عام

عن النساء لشوبنهاور

Über die Weiber

ترجمها وحشاها: نواف البيضاني

أفضلُ – في رأيي – من قصيدةِ شيلر المحسوبةِ بميزان الدقّة، القائمةِ على صنعةِ التضادّ والمقابلة، والتي سمّاها «كرامة النساء»، تلك الكلماتُ القليلةُ لجوي [1]Jouy، الكلماتُ التي تُعبّر – أصدقَ ما يكون التعبير – عن المديح الحقّ للنساء:

لولا النساء، لكان مطلعُ حياتنا دون سند، ووسطها دون لذّة، وخاتمتُها دون عزاء.sans les femmes, le commencement de notre vie seroit privé de secours, le milieu de plaisirs, et la fin de consolation.

ويُعبّر بايرون [2]Byron عن هذا المعنى نفسه بلهجةٍ أدفأ وأشدّ عاطفةً، في مسرحيته Sardanapalus «سردانابال»، في الفصل الأول، المشهد الثاني، إذ يقول::

إنّ أولَ خيطٍ من حياة الإنسان ينبثق من صدر المرأة،
ومن شفتيها تتعلم أولى نبساتك المتعثرة،
وبيدها تُطفأ دمعتُك الأولى، وبقربها تفيض زفرتك الأخيرة،
حين يفرّ الرجال من ثِقَل ذلك الواجب المُتعب
واجبِ السهر على اللحظة الأخيرة لمن كان لهم قائدا.
In the very first
Of human life must spring from woman’s breast,
Your first small words are taught you from her lips,
Your first tears quench’d by her, and your last sighs
Too often breathed out in a woman’s hearing,
When men have shrunk from the ignoble care
Of watching the last hour of him who led them.

إنّ النساء مهيّآتٌ بطبيعتهنّ للقيام بدور المربّيات والمعلّمات في طفولتنا الأولى؛ لأنهنّ أنفسهنّ طفولياتٌ، نزِقات، وقصيراتُ نظر. بكلمة واحدة: هنّ أطفالٌ كبار طوال حياتهنّ، طبقةٌ وسطى بين الطفل والرجل التامّ النضج، الذي هو الإنسان بالمعنى الكامل للكلمة.
انظر كيف تُدلّل الفتاةُ طفلًا أيّامًا طويلة، وتلاعبه، وترقص به وتغنّي له؛ ثم فكّر ماذا يستطيع الرجل — ولو كانت نيّته في أحسن حال — أن يفعل لو وُضع في مكانها.

لقد قصدت الطبيعةُ – في شأن الفتيات – إلى ما يسمّى في لغة الدراما knalleffekt «الأثرَ الصاعق»، فوهبتهنَّ – لسنوات قليلة فقط – جمالًا فائضًا، وسحرًا طاغيًا، وامتلاءً آسرًا، على حساب بقية أعمارهنّ كلّها. أرادت بذلك أن يستحوذن، في تلك السنوات القصيرة، على خيال الرجل إلى الحدّ الذي يدفعه لأن يُلقي بنفسه، طوعًا، في تحمّل مسؤولية العناية بهنّ مدى الحياة، وبأيّ صورة من الصور، مخلصًا في ذلك كلّه؛ إذ بدا للطبيعة أنّ التعويل على مجرد التفكير العقلاني من الرجل لا يكفي ضمانًا لاتخاذ مثل هذا القرار.
وهكذا سلّحت الطبيعةُ المرأةَ، كما سلّحت كلَّ مخلوقٍ من مخلوقاتها، بالأسلحة والأدوات التي يحتاجها لحفظ وجوده، وفي الوقت الذي يحتاجها فيه، وهي في هذا تمضي على عادتها في الاقتصاد والتقتير. فكما أن النملة الأنثى تفقد أجنحتها — بعد التزاوج – تلك الأجنحة التي تغدو بعد ذلك زائدةً، بل خطرةً على مهمّتها في التفريخ، كذلك تفقد المرأة – في الغالب – جمالها بعد ولادةٍ أو ولادتين، ولعلّ العلّة هي ذات العلّة.

وبناءً على ذلك، ترى الفتياتُ أن أعمالهنّ المنزلية أو المهنية ليست إلا شأناً ثانويًا في قلوبهنّ، وربما رأينها نوعًا من اللعب؛ أمّا العملُ الجادُّ الوحيد عندهنّ فهو: الحب، والانتصارات العاطفية، وما يتّصل بذلك من تزيّن ورقص وما إلى ذلك.

كلما كان الشيء أرفعَ شأنًا وأكملَ طبيعةً، طال زمانُ وصوله إلى النضج وتأخّر. فالرجل لا يبلغ نضجَ عقله وقواه الروحية قبل الثامنة والعشرين، أمّا المرأة فتبلغه عند الثامنة عشرة. ولكن ذلك أيضًا نضجٌ على قدره: نضجٌ محدود جدًا. ولهذا تبقى النساء طوال حياتهنّ كالأطفال؛ لا يرَين إلا الأقرب، ويتشبّثن بالحاضر، ويأخذن ظاهر الأشياء بدل حقيقتها، ويُقدّمن الصغائر على أعظم المهمّات.

فالعقل – في حقيقته – هو الذي يمكّن الإنسان من ألّا يعيش، كالحيوان، في الحاضر وحده، بل من أن يلحظ الماضي والمستقبل ويحسب حسابهما؛ ومن هذا ينشأ حذره، وقلقه، وكثرة همومه.
ومن مزايا هذا الأمر ومساوئه معًا، تشترك المرأة – لضعف عقلها – بنصيبٍ أقلّ؛ بل هي كقصير البصر روحيًا: عقلها الحدسيّ يرى القريب رؤية واضحة، لكنه لا يرى ما وراءه، ولهذا فإنّ كلّ ما هو غائب أو ماضٍ أو آتٍ، لا يؤثّر فيها بالقدر الذي يؤثّر فينا.

ومهما حمل ذلك من عيوب، فإنّ له ميزةً واحدة: أنّ المرأة تنغمس في الحاضر أكثر منا، وتستمتع به متى كان محتملًا، ومن هذا تنشأ البهجةُ الخاصة بالنساء، تلك التي تجعلها مُهيّأة بطبيعتها لأن تكون بلسماً لنفس الرجل المرهَق بالهموم.

ومن المصدر نفسه يمكن استنتاجُ أنّ النساء يُظهرن شفقةً أكبر، ومن ثَمّ محبةً للناس ومشاركةً في مصاب المنكوبين أكثر مما يفعل الرجال؛ أمّا في باب العدل، والاستقامة، والضمير، فهنّ دونهم مرتبة.
فنتيجةً لضعف عقولهنّ، يمارس الحاضرُ، والمُشاهَدُ الحسّي، والواقعيّ المباشرُ سلطانًا على نفوسهنّ، لا تقوى أمامه الأفكارُ المجرّدة، ولا المبادئُ الثابتة، ولا القراراتُ الراسخة، ولا الاعتباراتُ المتعلقة بالماضي والمستقبل، وبما هو غائب وبعيد؛ وهذه كلّها نادرًا ما يكون لها تأثيرٌ قويّ عليهنّ.وبناءً على ذلك، فمع أنّهن يمتلكن من الفضيلة أوّلها وجوهرها، فإنهنّ يفتقرن إلى الجزء الثانويّ منها، إلى الأداة التي تكون – في كثيرٍ من الأحيان – ضرورية لتحقيق الفضيلة. ويمكن تشبيههنّ، في هذا الاعتبار، بكائنٍ حيٍّ له كبدٌ ولكن ليست له مرارة. وأُحيل في هذا الصدد إلى الفقرة (17) من رسالتي في أساس الأخلاق. – ووفقًا لذلك، سيُرى أنّ العيب الأساسي في الطبع النسوي هو: الظلم.وينشأ هذا العيب بدايةً من نقص التعقل والتفكير الذي بُيّن آنفًا، ويزداد أيضًا لأنّ المرأة – بوصفها الأضعف -لم تعتمد عليها الطبيعة في القوة، بل في الحيلة؛ ومن هنا مكرُها الغريزيّ وميلُها الذي لا يُمحى إلى الكذب.
فكما جهّزت الطبيعةُ الأسدَ بالمخالب والأنياب، والفيلَ بالأنياب العاجية، والخنزيرَ البرّيَّ بالنابين، والثورَ بالقرون، والحبّار بالحبر الذي يعكّر الماء، كذلك زوّدت المرأةَ بقدرةٍ على التمثيل والتخفي، سلاحًا تحتمي به وتدافع به عن نفسها؛ وقد حوّلت الطبيعةُ إلى هذه الموهبة كلّ القوة التي منحتها الرجلَ في هيئة قوةٍ جسدية وعقلٍ راجح.ولذلك فالتصنّع فطرةٌ فيها؛ وهو قائمٌ لدى المرأة الغبية كما هو لدى المرأة الذكية. واستعمالُها له عند كلّ مناسبة أمرٌ طبيعيّ لها، كما أنّ استعمال الحيوان لسلاحه عند الهجوم طبيعيّ له.
ولهذا، فإن وجود امرأةٍ صادقة تمامًا، غير متصنّعة، ربما يكون أمرًا مستحيلًا. ومن هذا السبب عينه تكتسب النساءُ قدرةً على كشف تصنّع الآخرين بسهولة، حتى إنه لا يكون من الحكمة محاولة ذلك معهنّ. !
ومن هذا العيب الأساسيّ، وما يتبعه، ينشأ: الكذب، وقلة الوفاء، والخيانة، وكفران الجميل، وما إلى ذلك.

إنّ العناية بتكاثر الجنس البشري قد خصّت الطبيعةُ بها الرجالَ الشباب الأقوياء الجميلين، لكي لا يفسد الجنس ولا ينحطّ. وهذا هو – في هذا الباب – الإرادة الثابتة للطبيعة، ويظهر تعبيرها في شهوات النساء. وهذا القانون يتقدّم، من حيث السنّ والقوة، على كلّ قانون آخر. ولهذا فويلٌ لمن يجعل حقوقه ومصالحه في موضعٍ يعترض سبيل هذا القانون؛ فستُسحق تلك الحقوق والمصالح بلا رحمة عند أول مناسبة ذات شأن، مهما قال أو فعل.فإنّ الأخلاق الخفية عند النساء – غير المنطوقة، بل غير الواعية، ولكن المجبولة فيهن – هي: «نحن نملك الحقّ في خيانة الذين يتوهّمون أنهم – بما يبذلونه لنا، نحن الأفراد، من عناية قليلة – قد اكتسبوا حقًا على النوع. إنّ طبيعة النوع، ومن ثمّ صلاحُه في الجيل التالي، قد جُعل في أيدينا ووُكِل إلى رعايتنا، ونحن نريد أن نؤدي ذلك بأمانة».غير أنّ النساء لا يَدرِكن هذا المبدأ الأعلى إدراكًا مجرّدًا، بل إدراكًا واقعيًا فقط، ولا يملكن له تعبيرًا سوى سلوكهنّ حين تأتي المناسبة؛ وفي هذا السلوك يجدن ضميرهنّ أكثر راحة مما نظن، إذ يشعرن – في أعمق أعماق قلوبهن – بأنهن، حين يُقصّرن في الواجب نحو الفرد، يحقّقن بصورة أفضل الواجبَ نحو النوع، وهو واجب أعظمُ بما لا يقاس.والتفصيل الأقرب لهذا الأمر أورده في الفصل الرابع والأربعين من المجلد الثاني من كتابي الرئيسي.

من حيث الطبيعة بين الرجال فلا يوجد إلا اللامبالاة؛ أمّا بين النساء فالطبيعي أن توجد عداوة قائمة. ولعلّ ذلك لأنّ الحسد المهني (odium figulinum)، الذي يقتصر عند الرجال على كلّ طائفة أو صنعة بعينها، يشمل عند النساء الجنسَ كله، لأنهن جميعًا لا يشتغلن إلا بمهنة واحدة.

بل إنّ المرأة، حين تلتقي بأخرى في الطريق، تنظر إليها كما ينظر الݠويلفي والݠيبيلّيني[1] أحدهما إلى الآخر. وكذلك إذا تعرّفت امرأتان للمرة الأولى، تتقدّم كلٌّ منهما إلى الأخرى بقدرٍ ظاهر من التكلّف والتصنّع، أكثر مما يفعل رجلان في الموقف نفسه. ومن هنا فإنّ المجاملات بين امرأتين تبدو أكثر سخريةً بكثير مما تبدو بين رجلين.

ثم إنّ الرجل، حتى إذا كلّم من هو أدنى منه كثيرًا، يتحدث إليه – في الغالب – بشيء من الاعتبار والإنسانية؛ أمّا منظرُ المرأة الرفيعة وهي تخاطب امرأة أدنى منها (لا تكون في خدمتها) فشيء لا يُحتمل، لما فيه – في الغالب – من الكِبْر والقسوة.

ولعلّه من ذلك أنّ اختلاف المراتب بين النساء أكثر تعرّضًا للاضطراب من اختلافها بين الرجال، وهو أشدّ قابلية للتغيّر والزوال؛ إذ بينما تؤثّر عند الرجال مئةُ أمرٍ في ميزان المكانة، لا يحسم الأمرَ عند النساء إلا شيء واحد، وهو: لأيّ رجلٍ قد راقَت. وكذلك لأنهن – بسبب انحصار دورهنّ في جانب واحد – أقرب بعضُهنّ إلى بعضٍ مما الرجالُ بعضُهم إلى بعض، ولهذا يسعين إلى إبراز الفروق الطبقية بينهن.

وبقدرٍ أكبر مما قد نسمّيه “الجمال”، يمكن – على وجه أليق – وصف الجنس النسائي بأنّه “غير جمالي”. فلا النساء في الموسيقى، ولا في الشعر، ولا في الفنون التشكيلية يمتلكن حسًّا حقيقيًا صادقًا أو قابلية فطرية أصيلة؛ وما يظهر منهنّ من تظاهُر بهذه الفنون ليس إلا محاكاةً خاوية، غايتها إرضاءُ حبّ الظهور. وقد قال روسو من قبل: النساء، بوجهٍ عام، لا يحببن فنًّا، ولا يعرفن فنًّا، ولا يمتلكن عبقرية لأيّ فنّ (رسالة إلى دالامبير، الهامش العاشر). وكلُّ من تجاوز القشور يدرك هذا بنفسه. ويكفي أن تُراقَب جهةُ اهتمامهنّ وطريقة إصغائهنّ في الحفلات الموسيقية والأوبرا والمسرح؛ ففي أسمى المقاطع وأجملها في أعظم الأعمال الفنية تراهنّ يُواصلن ثرثرتهنّ بطفولةٍ ساذجة. وإن كان الإغريق – حقًا – لم يُدخِلوا النساءَ إلى المسارح، فقد كانوا محقّين في ذلك؛ فعلى الأقل كان المرء يستطيع أن يسمع ما يقال على الخشبة.

ولا يُنتظر من النساء غير هذا، إذا تذكّر المرء أنّ أنبه العقول في جنسهنّ كلّه لم تُخرِج قطُّ عملاً واحدًا حقًّا كبيرًا، أصيلًا، وذا قيمة فنية راسخة في الفنون الجميلة؛ بل لم تنتج يومًا أثرًا واحدًا بقي بقاءً حقيقيًا. وهذا يوافقه تمامًا أنّ النساء العاديات لا يمتلكن حتى القدرة الصادقة على التذوّق الفني؛ فالطبيعة لا تقفز قفزات. والاستثناءات الفردية والجزئية لا تبدّل حقيقة الأمر. فالنساء، في مجموعهنّ، يظللن أبعدَ الناس عن الذوق الرفيع – وأشدّهم استعصاء على الإصلاح. ولهذا، فإنّ النظام الأعوج الذي يمنح المرأة رتبة الرجل ولقبه يجعلها الدافع الدائم لطموحه الوضيع، ويجعل -بالمعنى نفسه – تسلُّطها وإملاءها للذوق العام سببًا مباشرًا في فساد المجتمع الحديث. وقد قال شامفور [4]Chamfort قولًا صادقًا: هُنّ مخلوقات للتعامل مع ضعفنا وحماقتنا، لا مع عقلنا، إذ بينهنّ وبين الرجال توافقاتٌ على سطح الجلد، ولكن قليلًا جدًّا من التوافق في العقل والروح والطبع.

وهكذا كان القدماء، وكذلك أممُ الشرق، ينظرون إلى النساء ويعطونهنّ المنزلة التي تلائمهنّ، نظرةً أصدق وأقوم من نظرتنا نحن، مع مجاملاتنا النساء الفرنسية القديمة الرقيقة تجاه ، وعبادتنا السخيفة للنساء – وهي أزهى مظاهر الغباوة الجرمانية المسيحية – التي لم تجر إلا على النساء التكبرَ وانعدام المبالاة، حتى ليخطر للمرء – أحيانًا – شبهٌ بينهنّ وبين قرَدة بنارس [مدينة هندية] المقدّسة، التي تُطلِق لنفسها كلَّ شيء، واثقةً بقداستها وحصانتها.

في هذا الجزء من عالمنا الذي يقوم على الزواج الأحادي، يكون الزواج — بطبيعته — أن يُنصِّف الرجلُ حقوقه، ويُضاعِف واجباته. غير أنّه ما دامت القوانين قد ساوت بين المرأة والرجل في الحقوق، فكان ينبغي لها — عدلًا — أن تمنح المرأة عقلًا كعقل الرجل. وكلّما تجاوزت الحقوق والامتيازات التي تُقرّها القوانينُ للمرأة حدودَ طبيعتها، قلَّ عدد النساء اللواتي يُصبِحن أهلًا للانتفاع بتلك الامتيازات، وانتُزع من سائر النساء من حقوقهنَّ الطبيعية بقدر ما زِيدَ لأولئك منهنّ.

ولأنّ الزواج الأحادي، وما يصحبه من قوانين، يُقيم المرأة في منزلةٍ أعلى من منزلتها في الطبيعة، فإنّ الرجال العقلاء، الحذرين، كثيرًا ما يتردّدون في أن يقدّموا تضحيةً عظيمة كهذه، وأن يُقدموا على عهدٍ يختلّ فيه ميزان العدل هذا الاختلال، ولهذا، بينما تجد كلّ امرأةٍ عند الشعوب التي تُبيح التعددَ من يكفلها، ترى الحال في الشعوب الأحادية أن عدد النساء المتزوجات محدود، ويبقى وراءه عدد كبير من النساء بلا سند: فنساء الطبقات العالية يتحوّلن إلى عوانس لا نفع فيهن، ونساء الطبقات الدنيا يثقل عليهنّ من العمل ما لا يطقنه، أو ينتهي بهنّ الأمر بناتِ هوى يعشن حياةً لا سرور فيها ولا كرامة؛ ومع ذلك يَغدون – في مثل هذه الظروف – حاجةً لازمة لإرواء رغبات الرجال، فيظهرن طبقةً يعترف بها المجتمع صراحة، مهمتها حماية النساء اللواتي وُفِّقن إلى الزواج، أو يرجون ذلك، من الفتنة والانزلاق.

وفوق هذا، فإنّ منح المرأة حقوقًا «غير طبيعية» حمّلها – تبعًا لذلك – واجباتٍ غير طبيعية، والإخلالُ بهذه الواجبات يجعل حياتها شقاءً. فكثيرٌ من الرجال تحملهم اعتباراتُ المنزلة أو الثروةُ على ترك الزواج ما لم تقترن به مزايا ساطعة. وعندئذٍ يرغب أحدهم أن يتخذ امرأةً باختياره، في ظلّ شروطٍ أخرى تضمن لها ولأولادها مستقبلًا آمنًا. وحتى لو كانت تلك الشروط عادلةً كلّ العدالة، معقولةً تمام المعقول، موافقةً لطبيعة الحال، وقبلت المرأة بها لأنها لم تُصِرّ على تلك الحقوق المفرطة التي لا يمنحها القانون إلا في الزواج؛ فإنها — لأن الزواج أساس المجتمع المدني — تُوصَم بشيءٍ من فقدان الكرامة، وتُضطر إلى حياةٍ كئيبة، لأن طبيعة الإنسان تجعله يعلّق على رأي الناس وزنًا لا يُناسب قيمته الحقيقية.

وإن هي لم تقبل، فإنها تُعرِّض نفسها لخطرين: إما أن تقع حظًّا لرجل لا تريدُه، وإما أن تذبل عانسًا، فإن أجلها في «سوق الزواج» قصير. وفي هذا الباب من نظام الزواج الأحادي لدينا، فإنّ رسالة تومازيوس De concubinatu  [5] الرصينة جديرة – كلّ الجدارة – بالقراءة؛ إذ يتبيّن فيها أنّ السِّرِّيّة كانت، عند كلّ الأمم المتمدنة وفي كلّ العصور، حتى زمن الإصلاح اللوثري، نظامًا مباحًا، معترفًا به إلى حدّ ما، لا يلحقه عار، ولم يهبط عن تلك الرتبة إلا بالإصلاح اللوثري، الذي رأى في تقويضه وسيلة جديدة لتسويغ زواج رجال الدين؛ فاضطرت الكنيسة الكاثوليكية إلى أن تُسايره في ذلك، فلا تتخلّف عنه.

في الهند لا تُعرَف للمرأة استقلاليةٌ قط؛ فهي في كل أطوار حياتها واقعةٌ تحت وصاية ما تُشرف عليها: إمّا وصاية أبيها، أو زوجها، أو أخيها، أو ابنها. وإن كان إحراقُ الأرملة مع جثمان زوجها أمرًا يهزّ النفس ويمجّه الذوق؛ فإنّ ما تُقدِم عليه بعض الأرامل – بعد أن يطوي الزوجُ عمره في الكدّ والعمل، متسلّيًا بأن جهده ادّخارٌ لأطفاله – من تبديد تلك الثروة مع خُدَنائها وعُشّاقها، هو أيضًا مما يهزّ النفس ويمجّه الذوق. والسعادة – كما قال القدماء – في سلوك الطريق الوسطى.

ولهذا قلنا: ما ينبغي أن تُترَك المرأةُ، بحالٍ من الأحوال، تتصرّف تصرّفًا حرًّا في المال الموروث، من رأس مالٍ، أو منازل، أو ضياع. وقد فصّل أرسطو في كتاب السياسة (الكتاب الثاني، الفصل التاسع) ما جرّ على أهل إسبرطة من البلاء حين فُتِح للنساء بابٌ واسع من الإرث والمهور، وما مُنِحن من انفلاتٍ وسعةِ يدٍ، حتى كان ذلك — في جملة ما كان — سببًا ظاهرًا في سقوط دولة إسبرطة واضمحلال سلطانها.

وهل يُستبعَد أن يكون ما جرى في فرنسا، منذ عهد لويس الثالث عشر، من تنامي نفوذ النساء في البلاط، هو أصل الداء الذي دبّ في عظام الدولة، فكان منه فساد الحكم، وانحطاط الأخلاق، وتمهيد الطريق للثورة الأولى، وما تبعها من جميع الانقلابات ؟

وأما كون المرأة مخلوقةً للطاعة بطبيعتها، فهو أمرٌ يشهد به الواقع وتدلّ عليه التجارب؛ فكل امرأة تُلقى – على غير سجيتها – في حالٍ من الاستقلال التام، لا تلبث أن تتعلّق برجلٍ ما، تستسلم لسلطانه وتستروح إلى قيادته؛ إذ لا غنى لها عن سيد يأخذ بيدها. فإن كانت شابّة، كان ذلك الرجلُ عشيقًا، وإن كانت كبيرة السنّ، كان أبًا للاعتراف تسمع كلمته وتُسَلّم له زمام أمرها.

[1] هو إتيان دو جوي Étienne de Jouy ،( 1764–1846) كاتب ومسرحي فرنسي.
[2] بايرون هو اللورد جورج غوردون بايرون (1788–1824)، Lord George Gordon Byron شاعر بريطاني يعد أبرز أعلام المدرسة الرومنسية في القرن التاسع عشر.
[3] يشير إلى الحزبين الإيطاليين Guelfen und Ghibellinen في الإيطالية Guelfi e Ghibellini، وهما اسمان لفصيلين كبيرين مزّقا إيطاليا في القرون الوسطى، وخصوصًا بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر. الݠيلفيون (Guelfen / Guelfi) أصل اسمهم ألماني Welfen، وكانوا أنصار البابوية، يرون أنّ للبابا السلطة العليا، وكان أغلبهم من التجار والطبقات الوسطى في المدن الكبرى كفلورنسا. أمّا الݠبلينيون (Ghibellinen / Ghibellini) فاسمهم مأخوذ من Waiblingen، وهي قلعة أسرة هوهنشتاوفن الألمانية المؤيّدة للإمبراطورية، وكانوا أنصار الإمبراطور، ومعظمهم من النبلاء والإقطاعيين في شمال إيطاليا. وعلى الرغم من أنّ الصراع بدا دينيًا بين البابا والإمبراطور، إلا أنّ جذوره كانت سياسية واقتصادية وتحالفات مدينية ومنافسات أسرية. وقد بلغ الصراع أشدّه في مدن مثل فلورنسا (ݠيلفية) وسيينا وبيزا (ݠبلينية)، وتداخل حتى مع مصائر الأدباء، مثل دانتي الذي نُفي نتيجة الانقسام الداخلي داخل الݠبلينيين أنفسهم (البيض والسود). ومع تراجع سلطة الإمبراطورية والبابوية في القرن الرابع عشر، خمد الصراع تدريجيًا وتحوّل إلى فصل من التاريخ الإيطالي الوسيط.
[4] شامفور Chamfort هو كاتب ومفكّر فرنسي (1741–1794) اشتهر بحِكَمه اللاذعة وأقواله الساخرة التي تُعدّ من أعمق ما كُتب في النقد الاجتماعي والأخلاقي في فرنسا قبيل الثورة.
[5]  هو عنوان رسالة لاتينية وضعها الفيلسوف والقانوني الألماني كريستيان تومازيوس (Christian Thomasius)، أحد أبرز أعلام الفكر القانوني في أوروبا الحديثة. ومعنى العنوان حرفيًا هو: “في شأن السَّرِّيّة”، أي العلاقة التي تقوم بين رجل وامرأة خارج الزواج الرسمي، ولكنها ليست علاقة عابرة، بل علاقة ثابتة، معروفة، ومعترف بها بدرجات مختلفة في القوانين والعادات القديمة.
تبحث هذه الرسالة في الطبيعة القانونية والاجتماعية لنظام concubinatus  كما عرفته المجتمعات الأوروبية قبل الإصلاح اللوثري. فقد كان هذا النظام ـ عبر قرون طويلة ـ موجودًا في أغلب الأمم المتحضرة، ومقبولًا اجتماعيًا، بل في بعض الأحيان معترفًا به قانونيًا بصفته ترتيبًا يضمن للمرأة نوعًا من الوضع والحقوق، دون أن يُعدّ زواجًا كاملًا. ولم يكن يُنظر إليه على أنه عار أو خطيئة بالضرورة، بل كان يُعدّ بديلًا مشروعًا في الحالات التي يتعذّر فيها الزواج الرسمي.
يشير تومازيوس في رسالته إلى أنّ هذا النظام لم يُعدّ مذمومًا حتى ظهور الإصلاح اللوثري، الذي قاد حملة ضدّ السِّرِّيّة باعتبارها عائقًا أمام تقنين زواج رجال الدين. ومنذ ذلك الحين تراجعت مكانة هذا النظام في الدول الأوروبية، ثم تبعته الكنيسة الكاثوليكية، فلاقت الفكرة قبولًا واسعًا حتى اختفى الاعتراف القانوني بهذه العلاقة. وقد جاء استشهاد شوبنهاور بهذه الرسالة في معرض حديثه عن الزواج الأحادي وما نتج عنه من مشكلات اجتماعية، ولا سيما في المجتمعات التي رُفعت فيها قيمة الزواج القانوني وجُعل الطريق الوحيد المقبول للعلاقة بين الرجل والمرأة، مما أدى ـ في رأيه ـ إلى بقاء عدد كبير من النساء بلا أزواج، وظهور أنماط جديدة من المعاناة الاجتماعية. و تُعد رسالة De concubinatu وثيقة مهمة لدراسة تاريخ الفقه المدني الأوروبي، وتبيّن كيف تغيّر فهم المجتمعات للعلاقات بين الجنسين بتحوّل القوانين الدينية والمدنية، وكيف انتهى نظام كان يومًا ما مشروعًا ومعترفًا به إلى الزوال بفعل التحوّلات الدينية والسياسية.

المصدر
https://aboq.org/schopenhauer/parerga2/weiber.htm

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى