عام

مكافحة الإباحية: المفهوم والصناعة

  • عمر سليمان
  • ترجمة: زينب فؤاد عبد المطلب
  • تحرير: ريم الطيار

 

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]

خزيٌ، انهزامٌ، افتقار إلى احترام الذات…

يمكنك أن ترى كل ذلك في عيون الشاب أو الشابة المدمنين على الإباحية، والرجل أو المرأة اللذين تزوجا ولكن لم يتمكنا من الإقلاع، وكذلك لدى الزوج أو الزوجة اللذين انكشف سترهما، ويشعران كأنهما سيعيشان إلى الأبد تحت ظلام العار والشك، أو هذا الزوج أو تلك الزوجة الذان اكتشفا أن شريكهم واقع في شَرَك هذا الوباء، ومع ذلك لا يعرفون كيف يواجهونه أو يستعيدون تقدّيرهم لذاتهم بعدما اكتشفوا الحقيقة المؤلمة.

إلى ذلك الطفل الذي فوجئ والداه بما يشاهده، أو -الأسوأ من ذلك- الوالدين اللذين شاهدهما أطفالهما، إلى الشاب/الشابة اللذين يحضران الحلقات العلمية، وينميان معرفتهما الدينية، ومع ذلك يشعران وكأنهما منافقين؛ لأنه لا يبدو أنهما يمتلكان أي عزيمة على الإقلاع مهما سمعا من محاضرات تهذيبية، ومهما تحملوا من عقوبات يفرضونها على أنفسهم.

إنها -الإباحية-ذلك القبول الواسع، والإشباع الفج للرغبات والمُثيرات الجنسية غير المألوفة، وعدم القدرة على رؤية الناس إلا كأوعية لتفريغ الطاقة الجنسية؛ إنها نزع الصفة الإنسانية عن المستهلِك والمستهلَك.

بصفتي واعظا، لا أستطيع استحضار أشياءً عاثت فسادًا في كل ديموغرافية في المجتمع كما فعلت المواد الإباحي، ولكن كم عدد الخطب التي سمعتها عن هذا الموضوع؟ ما مقدار الاهتمام الذي نكرسه لمساعدة الناس على رؤية أضرارها، ورؤية تقديرهم لذاتهم بينما يشعرون بأنهم واقعون في شباكها، كيف نساعدهم على الإقلاع وما البرنامج العملي من أجل التغلب عليها؟

كما شكى لي أحد المدمنين الشباب منذ سنوات، “يبدو أننا نفرض الرقابة على النقاش حول الإباحية بدلاً من فرضها على الإباحية نفسها”؛ لم أنس هذه الكلمات مطلقًا، ولكن لا يمكننني إنكار أني قد شعرت في كثير من الأحيان بصعوبة معالجة هذا الموضوع، ما هو المحفل المناسب لمناقشته؟ هل من المناسب أن يكون المنبر؟ هل يجب أن أكون الشخص الذي يناقشه أصلاً؟ من هم الخبراء الذين يمكننا أن نستعين بهم؟

إن أمر الله في القرآن بغض البصر سبق وجوب العفة؛ لأن ما تبصره العين بانتظام لا بد أن يجد مكانًا في قلب الشخص وعقله، ولكن ماذا يحدث عندما تكون المحرمات قد استقرت بالفعل في هذين المكانين؟

على الرغم من ندرة الجهود النبيلة في المجتمع الساعية لتوفير مساحات آمنة لمساعدة الأشخاص للإقلاع عن إدمانهم، إلا أننا قد أصابتنا بلادة تجاه المحتوى الإباحي، وهو الأمر الذي لم تتم معالجته بشكل كافٍ.

عندما يستخدم مصطلح “المواد الإباحية” عادةً، فإنه يشير إلى أنواع وفضاءات محددة جدًا، لكنه في الواقع، قد شق طريقه إلى البرامج الكوميدية، والأعمال الدرامية التي يتم الإشارة إليها بشكل عرضي دون تحفظ، كما أصبح يشار إلى العناصر الإباحية بنفس الطريقة التي يشير بها الأشخاص إلى أي عروض أخرى.

