- بقلم: ريتشارد بالدوين[2]
- ترجمة: رضا رزق
- تحرير: لطيفة الخريف
الأزمة الاقتصادية كوفيد 19 (COVID19) مختلفة؛ إذ تضرب عمالقة الاقتصاد كلهم في آن واحد: الصين ومجموعة دول السبعة (G7). وتنتشر الضربات الاقتصادية على نحو واسع مؤثرةً على قطاعات اقتصادية عدة في آن واحد. إنها ليست أزمة ائتمان، أو أزمة مصرفية، أو أزمة نتيجة نقص حاد مفاجئ في تدفق رؤوس الأموال (Sudden-stop crisis)، أو أزمة بورصة، إنما الأزمة الاقتصادية (كوفيد19) هي مجموع القليل من كل ذلك. وباعتبار الطبيعة المؤقتة للصدمة الطبية التي تقف وراء الأزمة، فإن هذا المقال يناقش ما يتعين على الحكومة فعله من “ترك الأنوار مضيئة” باستخدام آليات مُكلِّفة لكن سريعة، وذلك لضمان استمرار التدفق الدَّوار للمال بهدف تقليل مدة بقاء الأزمة وتجنب التراكم غير الضروري لـ “ندبات النسيج الاقتصادي”. |
بأي طريقة يجب أن نفكر لاحتواء الأزمة الاقتصادية (كوفيد19)؟
في طفولتي، كانت أنوار الكريسماس تتصل مع بعضها في سلسلة بواسطة سلك، وعليه فتَلَفُ مِصباح يؤدي إلى انطفاء كل المصابيح المتصلة بنفس السلك. وقد علّمني أبواي زمنَ اقتصادِ الكساد أن الإصلاح يكون بفحص كل مصباح واحدًا تلو الآخر، وفحص كل مجموعة متصلة ببعضها، وهذه الطريقة تُبقي شجرة الكريسماس مظلمة وقتًا طويلًا، لكن الوضع كان جديرًا بظلام يطول أمده، إذ إن المصابيح غالية الثمن والعمالة رخيصة.
أما اليوم، فإني أود أن يكون التصرف تجاه الأزمة بطريقة مختلفة، أنا أميل إلى خيار “مكلف لكنه سريع”، ألا وهو: إصلاح المصابيح كلها في آن واحد. ذلك أن البضائع /المصابيح رخيصة والعمالة عالية الكلفة وأمد الكريسماس قصير، و عليه فأنا أقترح أن يُفكر صانعوا السياسات في العلاج الاقتصادي للأزمة بنفس الطريقة.
- يتعين على الحكومات الأخذ بحلول تحفظ أنوار الاقتصاد مضيئةً [يقصد تدفق المال] دون قلقٍ بشأن التكلفة، وفي النهاية: الناس أهم شيء والمال رخيص والصدمة الطبية مؤقتة.
هذه المرة : الأزمة مختلفة
الأزمات الاقتصادية تشبه حافلات النقل العام؛ دائما هناك ما هو قادم (IMF 2020)، لكن هذه الأزمة مختلفة، وهي مختلفة من وجهين:
- قد ضربت الصدمة الطبية المسببة للأزمة مجموعةَ دول السبعة والصين في آن واحد.
على خلاف الأزمة الآسيوية أو العالمية، فإن الأزمة الاقتصادية (كوفيد19) لم تبدأ اقتصاديًّا في بلد واحد لتنتشر بعدها في بلدان أخرى. إنما بدأت الصدمة الطبية (إذا قيست بعدد الحالات الجديدة المصابة) في الصين في أواخر عام 2019 ولم يستغرق الأمر إلا أياما قليلة حتى ظهرت حالات في بعض دول السبعة. وبحلول الحادي والثلاثين من يناير 2020: كان هناك حالة مصابة على الأقل في كل دولة من مجموعة دول السبعة.
- ضربت الصدمة الطبية الاقتصادَ في أماكن عدة.
الأزمات الاقتصادية الأكثر دراسة تبدأ في مكان واحد؛ فمثلا الأزمات المصرفية تبدأ في البنوك، وأزمات سعر الصرف تبدأ في سوق صرف العملات واحتياطيات البنك المركزي، وأزمات التدفق تبدأ من تدفقات رأس المال العالمي وهكذا، أما أزمة كوفيد 19 فغير ذلك.
ثلاثة أنواع من الصدمات الاقتصادية
لتنظيم النظر فيما يتعين علينا فعله: فإننا نحتاج إلى “تبسيط بغرض التوضيح” عندما يتعلق الأمر بطبيعة الصدمات الاقتصادية التي تسبب الفيروس في اندلاعها. هناك ثلاثة جوانب أساسية (Baldwin and Weder di Mauro 2020).
