- وداد الشيخ خالد
- تحرير: بلال الخصاونة
يتمطّى صديقنا وهو يتصفح الفيسبوك.. يتجول بين المنشورات دون انتباه، حتى يفجأهُ زميله معلنًا انتهاءه من جرد كتاب مطوَّل، يتردد في وضع الإعجاب، يرنو ببصره لمكتبه حيث ينام كتاب المتن الصغير الذي لمَّا ينتهِ منه، يتململ ثم يغلق الفيس!
ينتقل لتويتر، فترحب به تغريداتٌ مكثفة تناقش كتابًا فلسفيًا لم يسمع باسمه بعد، ورابطٌ لبحث محكَّم في دقيقة أصوليّة، فيسرع الخطو بين التغريدات ليصطدم بصاحبٍ قديم له يشارك غلاف كتاب حقَّقه يُنشر لأول مرة!!
يغيب قليلًا ثم يعود ليجد نقاشًا حافلًا بين أصدقائه في تحرير مصطلح إمام في كتابٍ نادر، وتوصيةً من أستاذ بكتابٍ مَن لم يقرأه لم يعرف باب العلم، وآخر يحيل لموسوعة لا غنى للباحث عنها.. يقلّب كل هذا وأكثر يوميًا وهو يشعر بفواته كله، يملأه القلق من هذا الفائت، والخوف من عدم قدرته على مواكبة هؤلاء.. يشعر أنه خارج المشهد العلمي أو الثقافي، وهذا هو fomo طالب العلم!![1]
قبل ثلاثين سنة كان طالب العلم يجلس بين يدي شيخه، يثني الركب، ويمسك القلم، ويقرأ في الكتب التي قرَّرها عليه، ويراجع المصادر المتوفرة في بيئته، فإذا أراد أن يطلع على ما هو أوسع كان عليه زيارة المكتبة العمومية ،أو مراجعة أساتذة واسعي الاطلاع لعلَّه يحل إشكالاته، لكن لم يخطر في بال هذه البيئة العلمية أن تصحو يومًا وقد اختلطت المدارس والمذاهب والفنون والمناهج والأعراق في مكان واحد بهذا الشكل الفوضوي، وهذا التنوع المفيد المشتِّت بآن واحد، وقد صار الكتاب النادر يتاح بضغطة زر، ومخطوطات العالم بين يدي كل عابر سبيل، ولم يتوقعوا أن يكون فيسبوك وتويتر ساحة لبناء بيئة افتراضية علمية مختلفة عن ضوابطهم التي اعتادوها، مما جعل طالب العلم يعاني من قلق فوات شيء مما يقرأ عنه.
حتى الذين يشغلون أنفسهم بأعمال علمية، ويسيرون على خطة ثابتة قد يقعون في هذا القلق، لكثرة ما يمر أمامهم من اقتراحات للقراءة أو النقد أو الدراسة أو التحقيق ..الخ!!
أما حال الطالب المبتدئ فأصعب؛ لأنه كثيرًا ما يتعرض لحديث مختلف عن مدرسته، ولخطط دراسية متفاوتة أو متعارضة معها، ويقف على أشخاص يمدحون مشايخ لا يعرفهم، أو يذمون مشايخ يعرفهم، وتلطمه أمواج بحر وسائل التواصل حتى ينتقل من خطّة لخطّة، ومن منهج لمنهج، ومن فنٍّ لفنٍّ قبل أن يختم ما هو فيه، ويصبح تعلُّمه تبعًا للدارج المتداوَل، وتمضي السنوات واقتراحاتُ فيسبوك وتويتر تغزوه وتعيده للمرحلة الأولى، ومهاتراتُ أصحابه تدفعه لحشد الكلام في مسائل لا تعنيه ولا تفيده ليساهم في هذا الحوار؛ لئلا يفوته ما هم فيه! إنه الخوف الذي يطارده من عدم انتمائه لمحيطه العلمي!
فإذا لم يجد سبيلًا لمشاركتهم اندفع أحيانًا لابتداع رأي شاذٍّ أو نشر فكرة فطيرةٍ أو إعلان انتقاصه فلانًا من الأئمة ليلفتَ الأنظار لحسابه، ويشعرَ أنه ضمن هذا المشهد، فيتحدثَ عنه المهتمون بهذا الفنّ، ويردَّ عليه كبارهم وصغارهم، ويتهامسَ باسمه -وإنْ إنكارًا- فضلاؤهم.
ثم يستولي عليه هاجس جمع الإعجابات، ويطارده شبح القلق من عدم المشاركة، فيقضي أيامه باحثًا عما يناسب التغريد لا عن العلم، وما يجذب المتابعين لا الفهم، يقلّب صفحات الكتب بحثًا عن الغرائب لنشرها، والفرائد لإذاعتها، غير آبهٍ بما في الأوراق من معرفة حقيقية، حتى ينتبه بعد سنوات أنه ما أتمَّ كتابًا ولا منهجًا، ولا تجاوزَ مستوى، ولا أنجز بحثًا!
لا شكَّ أن طبيعةَ النهم العلمي، والرغبة بمعرفة كل شيء، والفضول لإدراك ما يخفى أمرٌ مفيدٌ، بل هو سبب ما يبلغه الإنسان من علوم، لكنه لا يوصله لغاية ما دام عشوائيًّا!
إن السعي لتجاوز هذا القلق المشتِّت، وفوضى المعلومات الكثيرة من أبرز التحديات التي تواجه طالب العلوم اليوم!
ولا ينجو منه من لم يتأمل غايته من العلم، وهدفه من التحصيل، هل هي الثقافة العامة، أو الوصول للإتقان والتحقيق، أو الاكتفاء بالحديث عن العلم لا فيه؟ ويتنبَّه لقيمة الوقت الذي يمضي، وخطورة شغله بما لا ينفعه، فيضع لنفسه خطة دراسية أو بحثية واضحة يلتزمها ما أمكنه.
ومما ينبغي ألّا يفوته إدراكُ علاقات العلوم؛ فيعرف ما هو من دائرة اختصاصه وما هو بعيد عنها، وما هو لصيق بها وما هو منفك عنها، ويعامل كلًّا منها بما يليق، واستيعابُ الفرق بين نصيحة الأئمة بمعرفة العلوم المترابطة، والتخبط في متاهة المعلومات المتناثرة، فإنهم يقصدون تعلُّمَ قدرٍ نافعٍ منها بشكل منهجيٍّ، لا جمعَ حاطب ليل منها بشكل فوضوي.
ثم لهدوء النفس في تلقي العلم وتدرج الطلب دورٌ كبير في النبوغ والفهم، وهو من أدبيات تراثنا، فقد كان الزهري -رحمه الله- يقول لتلميذه: “لا تأخذ العلم جملة، فإنّ من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة”.[2]
وحين جاء الإمام الأعظم أبو حنيفة إلى شيخه حماد -رحمهما الله- يطلب الفقه، قال له: تَعَلَّمْ كلَّ يوم ثلاث مسائل، ولا تزد عليها شيئًا حتى ينفتق لك العلم، ففعل، ففقه حتى أشير إليه بالأصابع![3]
واستحضار هذا يورث نفس المقبِل على التعلم هدوءًا وطمأنينة، ويكسوه حُلَلَ الصبر والتمهل، فلا يسعى لتجاوز المراحل، ولا يحيد عن هدفه وإن ظهرت أمامه دروبٌ أخرى.
ولا أظنّهُ يخفى عليك -أيها القارئ الكريم- أن النقطة التي عليها المعوَّل إدراك المرء من نفسه أنه واقعٌ في هذا القلق، متحيرٌ في العلوم، تائهٌ في السبيل؛ ليحاول الخروج منه ناجيًا من تبعاته، مستفيدًا من وسائل التواصل بالقدر الذي لا يضرُّه، واضعًا لها في موضعها المناسب.
اقرأ ايضاً: إدمان الفومو (FOMO)، وكيف نتغلب عليه
[1] (fomo) اختصار لـ: ( fear of missing out) أي: الخوف من تفويت شيء!
[2] جامع بيان العلم، ابن عبد البر، 1، 431.
[3] ربيع الأبرار، الزمخشري، 4، 20.
مقال جميل
مثري، يستحق التأمل الطويل