عام

عبقرية ويليام جيمس

  • ستيف تايلور
  • ترجمة: أمين ناجح محمد
  • تحرير: عبد الله الفهد

لاحظتُ خلال سنيني في الكتابة وإلقاء المحاضرات حول علم النفس أنّ هناك ظاهرةً قد تكررت علي، وهي أنّي كلما توصلت إلى فكرة أو نظرية ”جديدة“، أجد في النهاية أن هناك عالِمَ نفس قد سبقني إلى الفكرة وكان دائمًا هو ويليام جيمس.

على الرغم من أنه معروف جدًا باعتباره أحد الآباء المؤسسين لعلم النفس الأمريكي، إلا أن كتابات وليام جيمس ونظرياته لا تتوقف أبدًا عن إدهاشي. وكان من أوائل الكتب التي كتبتها عن إدراك الزمن. كتاب ”صناعة الزمن“، وكنتُ قد طرحت فيه نظرية ”معالجة المعلومات“ للزمن، هذه النظرية تشير إلى أنه كلما زادت المعلومات التي تعالجها عقولنا -أي كلما زادت الإدراكات والأحاسيس والأفكار وما إلى ذلك- أصبح مرور الزمن أبطأ. ولقد جادلت في أن الوقت يبدو أنه يمر ببطء بالنسبة للأطفال لأن العالم جديدٌ عليهم، ولذا فهم يعالجون المزيد من المعلومات الإدراكية. وكنتُ قد اقترحت أن أحد أسباب مرور الوقت بسرعة مع تقدمنا ​​في السن هو أن العالم بالتدريج يصبح واقعًا في نطاق إدراكنا؛ وبالتالي فإننا نعالج عددًا أقل من الانطباعات الجديدة. وكنتُ بذلك قد اعتقدتُ أنني توصلت إلى شيء جديد ولكني سرعان ما اكتشفتُ أن ويليام جيمس قد طرح نظريةً مماثلة. في كتابه: مبادئ علم النفس، ووصف فيه كيفية أنّ إحساس الأطفال ببطء الوقت يرجع إلى حقيقة أنه ”في الأعمار المبكرة، يكون لدينا تجربة جديدة تمامًا، شخصية أو موضوعية، في كل ساعة من اليوم، ولكن مع مرور الأعوام تُحوَّل بعض هذه التجارب إلي روتين تلقائي، بالكاد نستطيع ملاحظته، والأيام تخزن نفسها في الذاكرة على هيئة وحدات بلا محتوى، والسنوات تصبح جوفاء وتنهار“.

***

وهناك مجال آخر لطالما اهتممت به وهو مجال سيكولوجية الحرب. ينبع اهتمامي بهذا الموضوع من قراءتي للنصوص الأنثروبولوجية والأثرية التي اقترحتْ أنّ الحرب أصبحت منتشرة فقط في الأزمنة الحديثة (أي منذ حوالي 6000 عام) وأنه في عصور ما قبل التاريخ، لم يكن الصراع الجماعي شائعًا شيوعًا كبيرًا. وقد قادني هذا إلى الاعتقاد بأنّ الحرب كانت في الأساس ظاهرةً نفسية، وليست متجذرة في علم الأحياء البشري أو التطور. ومرة أخرى، سرعان ما وجدت أن ويليام جيمس قد توصل بالفعل إلى نتيجةٍ مماثلة؛ ففي مقالته الأساسية ”المكافئ الأخلاقي للحرب“ (1910)، اقترح جيمس أن الحرب كانت منتشرةً جدًا بسبب آثارها النفسية الإيجابية، سواءً على الفرد أو على المجتمع بأكمله، فعلى المستوى الاجتماعي، تجلب الحرب إحساسًا بالوحدة في مواجهة التهديد الجماعي، فهي تربط الناس معًا وتشجعهم على التصرف بشكل غير أناني من أجل المصالح العامة. أمّا على المستوى الفردي، فتجعل الناس يشعرون بأنهم على قيد الحياة، وأنهم أكثر انتباهًا ويقظة، وهذا مما يمنحهم معنًى وهدفًا يتجاوز رتابة الحياة اليومية. كما يقول جيمس: ”تبدو الحياة وكأنها ملقاة على مستوى أعلى من القوة“.

وقد قصد جيميس بمصطلح ”المكافئ الأخلاقي للحرب“ أن المجتمعات البشرية بحاجة إلى إيجاد نشاط ٍمكافئ يجلب نفس الفوائد الجماعية والفردية للحرب – دون التسبب في الموت والدمار.

 

فرضية الانتقال الثنائية عن الوعي

لم يكن ويليام جيمس مجرد عالم نفس، بل كان فيلسوفًا أيضًا.

وإحساسي الدائم بأن ”ويليام جيمس وصل قبلي“ حدث مؤخرًا عندما بدأت أيضًا في الكتابة عن القضايا الفلسفية. ففي كتاب العلوم الروحية، اقترحتُ أن أفضل طريقة لفهم الوعي البشري هي التفكير من منظور الوعي العام الشامل الذي يُعد صفةً أساسية للكون (بطريقة مشابهة للخواص الأساسية الأخرى الموجودة في الكون مثل الجاذبية أو الكتلة). وقد اقترحتُ أن يصبح الوعي الأساسي واضحًا في أشكال الحياة الفردية كوعينا الشخصي عبر الدماغ البشري، فالدماغ يودّي دور الاستقبال ونقل الوعي الأساسي إلى كياننا الفردي فقط.

ولم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن أكتشف أن ويليام جيمس طرح نظرية مشابهة جدًا. في مقال بعنوان ”حول خلود الإنسان“، عام 1898، وكان وليام جيمس قد اقترح فيه أن العقل أو الإدراك أو الوعي العقلي هو نتيجة الحقيقة الجوهرية للكون التي تنتقل عبر ”محطة الاستقبال“ في الدماغ. وجيمس لا يحاول وصف طبيعة هذه الحقيقة الجوهرية، إلا من خلال الاستعارات مثل: مرور الهواء عبر أنابيب أحد الأعضاء، أو على هيئة ضوء غير مرئي، أو على هيئة ”إشعاع أبيض“. لكن جيمس يوضّح أن الوعي البشري هو تدفق لهذا الشيء الأساسي في الوجود. يقول: إنّ ”مجال وجودنا“ الخاص بنا هو من نفس طبيعة ”ذلك العالم الجوهري الواقعي“.

 

ويليام جيمس وعلم ما بعد المادية

في الآونة الأخيرة، تبنّى العديد من علماء النفس منظورًا ماديًا يرى العقل البشري (بما في ذلك الوعي) على أنّه مجرّد ظل للدماغ، أي أنه ظاهرة ثانوية ناتجة عن تفاعلات الجسيمات المادية فقط. ويشكك هذا المنظور المادي في الحالات غير العادية للوعي مثل التجارب الروحية، والتي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها حالات وهمية ناتجة عن نشاط الدماغ الشاذ. هناك أيضًا شكوك تجاه الظواهر الباراسيكولوجية مثل التخاطر عن بعد والإدراك المسبق للأشياء، والتي يُنظر إليها عادة على أنها مستحيلة بسبب انتهاكها المزعوم لقوانين العلم.

ومن عبقريّة ويليام جيمس: هو أنّه حتى قبل أن تصبح المادية مهيمنة باعتبارها نموذجًا فكريًا، كان جيمس قادرًا على رؤية حدودها. كان متقبّلًا لإمكانية وجود الظواهر الباراسيكولوجية، وإمكانية وجود شكل من أشكال الحياة بعد الموت. وفي عمله العظيم “أنواع مختلفة من التجارب الدينية“، رأى ويليام جيمس التجارب الدينية الروحية -التي يتوسع فيها وعي الشخص ويتكثف- على أنها ”نافذة ينظر من خلالها العقل إلى عالم أكثر اتساعًا وشمولية“.

لقد شعر أنّ الوعي البشري الطبيعي مقيّد؛ فلا يمكن الاعتماد على نظرته التقليدية للواقع، تمامًا كما تكون الصور غير جيّدة عندما تُلتقط بالكاميرات المعيبة.

وقد ذكر جيمس أنّه يجب ألا ”نغلق حساباتنا“ مع الواقع كما يفعل الماديون الآن؛ حتى نتحرى حالات الوعي المختلفة، ونعترف بطبيعة الواقع الذي تقدمه هذه التجارب الروحية.

ربما هذا هو السبب الذي جعل جيمس يبدو شخصيةً معاصرة.

وقد كانت حركة العلوم ما بعد المادية إحدى أكثر التطورات إثارةً في السنوات القليلة الماضية، وهي التي أسسها مجموعة من العلماء -منهم ماريو بيوريجارد وليزا ميلر وجاري شوارتز- وهم يعتقدون أن افتراضات العلم المادي التقليدي ليست صحيحة.

وقد طرح ما بعد الماديين منظورًا بديلًا، يقترحون به أن العقل أو الوعي لا يُشتق من المادة، بل هو جانب أساسي من الكون، وأن ”هناك ترابطًا عميقًا بين العقل والعالم المادي“، وبهذا المعنى يمكن بسهولة اعتبار ويليام جيمس القديس الراعي لعلم ما بعد المادية.

كان عمل جيمس واسع النطاق لدرجة أنني لم أتطرق إلا إلى جزءٍ صغير من نظرياته هنا. وأنا متأكد من أن هناك كثيرًا من علماء النفس والفلاسفة الآخرين الذين وجدوا أن أفكارهم ونظرياتهم قد سبقهم وليام جيمس في التنبؤ بها في مرحلة ما، فكل من يسير على خطاه لا بد أن يجد أنّه يستكشف المناطق التي رسمها جيمس منذ أكثر من قرن.

وهذا العقل الخارق، إلى جانب انفتاحه على وجهات النظر غير المادية، يمثلان العبقرية الحقيقية لـ ويليام جيمس.

المصدر
psychologytoday

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى