الذكرية مع الكروموسومات الأنثوية قبل أن توجد الكروموسومات؟
نظرة داخل جسم الإنسان
نستطيع تطبيق معضلة من أتى أولاً تقريبًا على كل أنظمة جسم الإنسان الداخلية.
لو ألقينا نظرة على هرمون النمو وملايين الخلايا العظمية المرتبطة مع مستقبلاتها الفريدة التي تبني وتُشكل العظام وتجبر المكسور منها؛ في الحقيقة نحن نحتاج أن يجتمع هرمون النمو ومستقبلاته في الوقت المناسب والمكان الصحيح. ولا يمكن للعضلات أن تنمو بدون الأوتار لتثبيتها والأعصاب لتحفيزها، وستكون المفاصل بلا فائدة بدون سائل يحفظها من التآكل، كما أننا بحاجة إلى الغضاريف التي تغطي أطراف العظام لتلطيف الصدمات والاحتكاك، ونحتاج تلك الأربطة من أجل التثبيت. وإذا كان لديك مفصل واحد في منطقة الورك له تجويف واحد يتحرك فيه فهذا لا يؤهلك لحياة صحيّة. وأيضًا الأصابع بدون مفاصل ستكون ذات فائدة محدودة، والمفاصل بدون سائل غضروفي أو بلا أماكن لاحتواء ذلك السائل ستكون صعبة الاستخدام وبلا فائدة أيضًا. والأصابع بلا عضلات متقابلة تساعد في التمدد والارتخاء سيجعلها ملحقات متدلية فحسب… والسؤال البارز هنا: من أتى أولا العضلات الباسطة أم القابضة في كل أجزاء الجسم؟
أيّهما جاء أولاً داخل الجمجمة: مقل العيون أم محجر العيون، وهل الجفون أتت أولا أم الرموش، أم هل سبقت الغدد الدمعية القنوات الدمعية، وهل كانت العيون متباعدة أم كانت في أماكن غير مترابطة منذ البداية. ومن أتى أولاً: العصب البصري في الجزء الخلفي من العين أم الفص القذالي للدماغ الذين يفسران المثيرات المرئية… وغيرهم الكثير.
بما أجابت الداروينية؟
ستكون حجة كل الداروينية التقليدين أن لا شيء من هذه الحجج يهم؛ جميع أجزاء الدجاج والبيض المتطابقة نشأت معًا من حجم لحجم ومن لون للون ومن دجاجة قبل دجاجة ومن بيضة قبل بيضة ومن نوع لآخر، كجيش يتقدم للأمام ويسحب أو يضيف قوات أثناء تقدمه.
ومع ذلك توجد عدة مشاكل في هذا النمط من التفكير؛ فأولاً لا يوجد دليل جديد أو ذي صلة يدلي بأي معلومات عن الحمض النووي الذي أضيف بالصدفة أو بالانتقاء الطبيعي أو بالتجربة والخطأ. ثانيا توجد بلايين من التزاوجات التي يجب أن تحدث وتستمر في الوقت ذاته. تتضمن هذه المعضلة عضوين أو أكثر من الجسم البشري؛ وبالعودة إلى ما سبق: فالعضلات المتقابلة تحتاج إلى المفاصل، والأعصاب المتداخلة، وإمدادات الدم والأوتار؛ والمفاصل تحتاج في الوقت ذاته للغضروف وأربطة وإلى السوائل وأعصاب وإمدادات الدم؛ والعظام تحتاج إلى خلايا تصميم وخلايا إعادة التشكيل وإمدادات الدم، وأيضًا هرمون النمو والأعصاب. وهذا من الممكن أن يضعنا أمام معضلات لا تعدُّ ولا تحصى كهرم مقلوب حتى نصل إلى الإخصاب، ثم ببساطة نرجع للوراء إلى بدايتنا.
وفي النهاية؛ الإجابة بالطبع ستكون أنّ البيضة والدجاجة أتيا في نفس الوقت، وأي تفسيرات أخرى مستحيلة!
اقرأ ايضاً: التطور: نظرية فنّدتها الحقائق
- د. جيفري سايمونز: طبيب ومؤلف كتاب “هل نحن هنا لإعادة خلق أنفسنا؟” وهو عضو في مركز العلوم والثقافة التابع لمعهد ديسكفري.