- مورا جمال
- تحرير: عبير الشهري
أراد شاب أن يتعلم مجموعة من المهارات الجديدة علي يد معلم، فسأله عن المدة التي يتطلبها لتعلم تلك المهارات الجديدة، فأجابه قائلاً: من المحتمل أن يستغرق الأمر عامين.
عند سماع هذه الإجابة أصبح الشاب قليل الصبر، قليل الشجاعة والإقدام على الأمر، وسأله ثانية: وماذا يستغرق الأمر إذا كانت المذاكرة بجد واجتهاد؟ فأجاب المعلم عن ذلك قائلاً: إن الأمر سيتطلب أربعة أعوامٍ تقريباً.
بلوغ المكانة
حين يصل المرء إلى مرحلة القارئ الناضج الواعي؛ يُصبح كالزرع الذي اشتد عوده واستوى، فيًعجب الزُراع بأفكاره المُبدعة، واتزان قوله وفعله، فيُسأل: كيف وصلت إلى هذه المكانة؟!
فيقول: “بترك المنام والوسادة، والبحث بين عقول السابقين، والاستفادة من تجارب وخبرات الاخرين، والسعي بين صفحات الكُتب، واغتنام الفوائد في الكراس، فينبهرون، ويتحمسون ويتشجعون، آخذين عهداً على أنفسهم أن يتخذوه قدوة لهم، ظانين أنه أصبح قارئاً بين ليلة وضحاها، أو بقراءةِ عشرات الكُتب التي يمكن أن يقرأها.
وفي أثناء شرودهم يواصل هذا القارئ حديثه، وسِرتُ أعواماً وأعواما أتعلم من هذا الأديب وذاك الكاتب والأستاذ الكبير.
وهنا يبدأ صدودهم عن كلماته، وتقلُّ شعلةُ حماسهم، ويتخذون خطوة للوراء، ويسألون بينهم وبين أنفسهم: “كيف تحمّل هذا المرء مرارة القراءة؟”.
وبسرعة يفهم إشارات عقلهم، وعلامات وجوههم، فيُجيبهم عن السؤال الذي دار في سرائر أنفسهم: “أنه من لم يتحمل مرارة العلم ساعة؛ ذاق مرارة الجهل كل ساعة”.
القراءة شجرة بامبو
إن القراءة كشجرة البامبو التي تحتاج إلى وقتٍ وصبرٍ، حتى تُثمر وتؤتي أُكلها، وأن المرء لن يجنى ثمار القراءة إلا بمفتاحٍ واحد، هو مفتاح الحل، مفتاح الفرج والفلاح؛ وهو الصبر.
الصبر هنا ليس صبر الانتظار، والسكون الذي يُصاحبه الخمول والركون، إنما صبر الصبّار. تلك النبتة التي تَمُد جذورها في الأرض عرضاً وطولاً بحثاً عن الماء، تلك النبتة بأشواكها التي تقتنص أي حشرة تقف عليها لتمتص منها الحياة[1].
إنه صبر السعي والحركة، صبر الجد والاجتهاد، صبر الجَلَد وتحمّلِ أحلك الظروف.
صبر العمل والفاعلية، حتى أننا لو تأملنا بدقةٍ أكثرَ تفصيلاً، عن تلك النبتة الشائكة الجافة من الخارج، ونظرنا في داخلها لوجدناه ليناً، طرياً، ومليئاً بالماءِ، ينفعُ الناس كثيراً في حياتهم، ويدخل في كثيرٍ من العلاجات كنبتة “الألوفيرا”، التي تُخرج جلّ الألوفيرا التي فيها منافع جمّة للناس. بل ومنها حلو المذاق، يشتهيه كثيٌر من الناس، كنبتة التين الشوكى المليئة بالعناصر الغذائية لجسم الإنسان، والتي تمنعهُ من الشعور بالعطش في أشهر الصيف.
صبر المكاره
إنه عين الصبر الذي قال الله عز وجل عنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [سورة آل عمران:200]
يقول السعدى[2] رحمه الله: “وقد حضّ الله المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلاح حيث الفوز، والسعادة، والنجاح، وأن السبيل الموصل إلى ذلك؛ هو لزوم الصبر الذي هو: حبس النفس على ما تكرهه. ولماذا ما تكرهه النفس ؟! لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “حُفتّ الجنة بالمكاره“.
