- منصور الحذيفي
قالوا: بعض الكلام لا يحتاج للفهم.. يحتاج للإحساس.
وأنتَ أيها القارئ الكريم لو دقّقتَ: ما أكثر من يفهمك، وما أقل من يحس بك!
كم مرة قرأتَ أو سمعتَ كلاما فانتشيتَ طربًا حتى إذا ذهبتَ تقرؤه للآخرين لم تجد على ملامحهم وفي عيونهم تلك البهجة التي أثارها بداخلك؟
إنه لامسَ فيك إحساسًا لم يوجد في نفوسهم.. كما يحدث أحيانا أن تكون في رفقةٍ من عائلتك أو أصدقائك فيأسرك منظر الغروب، أو تشجيك حمامةٌ بهديلها، أو يأخذك تكسّرُ الأمواج على صخور الشاطئ بعيدًا عن رفقائك.
وهنا تكمن صلة الإحساس بموضوع الفن.. فالفن في أعمق معانيه: هو التجربة الخاصة معروضةً في شكلٍ جماليٍّ أخّاذ.. وهو الإحساس المنبثق من أعماق نفسك، واللحن الذي قد تجد له أسماعًا وقد لا تجد، المهم أن تشدو به لأنه يمثلك أنت! لأنه النبرة التي تتميز بها في هذا الوجود!
وأنت ترى أحدنا يستمع ويقرأ لمتحدّث أو كاتب باهتمام لا بأس به، وقد يعزبُ ذهنه بعيدا في بعض الأحيان، حتى إذا تحدّث ذلك المتحدث أوالكاتب عن تجربته هو وما رأى وما سمع وما أحس به- أرعاه المتلقّي سمعه وبصره، واستمع واستمتع بكل كلمةٍ يقولها.. إن المعلومات متاحة للجميع، لكن التجربة هي الإضافة.. هي التطبيق المثري لمعلوماتنا وخبراتنا.
إن كل ما يحاول الكاتب (الفنان) فعله بكتابته هو أن يُلبس المعنى الشارد ثوبَ جُملِه ومجازاته الخاصة.. أن يُبرزه للآخرين ممتزجًا بروحه هو، فالمعنى موجود قبل أن يوجد الكاتب، لكن الكاتب يبين صلتَه هو به، وصورةَ تجلّيه في نفسه.
يقول الروائي والرسام الياباني ناتسومي سوسيكي في روايته (وسادة من عشب):
“فإذا كانت زهرة ما في لوحة تبدو زهرة، وإذا كان الماء يبدو ماء، والشخصيات البشرية تسلك فيها سلوك البشر، فإن الناس يعتبرون أن مهمة إنجاز اللوحة قد اكتملت. إلا أن من شأن فنانٍ أعظمَ أن يضفي مشاعره الذاتية على تصويره الظاهرة ويجعلها تنبض بالحياة على قماش اللوحة. وسيسعى مثل هذا الفنان إلى أن يسبغ على الموضوع الذي يتناوله إلهامه الخاص، ولن يشعر أنه قد خلق لوحةً إلا إذا تجلّت رؤيته الخاصة لعالم الظاهرة في كل ضربة من ضربات فرشاته في أثناء الرسم. إنه لن يغامر بنسبة اللوحة لنفسه إن لم يشعر أنه قد رأى فيها شيئا معينا بطريقة خاصة، أو أحسّ نحوها شعورا خاصا، فعبّر عن هذه الطريقة الخاصة في الرؤية والشعور، مع كل الاحترام الواجب لأساتذة الفن من سابقيه، ومستمدا العزيمة من الأساطير القديمة بينا هو يبدع عملا في غاية الصدق والجمال معا“.
كان ليوناردو دافنشي يقول لتلاميذه:
“اسمعوا صوت هذا الجرس، ليس هناك سوى جرس واحد فقط، لكنّ الصوت الذي يسمعه كل واحد منكم مختلف“.
وقد قيل في هذا المعنى: “ليس هناك شيء عادي أبداً، كل ما يحدث في هذا الكون يحدث للمرة الأولى والأخيرة”..”إنك لن تستحمّ في نفس النهر مرتين! كل شيء يتغير!”.
وبنحو هذه الفكرة عن الفرادة وتميّزِ كل حدثٍ في هذه الحياة عن أمثاله كانت رؤية الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود -رحمه الله- في (معنى الفن) بصفته تصويرا للحياة، رؤية طرحها في غير كتاب من كتبه، منها كتابه (قصة عقل)، فبعد أن ذكر هذا السؤال: ماذا أفهم من كلمة «فن»؟ قال:
“أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فحانت مني التفاتة إلى نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابًا يرفّ بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدُّج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها، ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهَوَتْ إلى الأرض هويًّا بطيئًا … هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة: أنا والغراب والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بجلدي وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها). أما أنا فبديهي أنني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي، في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن يلحقها قط إلى مماتي لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه…”
ثم يقول:
“مقياس الفن – بل معنى «الفن» – هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا، لو قلت كلامًا يصور حقيقة عامة تنطبق على هذا وذلك، فقولك بعيد عن الفن الرفيع“.
وهنا تتطابق رؤية الدكتور زكي نجيب محمود في معنى الفن مع ما نقلته أعلاه عن الروائي الياباني ناتسومي سوسيكي.
ويقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في كتابه (فصول في الثقافة والأدب) عن التفريق بين معنى العلم والفن:
“العلم والفن يختلفان غايةً وطريقًا ووسيلة، فالعلم غايته الحقيقة، وطريقه المحاكمة، ووسيلته الفكر. والفن غايته الجمال، وطريقه الشعور، ووسيلته الذوق“.
وما هذه الحياة التي يعيشها الإنسان من لدن مولده إلى وفاته؟ أليست تجربةً خاصة وعاها بحواسِّه، وعاشها بروحه وجسده، وتذوّقَ شتّى أحوالها وتقلباتها.. جاءها وحيدًا ويغادرها وحيدًا مهما تحلّقَ الناس من حوله عند قدومه ومغادرته؟!
وكما تتذوق طعامًا فتلتذّ به كل الالتذاذ، وتتذوق آخر فتنفر منه أشد النفور أنت تتذوق الأشخاص والأماكن والكتب والصور والمشاهد الطبيعية.. والذوق في خلقه وتمايزه بين الناس سرٌّ من أسرار النفس البشرية، وآيةٌ عظمى على قدرة الخلّاق العليم.
يقول الدكتور فريد الأنصاري -رحمه الله- عن الذوق “إنه لا ينوب فيه أحدٌ عن أحد!”.
كما عبّرَ يومًا عن الذوق بموقفٍ حصل له مع أكمه -وهو الذي وُلِد أعمى- حين سأله ذلك الأكمه أن يصف له منظر الفجر.. يقول الدكتور: إنه وقع في حرجٍ شديد، كيف يصف للأكمه تجلّيات ذلك المشهد البديع الآسر، كيف يصف تلك الزرقة المهيبة، وخيط الضوء الرقيق الذي يتّسع ويتّسع حتى يعمّ الأفق.. وحتى لو أوتي القدرة على تجلية كل ذلك للأكمه، فأنّى له أن يصف تجلّياته في النفس، وتلك الأحاسيس المتدفقة في أغوارها، وظلال المعاني الناشئة عن جلال المشهد وفرادته!
لذلك؛ أنت أيها الإنسان وحدكَ عالَمٌ من الغموض والمشاعر الخاصة.. وجزءٌ كبيرٌ من مهمة الفنان (رسامًا كان أو كاتبًا أو شاعرًا) هو أن يعبّرَ عن ذاته، فتجد صداك في كلماته، وكلما اقترب تذوقه للحدث من تذوقك كان أكثر تعبيرًا عنك، وقربًا منك.. وإذا ظفرتَ بواحدٍ يحس بك فهنيئا لك.. فما أكثر من يفهمك! وما أقل من يحسّ بك!