إن ظهور محتوى إباحي في مسلسل درامي تلفزيوني أو كرتوني لا يجعله أقل ضررًا، بالنسبة إلى بعضهم، فإن النظرات الخاطفة على المواد المتوفرة في مواقع التواصل الاجتماعي هي ما تتحول إلى إدمان في النهاية، والخزي الذي يلحق المرء من جراء كونه مدمنًا على الإباحية في السر -رغم من الوقاحة المتزايدة لاستهلاك المحتوى الإباحي والإشارة إليه في الأماكن العامة-يجعل من الصعب على الناس الحصول على المساعدة، للأسف، لا يتم عادةً اتخاذ أي خطوات لمعالجة الأمر إلا بعد حدوث عواقب نفسية أواجتماعية مدمرة، وبعد ذلك تصبح تلك الوسائط التي تقدم محتوى فاضحًا متميزًا بمثابة “المخدرات” إذا جاز التعبير.

وهو ما يحملني إلى الجانب التجاري من هذا الأمر، لا يقتصر دور المواد الإباحية على تدمير المُشاهدين عاطفيًا، ونفسيًا، وتغيير انطباعهم عن أنفسهم والعالم من حولهم تمامًا، بل إنها تستغل بشكل مأساوي بعض الفئات السكانية الأكثر ضعفًا لدينا لإخراج هذا المشاهد السلبي.

غالبًا ما تكون عبارة “قريب من سن الرشد” غير قانونية تمامًا، ومع ذلك لم يتم بذل سوى القليل من الجهود لتسليط الضوء على ما أصبح عليه الوضع الطبيعي الجديد.

أثناء كتابتي، أثار فيلم جديد عرض على نتفيلكس  بعنوان Cuties يتمحور -بكل وقاحة- حول فتيات يبلغن من العمر 11 عامًا يمارسون الرقص العاري بشكل قانوني- غضبًا عالميًا، وبينما رد بعضهم بأن الفيلم كان يهدف في الواقع إلى تسليط الضوء على استغلال الأطفال جنسيًا، فإن تصوير الأطفال بهذه الطريقة -باسم الفن أو التعليق الاجتماعي-يعرضهم للخطر، بل الأدهى من ذلك أنه يُطبّع السلوكيات المشينة التي لا تزال تعرضهم للخطر.

ما كتبه آلان جاكوب في عام 2013 حول عروض HBO (شبكة تلفزيونية أمريكية) التي تتكلم عن مدمن هيروين يبلغ من العمر 11 عامًا= يعتبر مقالاً جيدًا بهذا الخصوص.

مرة أخرى، ليست المشكلة فقط أن الإباحية أضحت أمراً مزعجًا ينتهك الحشمة الإنسانية، بل أنها خطيرة أيضًا صناعة الإباحية مدفوعة بحاجات المستهلكين، وهذه الحاجات ترتفع -ولا مفاجأة في ذلك-لتصل إلى الأطفال. يشير مقال حديث لـ NBC إلى كيفية ارتفاع صور الاعتداء الجنسي على الأطفال، والاستغلال عبر الإنترنت بشكل خاص خلال جائحة كورونا، وفقًا للمركز الوطني للأطفال المفقودين والمستغلين، فقد تضاعفت التقارير المتعلقة بالمحتوى الجنسي الذي يتضمن أطفالا أكثر من الضعف هذا العام، من 983,734 تقريرًا في مارس/آذار 2019 إلى 2،027،520 تقرير في مارس/آذار من هذا العام.

ألا يكفي هذا لجذب الاهتمام العالمي؟ تنص المادة 34 من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأطفال على ما يلي:

“تتعهد الدول الأطراف بحماية الطفل من جميع أشكال الاستغلال الجنسي، والاعتداء الجنسي، ولهذه الأغراض تتخذ الدول الأطراف على وجه الخصوص جميع التدابير الوطنية والثنائية والمتعددة الأطراف الملائمة لمنع:

(أ) حمل أو إكراه الطفل على تعاطي أي نشاط جنسي غير مشروع.