ويدخلُ من المكاره: الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقّها، والعلم من العبادات التي بها يتقرب العبد إلى الله لينتقل من الجهل إلى المعرفة، ومن الظن والوهم إلى اليقين، فيخرجُ من الظلمات إلى النور، وما فُضل الإنسان على كافة الخلائق إلا بالعلم.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ فملازمة العلم، والمعرفة، والقراءة ثقيلٌةٌ على النفس، والأثقل منها؛ الاستمرار فيها، والمواظبة عليها، وهو قول الله عز وجل:﴿وَصَابِرُوا﴾ والمصابرة أي: الملازمة والاستمرار على ذلك، الاستمرار على ما تسعون إليه، وتبغون تحقيقه من الصبر.
ويتبعها ﴿وَرابطوا﴾ والمرابطة هي: لزوم المحل. أي اثبتوا على سبيلكم، ولا تتراجعوا حتى لو وجدتم من أنفسكم بعض الضعف والوهن، وهذا طبيعي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لكل عمل شرة ]نشاط وحماسة[، ولكلّ شرة فترة ]فتور وضعف[، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك“.
والمرء كما يُصيبه نشاط في بعض الأوقات، يُصيبه أيضاً بعض الفتور والضعف والسكون في فترات أخرى، وقد أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “سدّدوا وقاربوا” بل ويحثنا على الاستمرار، والمداومة على العمل، الذي نسعى لتحقيقه، فيقول صلى الله عليه وسلم: “خير الأعمال أدومها وإن قلّ“.
مدار الصبر
إنه القارئ الذي يشبه نبتة الصبار، حيث يسعى بين صفحات الكُتب بقلمه وذهنه، ويُبحر بين عقول الكُتاب، وينتفع بشتى أنواع المعارف بحثاً عن الحياة، تماماً كما تقول الحكمة: “من لم يركب المصاعب لم ينل الرغائب”، وكما قال يحيى بن أبي كثير:” لا يُستطاع العلم براحة الجسم”.
إنه الصبر الذي يمنح القارئ قوة العقل، ومتانة الفكر، وشيئاً من الحكمة، التي تنمو فروعها، ويثقُل عودها بنمو العقل وسداد الفكر ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة البقرة: 269]
الصبر الذي يوصل القارئ إلى أكناف المجد كما قال الشاعر:
لا تحسبِ المجدَ تمرًا أنت آكلهُ *** لن تبلغَ المجد حتى تلعق الصبرا.
الصبر الذي يُعلم القارئ مهارة الإنصات، ففي حضرة الكتاب يجلس مُتعلماً لهذا المعلم الصامت الذي بين يديه.
الصبر الذي يُغيّر نفس المرء فيحوّلهُ إلى قارئ، وقارئٍ نهم، وقارئٍ ناضج، وقارئٍ كاتب، ويرتقي به كلما زكّى نفسه بعيداً عن الأهواء، والشهوات، والشبهات.
الصبر الذي ينتج عنه عمل، فما يقرأهُ القارئ يُحاول تطبيقه على نفسه تدريجياً، فيغير عاداته، ويكتسب عادات ومهارات جديدة، بل ويُصبح اكتساب كل ما هو جديد سهلاً عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، وإنّما الحلم بالتحلم).
إنه الصبر، الذي هو بالاستعانة بالله -عز وجل-وبتوفيقه يتحول إلى يسر. يُسر في هداية القارئ إلى الكُتب النافعة التي تضيء عقله، ويُسر في تسهيل قراءتها، وفهمها، والعمل بما فيها.
الصبر الذي لا يذوق حلاوته إلا القارئ، فهو شراب أشهى من العسل. حين يُطالع الكُتب ويجالس أصحابها.
يقول ابن الجوزي: “لقد كُنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو”.
الصبر على القراءة، هو مدار القارئ، ينتقل بين الكُتب من كتاب إلى آخر، ومن مؤلف إلى أديب، إلى عالِم، وآخر فنان، ومن زمنٍ إلى زمن، ومن بلد إلى آخر، فيها تختلف ألوان الناس وألسنتهم.
الصبر الذي قال العقاد عنه [3]: إن شر ما ابتُليتْ به الثقافة؛ أن يُقال: إنها لذّة، ليس إلا، وأن يُنسى مع هذا أن اللذة لا تكون إلا بالاستعداد، وأن الاستعداد لا يتم بغير الصبر والمراس.
إنه الصبر الذي هو: جامع لفضائل أخلاق الكبار، كبار الهمم، والإرادات، كما قال المتنبي:
إذا كانت النفوس كبارًا .… تعبت في مُرادها الأجسامُ.
[1] لا نأسف علي الإزعاج، أحمد خيري العمري
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن السعدي
[3] ساعات بين الكتب، عباس محمود العقاد
مقال رائع …
جميل ماكُتب ..جزاك الله خير
ما شاء الله ، مقال أنار بعض المظلمات