- تأليف : محمد بن عبدالله القرني
- تحرير : عائشة السلمي
لو سأل سائلٌ : ما الخطر الأعظم على الإسلام في هذا الزمان ؟
فلا ريب أن الإجابة الصحيحة هي المشيرة إلى الخصم الجامع خصلتين :
الأولى : أن يكون أشدَّ أعداء الإسلام مناقضةً له في الاعتقاد والعمل .
والثانية : أن يكون أقدرهم على محاربته بالقوة الخشنة والناعمة .
والناظر إذا سعى لتحقيق مناط هذه الإجابة فإنه يُدرك بقصير التأمل أن العالمانية هي أجدر أعداء الإسلام بهاتين الخصلتين , وغرض هذه المقالة في جزأين تأكيد كون العالمانية الأجدرَ بالخصلة الأولى(1) .
وإذا افترض القارئ الكريم أن المسيحية واليهودية هما الخصم الأول للإسلام ( فالمسيحية لم تعد – ومنذ زمنٍ بعيدٍ – الآخرَ المواجه للإسلام .. الثقافةُ التي تهدِّد المجتمع المسلم ليست مسيحيةً ولا يهوديةً , إنها ثقافةُ استهلاكٍ واتصالاتٍ عالميةٍ ثقافةٌ علمانيةٌ ملحدةٌ , وخاويةٌ لا تحمل في ثناياها قيمًا أو استراتيجيةً ، ولكنها موجودةٌ قائمةٌ هنا الآن .. )(2) وإذا كان لا ريب في خطورة المعركة البينية الدائرة بين أهل السنة ومخالفيهم ؛ في سبيل التحقُّق الصحيح بالإسلام , كما لا ريب في خطورة المعركة الإثنية القائمة بين الإسلام والأديان الأخرى ؛ في سبيل التحقُّق الصحيح بالدين = فإن هاتين المعركتين – رغم خطورتهما – أهون من المعركة الكونية التي يخوضها الإسلام ضد العالمانية الدنيوية , في سبيل التحقُّق الصحيح بالواجب العلمي والعملي على الإنسان في هذه الحياة .
بل أكثر من ذلك ، وهو أن المسيحية واليهودية إن كانتا تقفان مع العالمانية ضد الإسلام من وجهٍ , فإنهما تقفان مع الإسلام ضد العالمانية في خندقٍ واحدٍ من وجهٍ آخر = هو الدفاع عن الرؤية الدينية للعالم .
وذلك ( .. لأن الخطر القائم اليوم لا يحيق بأحد أشكال العقيدة المسيحية أو المبادئ الإسلامية , بل يحيق بحرية الإنسان الروحية نفسها , أي حقُّه في أن يؤمن بوجود الله , وأن يشكِّل حياته وفقًا لهذا الإيمان )(3) .
وقد نخرت العالمانية في المسيحية واليهودية نخرًا شديدًا ، وأحدثت فيهما شروخًا عميقةً جدًّا ، واستولت على كثيرٍ من مساحات التأثير التي كانت متاحةً للرؤية الدينية في الغرب ، وهو ما لم يخضع الإسلام لويلاته .
فإذا كانت العالمانية الآن هي الخطر الأعظم على الإسلام ، فإن الإسلام كذلك هو الخطر الأعظم على العالمانية ( إن الإسلام .. هو الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة , ليس لسببٍ سوى أنه الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحدٍّ فِعليّ وحقيقيٍّ للثقافة العلمانية الغربية )(4) .
وهي خطورةٌ يمكن فهمها في العالم الإسلامي على أنها تضخمٌ توسعيٌّ لسؤال النهضة المؤرِّق عن إشكالية (التراث/الحداثة) , فهي الآن ( قضية العصـر )(5) و( مسألة القرن الحادي والعشرين بدون أدنى شك )(6) .
ويمكن القول ( إن مسألة العلمانية وما يرتبط بها من مفاهيم كالحداثة والديمقراطية , ثم ما تلا ذلك من مفاهيم جديدةٍ كالعولمة وما بعد الحداثة .. هي من أهمِّ ما يواجه الوعي السياسي العربي الإسلامي من تحديات . وليس من المبالغة في شيءٍ الزعم أن أغلب ما تتداوله ألسنة النخبة العربية الإسلامية ومعظم ما تخطُّه أقلامها , لا يخرج عن دائرة هذه القضايا .. )(7) .
كما يمكن فهمها في الغرب بصفتها صراعًا إيديولوجيًّا ؛ وذلك لأنه بعد سقوط النظام الشيوعي لم يبق أمام الغرب خصمٌ إيديولوجيٌّ خطيرٌ غير الإسلام(8) .
والصـراع بين الإسلام والعالمانية لا يرتبط بظروفٍ وقتيةٍ عابرةٍ , أو خلافاتٍ جزئيةٍ يمكن تجاوزها , أو معارضةٍ في إحدى الكليِّات , بل هو صراعٌ مشدود العُرى بالأصول المنهجية الكبرى في الاعتقاد والعمل عند طرفي الصـراع , فهي معركةٌ جذريةٌ صِفريةٌ , في أصل الموقف من الوجود , ومن المعرفة , ومن القيم(9) .
وسبب كونها كذلك : التناقضُ الصارخ في المرجعية بين الإسلام والعالمانية الذي تفشل معه جميع محاولات أسلمة العالمانية أو علمنة الإسلام فشلاً قاطعًا منطقًا وواقعًا , وكيف لا تفشل وهو صراعٌ بين هويةٍ دينيةٍ وهويةٍ حداثيةٍ(10) , بين حضارةٍ ربانيةٍ وحضارةٍ غربيةٍ(11) , بين إنسانٍ عموديٍّ وإنسانٍ أفقي(12) ؟
فما مرجعية الإسلام ؟ وما مرجعية العالمانية ؟
يمكن القول بإيجازٍ إن مرجعية الإسلام ربانيةٌ مستندها الوحي الإلهي , وإن مرجعية العالمانية إنسانيةٌ مرجعها العقل البشـري(13) . وهذا الفرق بين المرجعيتين تعود إليه جميع الفروقات بينهما في القضايا النظرية والعملية , وتتأسس عليه مواقفهما المعرفية والأخلاقية المختلفة (14) .
وينبغي فهم أن النظر في معركة المرجعيات بين (الإلهي/الإنساني) يمكن معالجته من وجوهٍ مختلفةٍ باعتباراتٍ متنوِّعةٍ , لكنه اختلاف التنوُّع لا التضاد .
فيمكن أولاً استحضار معركة المرجعية عند دراسة الفكر الغربي في جملته وهنا يكون الخصم الأول المقابل للعالمانية هو المسيحية .
إذ الفكر الأوروبي ( ثمرة نضالٍ بين رؤيتين للعالم , واحدةٌ إغريقيةٌ , وأخرى يهوديةٌ – مسيحيةٌ , هما في مواجهةٍ مستمرةٍ منذ بدايات الامبراطورية الرومانية ولا تنفكَّان تتجابهان . إن الثقافة الأوروبية هي وليدة هذا الصراع .. )(15) .
وهذا يُوجب على قارئ الفكر الغربي الحديث استحضار هذه المقدمة المنهجية المهمة جدًّا ؛ ومعرفة أنه بالنسبة للغرب فإن ( .. الثقافةَ الحديثةَ ككلٍّ .. مجالٌ لصـراعٍ هائلٍ بين وجهتين من النظر – تختلفان اختلافًا جذريًّا – عن العالم .. وتاريخ هذا الصراع هو تاريخ الفكر الحديث )(16) .
ويمكن ثانيًا استحضار معركة المرجعية في قسمةٍ ثلاثيةٍ ، يقع التفصيل فيها بشأن الرؤية الدينية بين مستويين :
الأول : الدين الشمولي ، وهو الإسلام .
والثاني : الدين المختزل ، وهو المسيحية .
وهو التقسيم الذي ابتدأ به علي عزَّت كتابه (الإسلام بين الشـرق والغرب) فقال ( هناك فقط ثلاث وجهاتٍ من النظر متكاملةٍ عن العالم , هي : النظرة الدينية والنظرة المادية , والنظرة الإسلامية .. تتمثَّل كلٌّ منها على التوالي في المسيحية والمادية والإسلام )(17) وذكر أن مقصوده بالنظرة الدينية : اعتبار الدين تجربةً فرديةً وجدانيةً خاصَّةً مع الله تعالى , وهو ما لا ينطبق على الإسلام(18) .
مع التنويه إلى أنَّ هذا التفسير الاختزالي للمسيحية هو القدر المشترك بين العالمانيين العرب بمختلف درجاتهم في موقفهم من الإسلام (19) .
ويمكن ثالثًا استحضار معركة المرجعية في قسمةٍ ثلاثيةٍ كذلك , لكن يقع التفصيل فيها بشأن الرؤية العالمانية بين مستويين :
الأول : العالمانية الشمولية .
والثاني : ما بعد العالمانية .
وخلاصة الرؤية ما بعد العالمانية تقول : إن التفسيرات العقلانية التي قطعت بأن الدين وهمٌ صائرٌ للزوال – كتفسيرات فرويد وماركس ونيتشة وغيرهم – ثبت عدم صحتها ؛ وذلك لبروز ظاهرة (عودة الديني) واستمرارها في العالم الغربي مما يوجب تجاوز هذه التفسيرات الإيديولوجية الوثوقية , والبحث عن تفسيرٍ جديدٍ يحافظ على المكتسب العقلاني (كما يزعمون) من وجهٍ , ويضع للدين تكييفًا مناسبًا في المجتمع الغربي من وجهٍ آخر , فهي رؤيةٌ تنصُّ على أنها لا تلغي العالمانية , لكنها فقط تسعى لتجاوز أغلاطها الإيديولوجية(20) .
وثمَّة تقسيماتٌ أخرى , لكن هذه أهمُّ التقسيمات .
وإذا تبيَّن هذا الافتراق المنهجي العميق بين الإسلام والعالمانية فإنه يمكن ختم هذه المقالة الموجزة بمسألةٍ شديدة الأهمية , وهي : أن التبرير الموضوعي لوجود الدين في حياة البشر يستند إلى مبدأ التعالي , وهو المبدأ الذي ترفضه العالمانية وتأخذ بنقيضه الاختزالي , ويمكن القول إن الصـراع بينهما في هذه المسألة يدور حول مجالين كبيرين , تعود إليهما جميع القضايا الخلافية بين الرؤيتين :
المجال الأول : الفردي , وهو يحتاج التعالي لتحصيل معنى الوجود .
المجال الثاني : الاجتماعي ، وهو يحتاج التعالي لتدبير قواعد الحياة المشتركة .
والمفترض في الدين الشامل الكامل أن يقدِّم تعاليمه الضامنة للحقيقة والسعادة في هذين المجالين , يقول برتراند رسل ( وللدين ناحيته الشخصية , وناحيته الاجتماعية .. والدين لا يصبح قوةً رهيبةً في تكييف المجتمع إلا عندما تندمج ناحيتاه هاتان اندماجًا خالصًا )(21) .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كون التبرير الموضوعي لوجود الدين يرجع إلى هذين الأمرين بقوله ( كلُّ طائفةٍ من بني آدم لا بدَّ لهم من دينٍ لهذين الأمرين : لحاجة نفوسهم إلى الإله الذي هو محبوبٌ مطلوبٌ لذاته , ولأنه ينفع ويضـرُّ ولحاجتهم إلى التزام ما يحبُّونه من الحاجات , ويدفعونه من المضرَّات )(22) .
وتحقُّق الإسلام بهذين الأمرين تحقُّقًا تامًّا , ومتوائمًا مع العقل والفطرة , هو الذي رغَّب (روجيه جارودي) – الذي ذاق طعم الإلحاد – في الإسلام .
يقول ( (التعالي) و(الجماعة) هما الإسهام الذي يمكن للإسلام أن يقدِّمه لابتكار مستقبلٍ ذي وجهٍ إنسانيٍّ , في عالمٍ أدَّى فيه استبعاد المتعالي , وتحطيم الجماعة بالفردية , وإتباع نموذجٍ جنونيٍّ للنمو , إلى واقعٍ لا يُعاش .. )(23).
وبيَّن شدة حاجة الغرب إلى هذين الأمرين بقوله ( التعالي والجماعة هما على وجه الدقة البُعدان الإنسانيان والربَّانيان اللذان يحتاج إليهما الغرب في هذه الأيام حاجةً ماسَّة )() وأن الإسلام هو وحده المتحقِّق بهما ( إن هدفنا الأخير هو أن نبيِّن للغربيين كيف أن الإسلام بإعادته إلى الإنسان والمجتمع بُعديهما الإلهيين التعالي والجماعة (وفق المثال الذي قدَّمه النبيُّ في المدينة) يمكنه وحده اليوم أن يشقَّ طريقًا إلى المستقبل , غير الطريق المسدودة الأمريكية والاستبدادية السوفياتية )() .
والتأسيس الشرعي لهذه القضية هو ما ذكره العلماء من أن دين الإسلام يقوم على أصلين , يرجع إلى الأول منهما مبدأ التعالي , ويرجع إلى الثاني مبدأ الجماعة .
قال شيخ الإسلام ( ودين الإسلام مبنيٌّ على أصلين : أن نعبد الله وحده لا شريك له , وأن نعبده بما شرعه من الدين , وهو ما أمرت به الرسل .. )(24) قال ( وهذان الأصلان هما تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمدًا رسول الله) )(25) ولا يخفى على القارئ كيفية رجوع مبدأي التعالي والجماعة إلى هذين الأصلين .
وإذا كان الدين ( يستدعي الاعتماد على سلطةٍ متعاليةٍ , والعلمانية رفضت مثل هذه السلطة من خلال التأكيد عل استقلال الإنسان )(26) فما الذي نتج عن ذلك ؟
نتجت أزمةٌ حادَّةٌ جدًّا !!
وستكون المقالة الثانية – بإذن الله – في الحديث عن هذه الأزمة التي لا تزال تعاني منها الحضارة الغربية العالمانية إلى الآن .
انتقل الى: معركة المرجعية بين الإسلام والعالمانية (2/2)
الهوامش :
(1) لا حاجة للاستدلال على (الخصلة الثانية) , أي طغيان الغرب العالماني على العالم الإسلامي .
(2) تجربة الإسلام السياسي (ص193) , أوليفيه روا , تر. نصير مروة , دار الساقي.
(3) هذه شريعتنا (ص138) , محمد أسد , تر. شكري مجاهد , منتدى العلاقات العربية والدولية .
(4) الإسلام في عيونٍ غربية (ص55) , محمد عمارة , دار الشروق .
(5) الأصولية والعلمانية (ص5) , مراد وهبة , دار الثقافة .
(6) الهوامل والشوامل , محمد أركون (ص25) , تر. هاشم صالح , دار الطليعة .
(7) آراء جديدة في العلمانية والدين والديمقراطية (ص7) , رفيق عبد السلام , مركز صناعة الفكر .
(8) انظر مثلاً : نهاية التاريخ والإنسان الأخير (ص71) , فوكوياما , (فريق ترجمة) , مركز الإنماء القومي .
(9) انظر مثلاً : الأسس الفلسفية للعلمانية (ص6) , عادل ظاهر , دار الساقي .
(10) انظر : الفكر الأصولي واستحالة التأصيل (ص227) , محمد أركون , تر. هاشم صالح , دار الساقي .
(11) انظر : أزمة العالم الحديث (ص73) , رينيه جينو , تر. أسامة شفيع السيد , مركز نماء .
(12) انظر : روح الدين (ص14/30) , طه عبد الرحمن , المركز الثقافي العربي .
(13) انظر مثلاً : النظام المعرفي في الفكرين الغربي والإسلامي , عبد العزيز بوالشعير , منتدى المعارف .
(14) انظر مثلاً : النموذج البديل (ص15 – 210) , أحمد داود أوغلو , الشبكة العربية للأبحاث والنشر .
(15) مغامرة الفكر الأوروبي (ص17و18) , جاكلين روس , تر. أمل ديبو , دار كلمة .
(16) الدين والعقل الحديث (ص166) , ولتر ستيس , تر. إمام عبد الفتاح إمام , مكتبة مدبولي .
(17) الإسلام بين الشرق والغرب (ص27) , علي عزت , تر. محمد يوسف عدس , مؤسسة العلم الحديث .
(18) المرجع السابق ونفس الصفحة .
(19) انظر مثلاً : العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (1/67 – 99) عبد الوهاب المسيري , دار الشروق .
(20) انظر : قوة الدين في المجال العام (مجموعة حوارية) , تر. فلاح رحيم , دار التنوير . والدين في عالمنا (مجموعة حوارية) تر. محمد الهلالي وحسن العمراني , دار توبقال للنشر .
(21) نحو عالمٍ أفضل (ص156) , برتراند رسل , تر. دريني خشبة , المركز القومي للترجمة .
(22) جامع الرسائل (2/231) , تحقيق محمد رشاد سالم , دار المدني .
(23) الإسلام وأزمة الغرب (ص14/29/38) , جارودي , تر. رفيق المصري , عالم المعرفة .
(24) مجموع الفتاوى (1/189) , تحقيق عبد الرحمن قاسم .
(25) المرجع السابق (1/333) .
(26) هل النقد علماني ؟ ( مجموعة حوارية) والكلام لطلال أسد (ص43) , تر. إبراهيم الفريح , جداول .