(ب) الاستخدام الاستغلالي للأطفال في الدعارة أو غيرها من الممارسات الجنسية غير المشروعة.

(ج) الاستخدام الاستغلالي للأطفال في العروض والمواد الإباحية”.

تم التصديق على هذه المعاهدة بإجماع عالمي، ومع ذلك يتم انتهاكها بانتظام دون أي عقاب، إذن كيف نبدأ في مقاومة هذا الأمر بخلاف الاستمرار في تسليط الضوء على لا أخلاقية المحتوى الإباحي ككل، وبذل كل ما في وسعنا لحماية عائلاتنا منه؟

قبل بضعة أشهر، صادفت مقطع فيديو حول عمل Exodus Cry، وهي حملة دينية ضد موقع Porn Hub الإباحي، والتي تعتبره متجرا إباحيا تحت شعار #Traffickinghub. بقيادة ليلى ميكلويت، تسعى الحملة إلى إغلاق Mindgeek، الشركة المالكة لـ Pornhub، لدورها غير المتناسب في إدامة الاتجار العالمي بالأطفال لأغراض جنسية. تمتلك شركة Mindgeek من 70 إلى 90 بالمائة من المواد الإباحية المنتشرة، ومن خلال امتلاكها للأموال وصلتها بالسلطة سعت الشركة إلى تقليص نقد أنشطتها الإجرامية، ووالتركيز على الأضرار العامة للمواد الإباحية من خلال رعاية، ونشر أبحاث كاذبة مثل الكثير من مجموعات ضغط التبغ التي انتشرت في التسعينيات، تخيل الآثار المترتبة على إغلاق أكبر مساهم في المواد الإباحية في العالم!

قدمتُ دعمي لهذه الحملة على وجه التحديد، وسوف أشجع المسلمين وجميع أصحاب الضمائر على الوقوف ورائي؛ يبلغ عدد الموقعين على العريضة في هذه اللحظة مليوني شخص، وكل توقيع مهم.

وبينما يُعد معظم الذين يعملون ضد صناعة الجنس التجاري محافظين سياسيين، لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يمنعنا ذلك من العمل معهم في هذه القضية ذات الأهمية الملحّة، بالنسبة إلى بعضهم، فإن قضية المواد الإباحية تتركز فقط على الضرر.

وبالنسبة إلى آخرين، فإنها تتركز فقط على الأخلاق، أما بالنسبة إلى المسلمين فيجب أن يُعتبر كلا الأمرين، يجب أن نهتم بالأطفال الموجودين أمام الشاشة ومن خلفها، وهكذا بينما نعمل على حماية أنفسنا من أضرار هذه الصناعة من خلال الانتباه إلى ما نسمح بدخوله إلى منازلنا، ومن خلال ابتكار برامج ومساحات آمنة لأولئك الذين يتعاملون مع الإدمان، ومن خلال تصميم ورفع مستوى الوسائل البديلة غير الموبوئة بالإباحية، يجب علينا أيضًا أن نتكاتف مع مجموعات مكافحة الاتجار بالبشر والمجموعات الدينية لمحاربة الصناعة نفسها التي تفترس  السكان الأكثر هشاشة في العالم بوقاحة.

اقرأ ايضاً: “الإباحية : تجسيدٌ لنهاية العالم”


د. عمر سليمان هو مؤسس ورئيس معهد يقين للبحوث الإسلامية، وأستاذ مساعد للدراسات الإسلامية في برنامج الدراسات العليا الليبرالية بجامعة SMU (الجامعة الميثودية الجنوبية). وهو أيضًا الباحث المقيم في Valley Ranch Islamic Center والرئيس المشارك لـ Faith Forward Dallas at Thanks-Giving Square. حاصل على بكالوريوس في المحاسبة، وبكالوريوس في الشريعة الإسلامية، وماجستير في التمويل الإسلامي، وماجستير في التاريخ السياسي، ودكتوراه في الفكر والحضارة الإسلامية من الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.

المصدر
muslimmatters

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى