- تأليف : د. مروة عازب – (أستاذ مساعد في علم النفس والتنمية البشرية في جامعة ولاية كاليفورنيا)
- ترجمة : أفنان نويد طيب
- تحرير : ناريمان علاء الدين
يعتبر الاكتئاب ثاني الأسباب الرئيسة للإصابة بالعجز في العالم، وقد يساعد عزل عوامل الوقاية والخطر على تقليل مدى انتشاره حول العالم. إحدى العوامل التي أثبتت زيادة خطر الإصابة بالاضطراب الاكتئابي هو إصابة أحد الوالدين أو كليهما به، وما يثير الفضول، هو أن بعض ذريات العائلات التي يجري فيها الاكتئاب لا تصاب بالاضطراب الاكتئابي، بينما تصاب أخرى دون أن يكون لديها أي تاريخ عائلي للمرض. لهذا، كان لا بد من وجود عوامل معرِّضة للمرض إضافة للعوامل الجينية. وإحدى المتغيرات التي اكتشفت حديثًا كعاملٍ واق هما التدين والروحانية. (ولتبسيط الأمر سأستخدمهما كمفردة واحدة في هذا المقال). ويعرفان في بعض الدراسات بمثابة الإيمان بأهمية الدين/الروحانية والاشتراك في الممارسات الدينية. هذا البعد هو عامل مُلهم يُشكّل عمليات تدريب وعي المرء. وبعض الدراسات أظهرت تأثير التدين على الاكتئاب.
قامت دراسة منظورية بتحليل مدى انتشار الاكتئاب عند 114 ذرية لآباء مصابين وغير مصابين بالمرض على مدى 10 أو 20 سنة من التقييم الاستطلاعي، وكانت واحدة من الدراسات ابتدأت عام 1982م وشملت ثلاثة أجيال. قامت الدراسة بقياس اضطرابات المزاج، والأهمية الشخصية للتدين/الروحانية، وتكرار حضور الخدمات الدينية. وكانت نسبة الإصابة بالاكتئاب عند المجموعات عالية الخطورة (التي كان أحد الوالدين على الأقل مصابًا بالاكتئاب) ضعف تلك التي ليست لديها أي والد مصاب بالمرض. وفي هاتين المجموعتين، كانت لدى الذريات التي أخبرت بأهمية التدين/الروحانية في الاستطلاع الأول، حوالي ربع الخطر للإصابة بالاضطراب الاكتئابي في الاستطلاع الثاني (بعد عشر سنوات). وبشكل مثير للاهتمام، كانت المجموعة التي استفادت من التدين، هي ذاتها صاحبة الخطورة، أي من كان أحد الابوين مصابًا بالاكتئاب. وفي هذي المجموعة، كان أولئك الذين اعترفوا بأهمية التدين، لديهم حوالي العُشر من نسبة خطورة الإصابة بالاضطراب الاكتئابي في العشر سنين اللاحقة مقارنة بأولئك الذين لم يؤمنوا بأهمية التدين. كان الأثر الاكثر ارتباطًا بالتدين يتعلق بتكرار الاكتئاب وليس بظهوره. هذه النتائج ليست شاذة، فتحاليل 147 دراسة (ما يسوي عدد98975) أظهرت وجود علاقة عكسية بين الاكتئاب والتدين.
ولكن، كيف؟ الاكتئاب هو اضطراب في الدماغ، لذا على العوامل المُحفزة والواقية أن تُظهر تغيرات في تركيبة الدماغ، من ناحية النشاط والاتصالات. فهل يفعل التدين ذلك؟
اقترح استطلاع حديث لعدد كبير من الدراسات بقوة أن الممارسات الروحانية قد تكون مرتبطة بتغييرات في الدماغ، ومنها الزيادة في مستويات هرمون السيروتونين. لكن،هل يستطيع التدين تحديدًا (إصلاح) الضمور الدماغي المرتبط بالاكتئاب؟
وجدت الدراسة المذكورة أعلاه مدى واسعًا من الضمور في بعض المناطق من قشرة الدماغ عند ذرية البالغين من ذوي الخطورة العالية مقارنة بذوي الخطورة المنخفضة.
إذًا، هل الإيمان القوي بأهمية التدين/الروحانية قادر على إنقاذ الضمور في قشرة الدماغ عند المجموعة عالية الخطورة ما يقلل من عودة الاكتئاب؟
لقد درس العلماء هذا لمدة خمس سنوات أخرى. وفحصوا العلاقة بين ضمور القشرة الدماغية والتدين، ووجدوا ما يلي: أولًا؛ كانت قشرة الدماغ أثخن عند المشاركين الذين قدروا أهمية التدين، سواء كان الخطر العائلي مرتفعًا أو منخفضًا. ثانيًا؛ كان الأثر أقوى وأكثر امتدادًا عند المجموعة ذات الخطورة المرتفعة مقارنة بذات الخطورة المنخفضة.
في استطلاع حديث لهذه الدراسة الممتدة على مدى ثلاثة أجيال، تم الإبلاغ عن وجود اختلافات أخرى في الدماغ. إذ قاموا بإظهار قوة أثر التدين على مستوى التركيب المجهري والتشريحي للدماغ. حيث استخدم الباحثون التصوير مصفوف الانتشار لدراسة المادة البيضاء(اتصالات الدماغ) في أدمغة الأفراد ذوي الخطورة العالية والمنخفضة كوظيفة لكيفية تقييمهم لأهمية التدين. وإحدى الاستنتاجات الجديرة بالملاحظة في هذه الدراسة، أن الإيمان بأهمية التدين يقلل من اختلافات الدماغ بين المجموعتين عالية الخطورة ومنخفضتها. كمثال، بدأت أدمغة أولئك الذين في خطورة عالية بسبب التاريخ العائلي بالظهور بشكل مشابه لخاصة أولئك من ذوي الخطورة المنخفضة لحدوث الاضطراب الاكتئابي.
في المختصر؛ يبدو أن التدين/الروحانية قد يعطيان المرونة في تطور/تكرار نوبات الاكتئاب لدى الأفراد عمومًا، وعند ذوي الخطورة العالية خاصة. ربما تكون هذه المرونة نتيجة للعلاقة بين التدين وسُمك القشرة الدماغية، البنية الكلية والروابط الدماغية، أو نتيجة تدفق الدم بشكل أفضل إلى مناطق الدماغ المرتبطة بالاكتئاب. ومازال العلماء يعملون لاكتشاف المزيد من العوامل الوقائية في هذا المجال.