الأول: المرض يضرب الإنتاج حين يجعل العمال في أسِرّة المرض، يبدو الأمر “بطالة مؤقتة” أو هو شبيه -اقتصاديا- بشهر أغسطس في أوروبا حيث تقل العمالة بشكل مؤقت. وهذا الوضع الشبيه بالبطالة المؤقتة قد يؤثر على الإنفاق في الولايات المتحدة وبعض الدول؛ لأن بعض العاملين إجازاتهم غير مدفوعة الأجر، وفي دول أخرى حيث الاقتصادات التي لا زالت شاذة (gig economy) فلا يتقاضى العمال أجرا طالما لا يعملون.
الثاني: إجراءات الصحة العامة لاحتواء الأزمة، والتي تهدف إلى تقعير منحنى انتشار الوباء عن طريق غلق المصانع ومكاتب الأعمال ومنع السفر والحجر الصحي وما شابهه.
الثالث: صدمة التوقعات، فالأزمة كوفيد -تماما مثل الأزمة العالمية 2008-2009- يصحبها شركات ومستهلكون حول العالم في وضع الانتظار والترقب، وهذا يبدو جليًّا -وربما فقط- في الهبوط الهائل في حركة السفر والإقامات الفندقية لأنها البيانات التي أتيحت سريعًا. مؤشّرات راديّة كمؤشّر مديري المشتريات (PMIs) كلها في هبوط حادّ.
مواقع الضربات: كيف تؤثر الصدمات الثلاثة في الاقتصاد؟
قد أثرت الأزمة كوفيد 19 على آلة الاقتصاد في أماكن عدة وفي وقت واحد، كما هو موضح بيانيّا في الشّكل الآتي:
يعرض هذا الرسم نسخة لمخطط تدفق الأموال الدائري المعروف (مثلا، Mankiw 2010) في شكل مبسّط، تملك الأسر رأس المال والعمالة التي تبيعها للشركات، والتي تستخدمها بدورها في إنتاج أشياء تشتريها الأسر فيما بعد بالمال الذي أعطته الشركات إياهم، ومن ثم تكتمل الدائرة ويبقى الاقتصاد في حالة حركة.
النقطة الأساسية هي أن الاقتصاد يستمر في جريانه طالما المال متدفقٌ في الدائرة، وإعاقة التدفق عند أي نقطة يسبب ركودًا في كل مكان. المخطط فيه بعض التعقيد؛ لأنه أضاف الحكومة والعالم الخارجي في الدائرة، وهو يفصل بين نفقات الاستهلاك ونفقات الاستثمار. [أي إنهما ليسا طرفين وحيدين في علاقة مباشرة]
علامات الخطأ الحمراء تبين المواقع حيث تسبب (أو يمكن أن تسبب) الأنواع الثلاثة من الصدمات تعطيل “تدفق المال” الذي هو دينامو/محرك الاقتصاد كما تبين. وبداية من علامة الخطأ الحمراء أقصى اليسار يتضح الآتي:
- العائلات التي لا تحصل على دخل معرضة لأزمة مالية أو إفلاس، وبخاصة في الولايات المتحدة حيث فواتير العلاج مصدر رئيسي لتعرض الناس لانهيار مالي (org 2020). وهذا مما يقلل الإنفاق على السلع، ومن ثم يؤثّر سلبًا في تدفق المال من الأسر إلى الحكومات والمؤسسات.
- صدمة الطلب المحلي تؤثر سلبًا على واردات الدولة، ومن ثم تدفق المال إلى الخارج، وهذا مما يؤثر سلبًا بصورة غير مباشرة على صادرات الدولة نفسها؛ بسبب نقص دخل الأجانب الذي يُستخدم في الاستيراد، ومن مصادر هذا الدخل: صادرات الأجانب التي هي وارداتنا. وفي الأزمة العالمية 2008، كان كلٌ من “صدمة الطلب المحلي” و”انخفاض الصادرات” من الأهمية بمكان بحيث تسببا في الانهيار الكبير للتجارة.
- يمكن أن تؤدي “صدمة الطلب” و”صدمة العرض” [صدمة العرض: في الاقتصاد الكلي تعني: “تغير مفاجئ في تكلفة الإنتاج أو الإنتاجية، يكون له تأثير كبير وغير متوقع على العرض”] إلى خلل في سلاسل العرض عالميًّا و محليًّا، فكلاهما يؤدي إلى تقليل الإنتاج، وبخاصة في مجال الصناعات التحولية؛ حيث تتضاعف الأزمة بسبب وضع “الانتظار والترقب” لدى الشركات والناس، إضافة إلى أن سلع الصناعات التحولية من الأشياء القابلة للتخلي عنها أو تأجيلها لأسابيع أو شهور دون كلفة باهظة.
- إفلاس الشركات (Benassy-Quéré 2020)
أصبحت كثير من الأعمال محملة بأعباء الديون في الأعوام الأخيرة (BIS 2019)، وهذا مما يجعلها سببًا في تقليل التدفق المالي كما حدث في إفلاس شركة الطيران البريطانية (Flybe). وإغلاق الشركات بعد إفلاسها يخلق خللًا أكثر في تدفق المال، فالدائنون لا يحصلون على أموالهم، والعمال لا يتقاضون أجورهم كاملة إن لم يكونوا عاطلين عما قريب، إضافة إلى أن الشركة المغلقة كانت بمثابة بائع أو مشترٍ لشركات أخرى، وهذا يعني أن إفلاس شركة واحدة يعرض البقية لخطر ما، ونرى هذا النوع من التأثير التسلسلي للإفلاس -على سبيل المثال- في صناعات البناء والتشييد أثناء أزمات الإسكان.
- بطالة العمالة أو الإجازات المرضية أو الحجر الصحي أو إجازات رعاية الطفل.
هي آخر -وربما أوضح- جوانب الاقتصاد تأثرًا بالأزمة، فعندما يخسر العمال وظائفهم -حتى لو كان لديهم تأمين بطالة أو مصدر آخر للدخل- يميلون لتقليل نفقاتهم على الأشياء الأقل ضرورة والقابلة للتأجيل، دوافع الاحتياط هذه قد تكون أقل ظهورًا عند العمال المحتفظين بعملهم وعلى قيد العطلة مؤقتًا، لكن –كما ذكرت- هذا النوع من العطلات غير مدفوع الأجر أو مدفوعة لمدة غير طويلة.
ماذا يتعين على الحكومة أن تفعل؟
لا بد أن يكون المبدأ الأساسي: “ترك الأنوار مضيئة”.
علمًا بأن الأزمة الاقتصادية (كوفيد19) قد اندلعت من جراء صدمة طبية ستنجلي، ولا يبدو أنه وباء مميت بالذات، فمع أن كثيرًا سيموتون وكل حالة وفاة هي مأساة لا شك، إلا أن الأمر لا يشبه الطاعون حيث القوة العاملة تندر بصورة ملحوظة كقاعدة دائمة. إذن المهم هو الحد من تراكم الندبات في نسيج الاقتصاد، أي تقليل عدد إفلاسات الأشخاص والشركات، إضافة إلى التأكد من أن الناس لديها من المال ما تنفقه حتى لو أُعفوا من العمل. من الفوائد الجانبية لذلك تعزيز العزل الصحي الذاتي، وهذا سيساعد في تقعير منحنى انتشار الوباء.
اقرأ ايضاً: لماذا نقرأ التراث في علم الاقتصاد؟
المصادر :
Baldwin, R (2009), The great trade collapse: causes, consequences and prospects, a VoxEU.org ebook, CEPR Press.
Baldwin, R (2020), “It’s not exponential: an economist’s view of the epidemiological curve”, VoxEU.org, 12 March.
Baldwin, R and B Weder di Mauro (2020). Economics in the Time of COVID-19, CEPR Press.
Bems, R, R Johnson and K-M Yi (2012), “The Great Trade Collapse”, Annual Review of Economics 5: 375-400.
Benassy-Quéré, A, R Marimon, J Pisani-Ferry, L Reichlin, D Schoenmaker and B Weder di Mauro (2020), “COVID-19: Europe needs a catastrophe relief plan,” VoxEU.org, 11 March.
BIS (2019), Annual Economic Report, Bank for International Settlements.
Debt.org (2020), Bankruptcy statistics.
IMF (2020), World Economic Outlook, January.
Mankiw, G (2010), Macroeconomics (7th edition), Worth Publishers.
[1] عنوان المقالة: Richard Baldwin. Keeping the lights on: Economic medicine for a medical shock. 13 March 2020.
تنبيه : ما بين معقوفتين من كلام المترجمة.
[2] أستاذ الاقتصاد الدولي في معهد الدراسات العليا، جينيف، مؤسس و رئيس تحرير VoxEU.org ، رئيس سابق ل CEPR.